بين الرسام والروائي تقاطعات جماليّة

قراءة في كتاب “الرسام والروائي الصورة وإنتاج الأثر”

 للناقد الأكاديمي المغربيّ شرف الدين مجدولين

بيروت من ليندا نصار

يمثّل الناقد والأكاديمي شرف الدين مجدولين المختص في نظريات الصورة والسرديات البصرية، والجماليات، بالمعهد الوطني للفنون الجميلة في جامعة عبد المالك السعدي في تطوان المغرب، تجربة فريدة في النقد الفني والأدبي، وهو الذي كتب أكثر من ثمانية كتب في هذا المجال تمكّن من خلالها الغوص إلى أعماق الفنّ والنقد والأدب والإحاطة بهذا النوع من الأعمال.

يطالعنا الباحث مجدولين في هذا الكتاب النقدي الصادر عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع الدار البيضاء بيروت، ببحث مطوّل مبنيّ على الأسس العلمية الموضوعية، وتتألّف هذه الدراسة من جزء نظري يجتمع مع جزء تطبيقي لتكوين مواضيع يتناول فيها أسماء روائيين وفنانين ورسامين عالميين إذ تجده يكتب ويدقّق ويكتشف ويبحث ويوثّق الأفكار المطروحة، ما يظهر ثراء تجربة الناقد وخبرته الواسعة في هذا المجال من خلال تنوّع طرق البحث وطرح الأمثلة والنماذج وملاحق الصور واللوحات لنقّاد وأدباء وتشكيليين مختصين، مشتغلًا على المقارنة بين الرسام والروائي بوصفها تجربة الائتلاف والاختلاف منتقلًا إلى العمل على إنتاج الأثر، ويتلاءم غلاف الكتاب للفنانة هيلدا حياري مع المواضيع المطروحة وتعبيرًا عن تجربة البحث.

في لمحة سريعة عن الكتاب على الغلاف الخلفيّ ورد : “يسعى الرسام في لوحاته لأن يقدم حكاية، تلتقط العين تفاصيلها، وتعيد صياغتها، لتكسبها معنى، في حدود ‏السند وبالنظر إلى مادته، وما تتشكل عبره من ألوان وضياء وظلال، هي تعبير عن “فكرة” وتشكيل لـ: ‏‏”موضوع”، وإنحياز لـ: “أسلوب”، يقدم للناظر؛ مثلما أن الروائي يتشوف عبر مكونات نصه المكتوب إلى ‏أن يرسم شخصيات ويصور فضاءات، وأزمنة ومواقف وعواطف وأفكار، وأن يشكل لوحات لفظية… ‏ ‎

ثمة في النهاية معجم مشترك بين الروائي والرسام يمتد من: “الصورة” إلى “إنتاج الأثر”، مروراً بمدونة ‏طافحة بالدلالة تنتظم مفاهيم: “التشكيل” و”الإطار” و”الأسلوب” و”الموضوع” و”الفكرة” و”الذات”، ‏و”الظاهرة” و”المضمر”.‏ ‎

يتألّف الكتاب من إهداء ومقدمة وخمسة فصول تتفرّع منها عدّة عناوين تفصيلية متفرّقة ففي الفصل الأول ينطلق من عنوان التقاطعات التشكيلية بين الرسام والروائي، ليليه الفصل الثاني  بتشكيل التحفة بين الرسام والروائي، وبعده الفصل الثالث بالتصوير الروائي للوحة ومن ثمّ الفصل الرابع الذي يعالج فيه رؤية الرسام والروائي أمّا في الختام

الرسام والروائي

فيعمل على الفصل الخامس حيث يتحدّث عن الروائي والرسام في أصول ولع فني. وقد ألحقت هذه الدراسة بملاحق شاملة وهامّة لصور عن اللوحات الأنموذجية التي تمّ العمل عليها، هذا بالإضافة إلى المصادر والمراجع الغنية التي أثبتت قوّة اطّلاع وثقافة الناقد على الفنون والآداب عبر فترات زمنية قديمة وصولًا إلى عصرنا اليوم.

