تريزا ماي والبريكست.. وقضية الديموقراطية

انقسامات تولد أزمة طاحنة..وخيط رفيع بين ان تتفاقم أوأن تنطفئ

أمين الغفاري

تواجه كل من بريطانيا وفرنسا أزمة، وان كانت لكل أزمة خصوصيتها، الا انهما يتفقان في أن كل منهما ذات جذور، فهي ليست أزمات طارئة، وان كانت لاتعفي أيا من نظامهما من بعض المسؤولية.

في بريطانيا

تقف رئيسة الوزراء تريزا ماي وسط دوامة عنيفة تتجاذبها من أكثر من طرف، بعضها شخصي وآخر موضوعي، فهي من ناحية تواجه أخطارا تهدد مستقبلها السياسي كخطر سحب الثقة وهي رغم تصريحها بأنها لن تقود حزبها في الانتخابات القادمة، بمعنى انها ستتوارى، مما يشي انها تطلب فقط اعطائها فرصة اخيرة، وهي فرصة لن تطول، فهي لاترغب في أن تقال من منصبها، كما تدرك أيضا انها ان كانت قد نجت من خلال عملية التصويت من حجب الثقة عنها، الا أنها لم تكن سوى مشكلة ماثلة امامها، ولكنها بالتأكيد لا تشكل الخطر الوحيد في طريق ادارتها، واستمرارها، فان مشكلة الخروج من الاتحاد الاوروبي وأثقالها وبما يمكن ان يترتب عليها مازالت تتفاعل في الأوساط السياسية بين مختلف الأحزاب، وان عملية الأنقسام حول الخروج من عدمه، لم تعد قاصرة على الأحزاب، وحركة صراعها على الحكم، كما يمكن ان يفسر في ذلك التجاذب بين القطبين الرئيسيين حزبي المحافظين والعمال، وكما يبدو في موقف توني بلير رئيس الوزراء الأسبق وقطب حزب العمال الشهير، واتهام تيريزا ماي له بمحاولة »نسف« بريكست عبر الدعوة إلى اجراء استفتاء ثان أثناء زيارته لبروكسل، وذلك كما نقلت عنها وكالة الصحافة الفرنسية، واستطردت قائلة )لانستطيع أن نتخلى عن المسؤولية تجاه ذلك القرار(، ورد بلير على كلام تيريزا ماي قائلا إن »الأمر غير المسؤول هو محاولة إقناع النواب عنوة بالموافقة على اتفاق يعتبرونه صراحة قرارا سيئا، عبر التهديد بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق«. وجاء رد بلير في تغريدة على حساب مؤسسة توني بلير للتحليل التابعة له.ماي تؤكد من جانبها أنها تسعى للتوصل إلى اتفاق جيد للمملكة المتحدة. وهي قد توصلت بالفعل إلى هذا الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بعد مضي 17 شهرا من المفاوضات

تريزا ماي رئيسة الوزراء
هل تطمع في ارث السيدة تاتشر باعتبارها حديدية ؟

الصعبة، ومع ذلك فهي لا تزال ترغب في الحصول على »ضمانات« لإقناع النواب البريطانيين بالموافقة على هذا الاتفاق. وقالت ماي: »لم أتخلف أبدا عن القيام بواجباتي؛ أي العمل على التقيد بنتيجة الاستفتاء« الذي أجري في يونيو )حزيران( 2016، وصوّت خلاله 52 في المائة من البريطانيين، وكانوا مع خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. وقد سبق أن كررت ماي قبل ذلك القول مرارا إنها ترفض إجراء استفتاءٍ ثانٍ حول »بريكست«، الأمر الذي تدعو إليه أحزاب معارضة، وقسم من حزب العمال، وكذلك بعض الشخصيات المستقلة.. تقول مارغريت باكيت العضو في البرلمان عن حزب العمال المعارض: »التصويت العام الجديد سيكون مختلفا عن استفتاء عام 2016، لأننا نعرف الآن المزيد حول معنى بريكست«.ثم أضافت: »أي جهد لفرض بريكست بدون غالبية كبيرة وبدون التحقق من الإجماع المستمر للشعب البريطاني، سيزيد فقط من الانقسامات«. في نفس الوقت يؤيد العشرات من أعضاء البرلمان من جميع الأحزاب الرئيسية إجراء استفتاء ثان، وكذلك رئيسا الحكومة السابقين جون ميجور وبالطبع توني بلير.وقد قامت ماي بتأجيل تصويتا حاسما للنواب على مسودة اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى الشهر المقبل، تاركة المشهد السياسي في حالة من الغموض.

