تركمان العراق.. لماذا لا ينصفون؟

د.ماجد السامرائي

ليس من قبيل الصدفة أن تضيع قضية التركمان في العراق وسط حالة الاضطراب السياسي القائم، علماً بان مرتكزات النظام السياسي في العراق بعد إزاحة نظام صدام عام 2003 عُرّف بأنه دولة المكونات، وتقدمت القومية الكردية كضلع للمثلث الطائفي الذي رسمته الولايات المتحدة الأمريكية وصاغته للعهد الجديد. واستحوذ الأكراد على مكانة متميزة لا تقاس بغيرها من القوميات غير العربية. وكان من الأجدر لو كانت قسمة »المكونات« المزعومةعادلة لوضعت للتركمان مكانة مرموقة الى جانب الكرد والشيعة والسنة. لكن اللعبة الجائرة حرمتهم حتى في مقاييس التوزيع الطائفي لشراكة الحكم. وتحولوا الى أقلية مظلومة صغيرة ضائعة داخل لعبة الكبار. مع إنهم في مقاييس المعادلة الطائفية يستطيعون خلق المشاكل وفرض المطالب. هناك معطيات تاريخية وجيوسياسية من المهم التذكير بها ضمن الواقع السياسي الحالي لحين تراجع هذه الموجة الطائفية وتتكسر ويعود العراق بلداً مستقراً بهويته الوطنية الشاملة. فلقد حمل التركمان عمقاً تاريخياً هائلاً في أصالتهم العراقية، رغم الصراع الفارسي العثماني على العراق في مراحل مختلفة. ففي عهد دولتهم )السلجوقية عام 1037 م( كانت حربهم ضد الدولة )البويهية( كجزء مما أعتبره المؤرخون علامة من علامات الصراع والنفوذ على العراق من أجل تهديم الدولة العباسية وهي في أوج إزدهارها. وقد تكررمثال الهيمنة بعد عدة سنوات حين أسس التركمان دولة )الخروف الأبيض( التي أزاحها )إسماعيل الصفوي( بعد احتلاله لبغداد

حيدر العبادي
حيدر العبادي

عام )1508 م( وتم إلحاق العراق بالأمبراطورية الفارسية. لقد ساهم التركمان في بناء الدولة )العباسية( فشيدوا )المدرسة المستنصرية( ببغداد و)المنارة الحدباء( في الموصل التي تم هدمها أخيراً في المعركة ضد »داعش«. وكذلك )خان مرجان( ببغداد عام 1358 م. كما شارك التركمان بقوة الى جانب إخوانهم العراقيين في العصر الحديث بثورة )العشرين( ضد الاحتلال الانكليزي في مدينة )تلعفر( التي تعود هذه الأيام للواجهة السياسية كمركز يعكس حالة الصراع الإيراني التركي حولها. وساهموا في تأسيس الجيش العراقي وظهر قادة بواسل من بينهم )خليل زكي ابراهيم باشا ومصطفى راغب باشا( الذي أصبح فيما بعد قائداً للجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948 والقائد العسكري المرموق )غازي الداغستاني( و)عمر علي( وبرز من بينهم شخصيات تاريخية وأدبية نادرة مثل الشاعر)فضولي البغدادي( والعلامة )مصطفى جواد( والشاعر )عبد الوهاب البياتي( وغيرهم كثيرون. يشعر التركمان إنهم تعرضوا للتنكيل والاضطهاد العنصري والشوفيني( فيقولون إنهم تعرضوا لثلاث مجازر في العصر الحديث )مجزرة كركوك على يد الإنكليز عام 1924 ومجزرة كركوك على يد الشيوعيين عام 1959 ومجزرة »آلتون كوبري« عام 1991 على يد نظام صدام حسين(