بالنسبة إليه يعتبر شرف الدين مجدولين أنّ الألوان والأنوار تساعد الرسام في تقديم لوحته بأشكالها وظلالها من خلال العين التي تأخذ التفاصيل، فيعبّر عن فكرته ويقدّمها للناظر تمامًا كما الروائي الذي يرسم شخصياته وفضاءاته والمشاعر بمهارة استخدام الكلمات بوصفها لوحات لفظية، ليبدي المشترك بين الرسام والروائي وهو السعي إلى إنتاج الأثر وتقصّي النتيجة المشتركة، على أنّ الكتابة هي رسم بالكلمات، فيقول كم من لوحات روائية أصبحت خالدة، وكم من لوحة جسّدت معان وحيوات وكأنّها رواية مختصرة ومختذلة بألوان وأضواء.

ويتابع الناقد متحدّثًا عن المشترك بين بيكاسو وأينشتاين مثلًا وكما يقول آرثر ميلر ويبرهن أنّ الاثنين ينتميان إلى مشترك واحد يجعل من العلم والفن الحديثين يتقاطعان بالعبقرية والأمثلة التي يستند إليها في الكتاب كثيرة كبرهان للنظريات المطروحة.

أهم مفاصل الكتاب كما يقول في المقدمة هي التقاطعات بين الرسام والروائي فالإبداع يضعهما في خانة الصداقة والتصوير الروائي للوحة والمصاحبة النصية بين المحكي والمصور ورؤيتهما ويتفرع منهما تشكيل للصور وإنتاج الأثر.

بالنسبة إليه تعيش الرواية بالتداول وتعيش اللوحة بالتحصين فاللوحة تميل إلى الاستقرار بينما جمهور الرواية احتجاجي. ويطرح فكرة من مقال لجون بورجر حيث تتضمن اللوحة مروية أساس.  ويظهر الناقد لجوء الصور الدعائية إلى اللوحات الزيتية لإضافة الفتنة. وينتقل في حديثه عن اقتناء اللوحات الذي لا يتعلق فقط باقتناء الأثر بل

شرف الدين مجدولين

بالوجاهة. أمّا في الروايات الحديثة فيكتشف أنّها تسعى للانتصار للمعنى المتداول وإعادة الاعتبار للفن وتحسين سمعته التي ارتبطت بالماديات.

يدخل الناقد في تفصيل التفصيل ليوضح أنّ العين مرجعية الرسام واللسان مرجعية الروائي، فالعين تكتشف، وناقد الفن لا يحتاج إلى معرفة لغة صاحب اللوحة كي يفهمها للكتابة عن المنحوتات.

في مقارنته يتنبّه إلى أنّ اللوحة والمنحوتة تتجاوزان الحاضر وتتعلقان بالقادم الغامض، بينما الروايات توهمنا بالحاضر وتتعلق بالماضي لأن الحكم والتقييم يحتاجان إلى إلى أصوات وحوار لحكي ما جرى.

نقد الرواية يعد مراجعة وتحليلاً واجتهادًا وابتداع تأويل ونص جديد بينما للوحة أسطر قليلة لترجمة الألوان والتخطيطات …وبالنسبة إليه إنّ هذا التأويل شأن ذاتي يتصل بالفرد. فالتفسيرات والتوصيفات لحقل الثقافة هي التي تعطي معنى للذخائر التشكيلية المعروضة.

ويضيف صاحب هذه الدراسة النقدية أنّ الرواية قد تحولت إلى عتبة للثراء عند كبار الروائيين كما أنّها باتت تشكّل سلعة ودخلت السوق الاستهلاكية. أمّا أحد أسباب بيعها فهو ملء فجوات الحياة اليومية للإنسان الذي بات يعيش مللًا ويشكو من بطء مرور الوقت. أمّا اللوحة أو المنحوتة فهي الادخار وتنويع الأصول المملوكة إلى جانب تزيين القصور وغيرها.

كذلك الصور المصاحبة للروايات عادة ما تقرأ كأعمال توضيحية وهي التبسيط والرهان على تحويل التجريدات إلى ملامح حسيّة كما يقول الناقد إذ أنّها تسهم في تحديد التلقي التصويري، لكنها قد تتحوّل لمجدٍ فانٍ.

وينتقل في حديثه إلى ظاهرة الصداقة الإبداعية بين الرسامين والروائيين، فالرسام قد يكون ناقدًا للروائي وخير مثال على ذلك الفنان رمسيس يونان الذي نقد كتاب الأديب طه حسين فاعتبر أنّه ظلّ رهين المؤسسة الأكاديمية وانغلاقها، مشكّكًا في ثورية هذا الأخير، والتي لا تنسجم مع محافظته وعقلانيته وبعده عن العقائد المتطرفة على حدّ تعبير مجدولين.