وإن لم يتمكن البرلمان من إقرار الاتفاق، فإن بريطانيا سوف تخرج بأية حال من الاتحاد الأوروبي، وهو احتمال يحذر الخبراء من أنه قد يؤدي إلى حدوث اضطرابات تجارية خطيرة وأزمة مالية.

إلا أن وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، وهو أحد أبرز المنادين بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، اعتبر أن أي شخص يفكر في إجراء استفتاء ثان هو »مجنون، وكتب الشهر الماضي في مقالته الأسبوعية في صحيفة )ديلي تلجراف( ان استفتاء ثان سيثير مشاعر فورية وعميقة بالخيانة لا يمكن إزالتها أبدا«.الا أن بلير المعارض ل)البريكست( يعتبر أنه )لاالشعب، ولا البرلمان مستعدان للتوحد وراء اتفاق »رئيسة الحكومة«.هكذا فان القضية لم تعد فقط أحزاب المعارضة، بمافيها بالطبع كتلة من حزب العمال بألأضافة إلى مجموعة من الشخصيات المستقلة، وانما الأخطر من ذلك هو الصوت الذي ربما يتمدد ويتنامى من داخل حزب المحافظين ذاته.توضح صحيفة »الإندبندنت« أن القياس الأمثل لأثر »بريكست« على الاقتصاد البريطاني يكمن فى مقارنة بريطانيا بغيرها من الدول السبع الصناعية الكبري، مشيرة إلى أن المملكة المتحدة كانت تحقق معدل نمو 2، وقت إجراء استفتاء الخروج، ولكن هذه النسبة انخفضت إلى 14 فقط خلال الربع الأخير من العام الماضي، وذلك فى الوقت الذى تصاعدت فيه معدلات نمو باقى الدول السبع، ويتوقع مكتب مسؤولية الموازنة البريطانى أنه بحلول 2019، سينخفض معدل النمو إلى 13، ليكون بذلك في أدنى معدل نمو يحققه الاقتصاد البريطانى منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008.ان عملية الانقسام في الرأي أزاء تلك القضية أصبحت بالغة العمق ولايبدو على السطح منها الا القليل، والحلول لاتبدو في الافق جاهزة. لعلنا لازلنا نتذكر استقالة رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون عقب الأستفتاء الذي أجراه على الخروج من الاتحاد، وقد أقر به، ونتذكر أيضا انه قد قدم