لدى التركمان في ظل الأزمة السياسية الحالية من أسلحة الضغط كثيرة من بينها موقعهم الجيوسياسي المهم على خط التماس ما بين العرب والأكراد إضافة الى إرتباطهم الديموغرافي بمدينة )كركوك( التي أصبحت اليوم برميل النار الجاهز للانفجار. كان مصدر هذا التسويف والتضييع مقصوداً لأسباب وعوامل سياسية فئوية طائفية، أهمها لكي لا تصغر حصص الشراكة وتوزع الى أربعة أقسام، والسبب المهم الآخر هو لكي يبقى التسيد للأحزاب الطائفية المعنونة »بالإسلام السياسي« وفق وهم مفاده إن حضور التركمان سيضعف اللعبة لأن قياداتهم السياسية التي كان لها دور معروف داخل المعارضة العراقية الخارجية قبل عام 2003 لم يعرف عنها مواقف عنصرية متشنجة أو )دينية إسلامية( بل كانت دعواتهم منسجمة مع التيار الوطني العراقي الليبرالي لقيام عراق ديمقراطي تعددي يقوده نظام مدني يعزز المواطنة العراقية. والعامل الآخر هو إن القيادات »الشيعية« التي هيمنت على الحكم ظلت تغازل القيادات التركمانية بأن حقوقهم محفوظة وفق الدستور كمكون »رابع« من مكونات العراق بعد السنة والأكراد والشيعة، لكنهم ظلموا حين تقدمت »الطائفية السياسية« وجرت عمليات تفكيكهم وتوزيعهم على قالبي السنة والشيعة. فالتركماني الشيعي عليه أن ينقاد ويوالي الزعامات والأحزاب الشيعية، والسني عليه أن يذهب الى القيادات السنية التي إنشغلت في هموم حصصها وشراكتها التي ظلت مهزوزة ومهزومة خلال عمر العملية السياسية. ولعل هذه من أبرز مساوئ المحاصصة الطائفية، فلو أسس النظام السياسي على أساس المواطنة والهوية الوطنية والمساواة في الحقوق والواجبات لما ظهرت مثل هذه المشكلة السياسية الى جانب المشاكل الأخرى. لقد استحق المكون التركماني كغيره من أبناء الشعب العراقي مكانته اللائقة في عراق وصف بأنه ديمقراطي.وأمام حالة الهيمنة السياسية الطائفية تراكمت مشكلات )التركمان( ولم يتمكن ممثلوهم الذين ارتضوا بحصصهم الصغيرة المقررة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية أن يرفعوا صوتهم بقوة ويطالبوا بتغيير المعادلة الظالمة أمام الأصوات النافذة والمدوية. حتى يبدو من يريد إلقاء الضوء على قضيتهم الحساسة وفي هذه الظروف وكأنه يغرّد خارج السرب، أو يحاول تخفيف حدة الأضواء على العقد الرئيسية في مشكلة العراق السياسية. رغم إن الأحداث الراهنة ومتطلبات الإصلاح السياسي لما بعد »داعش« تتطلب الاهتمام بمكانة )التركمان( ومسؤولياتهم كقطاع عراقي مهم له دوره في مقدمات التحول المطلوب. لقد أدت عملية »الدمج الطائفي« داخل الجناحين السني والشيعي، الى تضييق الخيارات أمام القيادات التركمانية الوطنية فلجأوا الى الخارج )التركي( لإعتبارات قومية وسياسية رغم هواجس الخوف من إتهامهم بالولاء لتركيا، التي لا تتمتع بعلاقات إيجابية مع جارها العراقي. إن الظروف الحالية وخصوصاً قضية )كركوك( التي تحاول قيادة )البرزاني( ضمها الى الدولة الكردية المستقلة المقبلة تجعل من المهم إعادة الإعتبار الى التركمان فعلياً، وليس كما يحصل حالياً، وقد أعلنوا اخيراً من خلال قيادتهم )الجبهة التركمانية(رفضهم إستفتاء كركوك. هذه الوقائع التاريخية تعطي المكانة التاريخية والسياسية للتركمان في بناء العراق الحاضر. ولا توجد هناك مبررات لتصغيرهم في الحياة السياسية العراقية الجديدة. وستظهر »العقدة التركمانية( بقوة خلال الأيام المقبلة حين يسشتد الصراع الإقليمي حول )تلعفر التركمانية( في الشمال الشرقي من الموصل التي في طريقها للتحرر من »داعش« وتحوم حولها حكايات الصراع الطائفي والقومي الداخلي والإقليمي. فقد أطلقت )تركيا( تصريحات كثيرة تتحدث حول مخاوفها من تحويل »تلعفر! الى قاعدة متقدمة تخدم المصالح الإيرانية وتحويلها الى قاعدة للخط الاستراتيجي الممتد من طهران عبر العراق الى سوريا ولبنان حسبما نشرته التقارير الصحفية الأمريكية الأخيرة، الى جانب وضع )سنجار( التي يهيمن عليها الأكراد وحزب العمال الكردي المهدد للأمن القومي التركي. لقد تعرض أهل )تلعفر( كما باقي مدن نينوى الى عمليات وحشية من »داعش« في القتل والبطش والتدمير للمنازل دون تمييز بين شيعي وسني أو يزيدي. ولعل تحرير )تلعفر( من قبل القوات العسكرية العراقية قبل )الحويجة( في كركوك وبمعاونة التحالف الدولي والمطلوب من رئيس الحكومة القائد العام للقوات المسلحة )العبادي( الانتباه الى ما بعد تحرير )تلعفر( وألا تتفجر فيها المشكلات الطائفية بين »السنة والشيعة«. فأهلها من التركمان يستحقون كإخوانهم أهل الموصل الرعاية الاستثنائية، ومن المتوقع أن تدخل هذه المدينة إذا لم يحسم وضعها لما بعد »داعش« كما المدن والمناطق الأخرى التي سيطرت عليها قوات »البيشمركة وبينها مدن )تركمانية( في المفاوضات المقبلة مع قيادة )البرزاني(. وإذا ما بقيت الأزمة السياسية في العراق تدور في إطار تجديد »الطائفية السياسية« فستبقى قضية »التركمان« واحدة من النقاط الملتهبة والعاصفة بالمشاكل. ولهذا فإن الحل الوطني بالتخلي عن المشروع الطائفي سينقذ التركمان والسنة وكذلك الشيعة، ويؤسس لنظام سياسي مدني يعزز الهوية الوطنية في العراق

حيدر العبادي… المطلوب منه التنبه لما بعد تحرير »تلعفر«