ليس عمل الروائي سوى استكمال لعمل الرسام أو تفسير لتحفته أحيانا ولطالما انشغل الروائيون باللوحات العظام كبيكاسو ودافينتشي واللوحات الخالدة التي تحوّلت إلى مرجعيات بصرية، وقد أظهر الناقد هنا عناية اللوحة بتفاصيل الوجه، بينما الرواية بالجسد وتفاصيل أخرى.

ويتابع الناقد هنا الحديث عن تقنية التصوير الروائي للعمل الفني حيث تتحول اللوحات إلى مكوّنات نصية، وتكوّن جمالي  كما في روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فالناقد تطرق في هذا البحث إلى التاريخ أيضًا.

من أوجه المقارنة أيضًا هي المرحلة التي تسبق الشروع في الكتابة لدى الروائي وهي لحظة مشتركة بينه وبين الرسام. إنّها المسودات والتقاط الصور وزيارة الأماكن. فهذه الورشة هي أساس العمل. ويتضح ذلك من خلال اليوميات المنشورة لأدباء عالميين. فيقول بيكاسو أنّه يجب أن يكون  مرسم الروائي مختبرًا مثلًا، وهو يتحدّث عن نقطة البداية التي توهم بالكتابة تمامًا كما هي لدى الرسام. وفي البحث عن المشترك بين رؤية الرسام والروائي أيضًا، يشتغل الناقد على الموضوع الواحد كمشترك بين الاثنين فالرسام والروائي تجمعهما سياقات تاريخية أو ثقافية…

كذلك هناك ولع فني يجمع الاثنين وثمة نماذج توضح العبور من الشعر إلى المسرح أو الرواية أو العبور من اللفظي الى امتدادات البصري. ويذكر الناقد شرف الدين مجدولين هنا عبد اللطيف اللعبي الروائي الرسام المولع بالاشتغال على الأثر من الشعر الى الرواية والمسرح الى تجسيد اللوحات والمنفى والذكريات، كتاباته تعبّر عن ولعه الفني وفي رواياته تصوير للواقع عبر لوحات روائية.

ويعود الناقد إلى هنري ميلر في رواية مدار السرطان باعتبارها علامة نضج ذهني مختلف عن الطفل الذي مثّله ميلر صاحب الرسومات الطفولية ذات المنحى الفطري. هنا يؤكد باموك وميلر أنّ الرسم هو الأصل والرواية هي مصير، من هنا جاء الالتباس في ثنائية الهوية.

تحتمل كلّ صورة أو لوحة عدة تأويلات تعود لنظرة كلّ شخص يتأمّلها، بذلك يمكن الاعتبار أنّ تفسيرها يخضع لتأثيرات لا يمكن تأكيد تأويلها فقد تكون هذه التأويلات مختلفة عما قصده صاحبها أيضًا.

ويعتبر أورهان باموك في كتابه “الروائي الساذج والحساس”، أنّ اللوحة تضع الناظر وجها لوجه مع العالم، بينما الرواية تدعو الناظر إلى تحويل صفحات الكتاب إلى صور في المخيلة، في هذا الكتاب أيضًا يقف الرسام والروائي في موقع يلتقيان فيه من حيث الرؤية ويشتركان في زاوية النظر فيشبه الروائي بالرسامين الصينيين الذين كانوا يقضون أيامًا يستوحون فيها لوحاتهم من المشاهد الطبيعية من أعلى الجبال، فهذه النقطة التي ينطلق منها الرسام حيث تشغيل المخيلة، تتقاطع مع نقطة وهمية يبحث عنها الروائي لينطلق منها في كتابة روايته أيضًا.

ويخصص الناقد جزءًا مهمًّا في اشتغاله بهذه الدراسة على لوحة “لاغرنيكا” لبيكاسو التي شكّلت مصدر إلهام للتشكيل العربي، ويعتبر أنّها قد سكنت ذاكرة الفن لأنها تمثل الألم العاتي وهذه اللوحة التي تغلغلت في الذاكرة العربية. ومثال ذلك كتاب “أثقل من رضوى” لرضوى عاشور، إذ هناك مشهد من مشاهد لوحة “لاغرنيكا” في تصوير ووصف الأحداث الدامية التي حدثت في أحد الشوارع بالقاهرة. هكذا كانت هذه اللوحة قاعدة للرؤية والتخييل لأحداث صارخة دارت في المجتمعات العربية المعاصرة.

العدد 129 / حزيران 2022