السيدة الحديدية مرجريت تاتشر
خرجت بعد انقلاب حزبها..باكية

استقالته، وهو يجفف دموعه بعد ان فاجأته عملية الأستفتاء بنتيجتها، وقال »رغم الاستفتاء فانني مازلت ارى ان بريطانيا داخل الاتحاد تكون اكثر أمنا« وجاءت تيريزا ماي، والمهمة الرئيسية التي كانت تنتظرها تكاد تتلخص في تنظيم عملية الخروج من الأتحاد أو بمعنى آخر تنفيذ نتيجة عملية الاستفتاء الشعبي، باعتباره التزاما واجب التنفيذ، وأن كان الهبوط المياشر للجنيه أثر ظهور نتائج الاستفتاء يعد مؤشرا سلبيا لتلك النتيجة، ولازالت موجة الرفض للخروج تتزايد.السؤال أنه وفق القواعد الديموقراطية البحته، الا يحتم الأمر حين يحدث انقسام حول قضية من القضايا بهذا الشكل حتى وان كان قد جرى استفتاء سابق بشأنها قبل ذلك أن يعود الجميع مرة أخرى إلى كلمة الشعب، وأن يجرى أمام أبنائه طرح كل ماترتب على الأستفتاء السابق من نتائج، وكشفت عنه تلك الأجراءات، وأن يمتثل الجميع بعد ذلك للكلمة الأخيرة التي يسفر عنها الأستفتاء الجديد.ان وزير الخارجية جيرمي هانت يطرح تحفظا جديدا بالقول إلى صحيفة )صنداي تايمز( ان هناك ايضا انقسامات محتملة في حال اجراء استفتاء ثان، كما ذكر ايضا زميله في الوزارة داميان هايمز وزير التعليم )ان الحكومة لاتخطط لأجراء استفتاء ثان على الخروج من الأتحاد الأوروبي، ونفى أن تكون هناك أخبار أخرى تم تداولها حول ذلك الشأن.

الخروج رغم كل العواقب

هناك تصميم من جانب الحكومة على المضي قدما على الالتزام بنتيجة ذلك الاستفتاء، رغم كل المعوقات والتحذيرات، وكأن الديموقراطية رجل قد أصيب بتصلب في عنقه، فلم يعد ينظر سوى في اتجاه واحد دون النظر إلى المخاطر الأخرى التي تكشفت على جوانب الطريق، ومفاجآته. كثير من الباحثين يطرحون تداعيات قادمة تحمل في طياتها المزيد من الخسائرعلى قرار الانسحاب منها أن نحو ثلاثين بنكا ومؤسسة مالية أعلنت عن انتقالها إلى مدينة فرانكفورت الالمانية وهو ما سيسفر عن خسائر مالية تتراوح قيمتها بين 750 إلى 800 مليار

يورو.وفي تقديرات منسوبه إلى البنك المركزي البريطاني بأن نحو خمسة آلاف وظيفة على الاقل سوف تخسرها بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد، بالأضافة إلى تقدير آخر بأن الخسارة سوف تمتد إلى نحو 10 آلآف وظيفة بحلول عام 2022، وذلك بعد انتقال المؤسسات المالية العالمية منها. دخلت الأمم المتحدة بدورها في الموضوع من خلال تقرير صدر عنها ينذر بالعواقب التي ستترتب على )البريكست( بشأن الطبقات الفقيرة في بريطانيا. ان خمس السكان في المملكة المتحدة اي نحو 14 مليون نسمة يعيشون في المستويات الفقيرة، ، وتقدر ان مستوى

ديفيد كاميرون
بعد الاستفتاء مازلت ارى ان بريطانيا داخل الاتحاد أكثر أمنا

المعيشة سوف يزداد انحدارا أزاء تلك الشريحة من السكان عقب الخروج من الاتحاد الاوروبي.يكشف التقرير كذلك ان بريطانيا لن تحصل عقب »البريكست« على تمويلات تنمية اجتماعية من الاتحاد الاوروبي، وهي تمويلات لعبت دورا في تخفيف المعاناة في الكثير من هذه التجمعات السكانية خصوصا المهمشة منها في منتصف العام الماضي.

