تدمير العراق .. هل انتهت المهمة؟

د.ماجد السامرائي

منذ عام 2003 ولحد الآن 2021 في العراق عهد واحد متواصلة حلقات تدميره بداية بواسطة الاحتلال العسكري المتزامن مع ولاية حاكم امريكي مفوض من ادارته بواشنطن سلّم النظام القائم على مواصلة التدمير البنيوي والإنساني لقادة أحزاب تغلّفوا بالغطاء الديني والمذهبي , استكملوا التدمير بإجراءات وقوانين وممارسات أكثر إيلاما لشعب العراق من قسوة الاحتلال .

ليست شاقة الإجابة على سؤال هل انتهت مهمة تدمير العراق , فالوقائع اليومية للسنوات الثمانية عشرة الماضية تجيب عن هذا السؤال . مؤكد لا يمكن حصرها بمقالة أو تقرير حتى الكتب الكثيرة التي صدرت سواء من قبل كتاب وصحفيون أمريكان أو تلك المذكرات البائسة للرؤساء الأمريكان الذين تولوا فترات تنفيذ المهمة لا توفي شعب العراق وشعوب المنطقة والعالم حقها في المعرفة والتبصير وتصحيح حملات التمويه والزيف السياسي والإعلامي.

في هذه السطور نحاول تقديم إطلالة موجزة لما واجهه ويواجهه العراق وشعبه من حملة إبادة وتدمير ممنهجة لم تنته مهمتها بل تضاعفت مخاطرها بعد توغل قوى التدمير في شرايين الحياة العامة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ,رغم هول الكارثة يبدو إن شعب العراق ما زالت جذوره الإنسانية لم تمت لكنها تحتاج الى من يوقظها ويمدها بماء الحياة مجدداً .

العرض السردي لوقائع بدايات مشروع احتلال العراق عسكرياً لا يقدّم الإجابة الكافية لأن المشروع مستمر لحد اللحظة , لكن من المفيد تأشير سياسات وخطط وحقائق  على الأرض لأصحاب المشروع التدميري للعراق من داخل الولايات المتحدة الأمريكية استناداً على ما أسموه فرصة تحقيق مشروع “القرن الأمريكي الجديد ” في العراق وأفغانستان الذي تبلور على يد سكوتر وكولن باول وأريك ادلمان ثم تطور على يد دونالد رامسفيلد وديك تشيني وولفوفيتز أواخر عام 2001 باستغلال ذكي لهجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث وضعت ترتيبات احتلال العراق وبلقنته وفق رامسفيلد بعد ساعات من ذلك الحدث .

هذا لا يعني إن مشروع التدمير ابتدأ بالاجتياح العسكري بل كانت مقدماته في حصار ثلاثة عشر عاماً الذي كان برنامجاً تدميرياً أغمضت جميع المنظمات الإنسانية عيونها عنه ما عدا بعض التصريحات والمواقف الخجولة من خلال التصريحات والمذكرات اللاحقة .

لم تتردد وزير الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت عام 1997 في اجابتها على سؤال الصحفية الأمريكية ليسلي ستال حول مقتل أكثر من نصف مليون طفل عراقي جراء الحصار الأمريكي وهو عدد اكبر من ضحايا قنبلة هيروشيما , هل يستحق الأمر هذا الثمن ؟ أجابت : نعم يستحق هذا الثمن.

قرار النفط مقابل الغذاء الذي وفرّ عشرين مليار دولار لكن سبعة مليارات منها ذهبت الى خدمات للمنظمات الأممية وتعويضات للكويت مما دفع هاليدا منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة الى الاستقالة في موقف انساني حكيم حيث صرّح بأن العقوبات تعني ” الإبادة ” وبعده استقال زميله فان سبونك لذات الموقف النبيل , في وقت توجه الانتقادات الشعبية اليوم الى مسؤولة الممثلية الأممية في بغداد جنين بلاسخارت لأنها تهادن القتلة وتتواصل اللقاءات والاجتماعات معهم في تخل واضح عن وظيفتها الأممية الإنسانية .

 حقق الحصار الذي نظّر له قادة أمريكان بكونه كافياً لتدمير العراق ومجتمعه الكثير من خطوات تدمير البنية التحتية الزراعية والصناعية بعد قتل أكثر من مليوني طفل عراقي بالأمراض , أعقبه الاحتلال العسكري المباشر الذي يعتبر إبادة جماعية ما زالت فصولها مستمرة .