على الجانب الاوروبي

كانت كل التحليلات وأدوات الرصد وفق الكثير من استطلاعات الراي، تكاد تجمع ان اندماج شعوب الاتحاد الأوروبي في الاطار الأقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي سوف يوفر لها قدرا كبيرا من الحفاظ على الأمن والاستقرار ويدفع بعمليات التنمية إلى الامام، وما يترتب عليه من توفر الظروف لبناء الرخاء والازدهار في القارة الأوروبية، وسوف يوفر الأتحاد صعود هذا التجمع الأوروبي على المستوى العالمي لينافس القوة الاوحد الولايات المتحدة، وأي قوة أخرى بازغة خصوصا الصين.مزايا الوحدة سوف توفر مقومات الرخاء.تعززها العملة الموحدة، ودور البنك الاوروبي الموحد، وترقب وجود الحكومة الاوروبية الموحدة، والجيش الاوروبي المشترك. كانت كل هذه التطلعات تمتزج بالأمل، قبل ان تحدث تلك الصحوة فاذا بها لا تتمخض سوى عن الغرق في الاوهام.

الآن تتوقع بعض الأحصاءات ان تتكبد الشركات الاوروبية خسائر تقدر ب37 مليار يورو سنويا، عقب » البريكست«، وتقدر خسائر الشركات الألمانية وحدها بنحو 9 مليارات يورو سنويا بمجرد هذا الخروج البريطاني من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، وتعود التجارة مع بريطانيا من جديد إلى قواعد التجارة العالمية، أي بتطبيق الجمارك، وما يعرف بالحواجز التنظيمية.في اطار صناعة السيارات، وهي تعد في مقدمة الصناعات المهددة بأكبر الخسائر، حيث تحصل المملكة المتحدة على نحو 10 من صادرات صناعة السيارات الاوروبية.تضاف إلى هذه القوائم من الخسائر ما يتعلق بحركة الطيران والنقل بين بريطانيا ودول الاتحاد، فسوف تجرى كذلك عليها التعديلات التي تتناسب مع الاوضاع الجديدة، وعدم امكانية الوصول إلى الاسواق الاوروبية بالقواعد القديمة.

 إلى أين…؟

ان العام الجديد يدخر الكثير من المفاجآت، فالخيارات متعددة ولكنها تتجمع تحت عنوان واحد )الخيارات الملغومه( الخروج من البريكست بدون اتفاق، أو اجراء استفتاء جديد، أو انتخابات مبكرة أو تجميد )البريكست( أي تجميد الأزمة إلى خيارات أكثر دراسة، ان لم يكن إلى

استرداد الأنفاس..؟

تتكاثر ان الدعوات إلى الأصلاح، والتغيير تتكاثر، وتتعدد الأجتهادات، ولكن يظل السؤال : وفق اي منهج، ولخدمة أي غاية ؟ هل هو موقف محدد من الأجانب والرغبة في تقليص وفودهم ؟ أم انها سياسة عليا تتعلق ببعض المصالح، وان كان الامر كذلك فما هي ؟ ومن المستفيد أصلا من الأقدام على هذه الخطوة، وما سوف يترتب عليها من آثار! لقد عايشنا الفترة )التاتشريه( وما أقدمت عليه من خطوات تتعلق بعمليات الخصخصة، ولم تكن كلها ناجحة، والمثل في ذلك ماحدث في السكك الحديدية، وماحدث فيها من انهيار استوجب اعادتها تحت سيطرة

توني بلير
التصويت الجديد سيكون مختلفا عن تصويت 2016

الدولة، وانتهى الحال بالسيدة الحديدية، أنها خرجت من الوزارة تحمل في يدها منديلا تجفف به دموعها، بعد ان انقلب عليها حزبها، وأطاح بها لأنها اصبحت بسياساتها تمثل خطرا على مستقبل الحزب، وبالنسبة للسيدة ماي رئيسة الوزراء الحالية، هل تريد ان تصبح بدورها سيدة حديدية شديدة المراس، لاتتراجع ولاتلين. ان نهاية السيدة تاتشر في الوزارة لازالت في الذاكرة، حتى وان استبقت السيدة ماي الظروف باعلانها انها لن تكرر تجربتها في الاستمرار، فعلى الأقل علينا ان نجمل طيب الذكرى، ان لم نستطع أن نؤجل حتمية الختام.

 

 

 

 

 

 

 

العدد 89 –شباط 2019