كانت هناك بعض الأصوات المنصفة لشعب العراق من داخل أوربا . الكاتب المسرحي البريطاني الراحل هارولد بنتر الفائز بجائزة نوبل عام 2005 انتقد انكار المؤسسات الحكومات الغربية لمعانة الشعب العراقي ” العراقيون مغيّبون عن اللحظة ولا وجود لموتهم إنهم مجرد فراغ , ولا يسجلون بصفتهم موتى “

من أهم توثيقات تدمير العراق الكتاب المهم الذي صدر عام 2013 تحت عنوان “محو العراق ” الذي ألفه ثلاثة كتاب استراليين ( مايكل ترومان وريتشارد هيل وبول ويلسون  شكلّ توثيقاً لشهادات العراقيين للفترة ما بين 1991 -2010 .حيث تم استخدام خطة لاقتلاع عراق وزرع آخر تحت مصطلح” ابادة المجتمع” الذي استخدمه لأول مرة كيت داوت في كتابه (فهم الشر: دروس من البوسنه ) والذي ينطبق على عراق ما بعد عام 2003 وهي الاسس التي حددها كيت داوت لتحطيم الدولة مستعينا بتجربه يوغسلافيا سابقا التي تحولت الى ست دول لاحقا .. انه السيناريو الذي تم وضعه في مراكز الابحاث الغربيه بعد دراسة لطبيعة المجتمعات التي يراد تمزيقها وتفتيت دولها ,لا يتم تدمير البيوت فحسب بل هيبة المنزل,لا يتم قتل النساء والاطفال فحسب بل المدينة ايضا بطقوسها ومناهج حياتها،لا تتم مهاجمة مجموعة من الناس فحسب، بل تاريخها وذاكرتها الجماعية،لا يتم هدم النظام الاجتماعي فحسب،بل ايضا المجتمع نفسه، يسمى العنف في الحالة الاولى إبادة المنزل وفي الثانية ابادة المدينة، وفي الثالثة الابادة الجماعية،والحالة الرابعة وهو ابادة المجتمع , هذا ماحصل في عراق ما بعد 2003:” حيث تم هدم كل قيم التضامن وعلاقات الجوار والأحياء السكنية والمذاهب وبناء نظام الحواجز المادية والنفسية والدينية، وسيطرة الارتيابية والخوف من الاخر، والأخطر انقلاب المقاييس بحيث يصبح الشاطر ذكيا،والنبيل العفيف غبيا لأنه لا يشارك في الوليمة العامة والنهب ويصبح اللص سوياً، والشريف منحرفاً .. وغيرها من التناقضات التي تقلب منظومه القيم الأخلاقية  والسياسية السوية لصالح نقيضها .

مذكرات رؤساء الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين الذين يتحملون المسؤوليات التاريخية عن مشروع تدمير العراق رغم اختلاف مستويات هذه المسؤولية لا تعفيهم من الحساب التاريخي في مسيرة الشعوب . بعضهم كجورج بوش الإبن المسؤول الخطير عن مشروع تدمير العراق تأسف واعتذر عما حصل بعد الاحتلال والبعض الآخر كأوباما فلسف تسليم العراق لإيران بأنها البلد المؤهل لدور قيادي في المنطقة أفضل من العرب ,أما دونالد ترامب رغم مزاجيته كان واضحاً أكثر من غيره فيما ارتكبته الولايات المتحدة من جريمة تاريخية في احتلالها للعراق .

    كان الاحتلال العسكري 2003 تتويجاً لمرحلة سحق الانسان العراق بتجويعه وتدمير جميع الخدمات المحيطة به . حين انفقت الولايات المتحدة 800 مليار دولار على حربها في العراق كان الهدف هو تدمير هذا البلد من خلال تدمير مرتكزاته الاجتماعية والاقتصادية واقامة نظام سياسي يتعهد بمواصلة المهمة .

فشل المشروع الأمريكي في العراق كان بسبب المقاومة الشعبية العراقية المسلحة التي تمت شيطنتها فيما بعد واعتبرت وفق قاموس الاحتلال الأمريكي إرهاباً , توافقت الأحزاب الحاكمة الحالية مع الأمريكان في هذا التوصيف واستثنت بعض الفصائل ” الشيعية ” من ذلك لأنها شريكة بالحكم الحالي . ولو كانت الادارات الأمريكية خلال أعوام 2010- 2011 جادة في أن ينهض شعب العراق بإدارة حكم ونظام مدني ديمقراطي لما أعطت التفويض للأحزاب ” الإسلامية الشيعية ” ووفرت الفرص المتكافئة أمام جميع الفعاليات الوطنية السياسية لأخذ فرصتها في المسؤولية الوطنية بعد أن تسن دستوراً جديداً حراً من دون احتلال .

اعتقدت قيادة اليمين الأمريكي إنها ستجعل من العراق قاعدة مشروع الشرق الأوسط الجديد , فحرصت ادارة بوش الإبن الممثل الأمين لها إن القوات الأمريكية لا تتمكن من انجاز المهمة لوحدها من دون مشروع ” إدامة ” استراتيجي يتطلب قيام نظام سياسي محلي على قواعد من المحاصصة الطائفية , يستكمل مشروع تدمير العراق .

كانت اللعبة الاستعانة بالنظرية الديمقراطية واستغلالها بعد تشويه جوهرها الحقيقي , عبر انتخابات صورية تؤمن استمرار حكم الأحزاب الطائفية بعد استبعاد القوى الوطنية العراقية غير الطائفية , هذا ما حققه الحاكم بول بريمر رغم انتقاداته اللاذعة للسياسيين الذين سلمهم السلطة في كتابه ” عام قضيته في العراق ” . انسحبت القوات الأمريكية عام 2011 بعد فضائح الإبادات الجماعية أبرزها مثال سجن أبو غريب .

تعهدت الأحزاب التي سلمها بريمر السلطة إنجاز مهمة التدمير عبر خطين الأول مواصلة مسلسل التطهير الطائفي واشاعة الكراهية بين أبناء المجتمع , حيث شهد عام 2006 الموجة الأعلى حين كان يقتل يومياً من المدنيين ما بين 100- 300 على أثر التفجير المُدبر لمرقدي الأمامين العسكريين في سامراء حسب توثيقات منظمات المجتمع المدني المحلية والعالمية , ولن يعيد أرواح الضحايا اعتراف الجنرال الأمريكي باتريوس بأن طهران كانت وراء الجريمة . والخط الثاني عدم السماح بإقامة مشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها التي تدير البلاد تنموياً وبشرياً . بل تركزت الجهود بتدمير جميع المصانع والمزارع والمؤسسات الخدمية وسرقة محتوياتها , وغلق جميع فرص إعادة بنائها واستثمار واردات العراق من النفط لاستيراد المواد الغذائية والصناعية من الجارة إيران .

الهدف التدميري الآخر حرمان العراقيين من الخدمات الصحية في عدم انشاء مستشفيات ومراكز صحية وتدمير مؤسسات التعليم كليّا بعد أن كان العراق مشهوداً له بالمكانة الراقية لمؤسساته التعليمية , وافراغ البلد من كوادره التي تشكل القاعدة الإنسانية للبناء حيث هاجر كبار العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين خوفاً من القتل والاختطاف الذي نال المئات .

 التطور الأخطر الذي واجه العراقيين عسكرته بواسطة المليشيات المسلحة التي استثمرت حرب الثلاث سنوات ضد ” داعش” التي احتلت بتواطئ سياسي معروف من داخل الحكم خمس محافظات عراقية ذات أغلبية سنية . لكي تهيمن هذه المليشيات على جميع مرافق الحياة بالبلد ولا تسمح بأن يعود الى حياته المدنية المستقرة .

السبب الاستراتيجي المانع لعودة العراق الى وضعه الطبيعي هو النفوذ الإيراني الذي نقل تجربته في عسكرة المجتمع وفق موديل الحرس الثوري الى العراق .

برنامج تدمير العراق مستمر , لا أفق واضح لخروجه من هذه المخاطر التي تهدد بفناء العراق وتدمير شعبه . الأمل الوحيد هو ثورة شباب تشرين 2019 في محافظات وسط وجنوبي العراق .

العدد 118 / تموز 2021