تضميد جراح متبادل بين ضفتين

جبيل اللبنانية ضيفة شرف اعياد الميلاد ورأس السنة في ستراسبورغ الفرنسية

ستراسبورغ- جاد الحاج

 تقع مدينة ستراسبورغ في شرق فرنسا، عدد سكانها حوالى ثلاثمئة الف نسمة، ويقطن المناطق المحيطة بها عدد مماثل ، معظمهم من الطلاب وموظفي القطاع العام، وعمال المصانع. انها مقر البرلمان الأوروبي والعديد من المؤسسات التابعة للمفوضية الأوروبية. يُعدّ وسطها القديم من المواقع التاريخية المحمية من قبل اليونيسكو منذ عام 1988 نظراً الى طابعه الثقافي والمعماري المميز.

في عصر الإمبراطورية الرومانية بقيت ستراسبورغ معسكرا للجيش حتى عام 1332 حين ثارت وأعلنت نفسها دولة مستقلة، غير انها أعيدت إلى الامبراطورية أوائل القرن السادس عشر. والواقع ان الكرّ والفرّ في سياقها التاريخي يعتبر نموذجاً لما تعانيه المدن والمقاطعات الحدودية من تجاذب عبر الحقب والقرون. وحين ضمها الملك لويس الرابع عشر إلى فرنسا انتعش نموها الاقتصادي واستمر حتى منتصف القرن التاسع عشر. ثم وقعت الحرب البروسية الفرنسية فقصف البروسيون ستراسبورغ بعنف ودمروا معظم مرافقها التاريخية والصناعية. وفي النتيجة ضُمت المدينة الى الإمبراطورية الألمانية ثم أعيدت الى فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

في الحرب العالمية الثانية احتلها الألمان من جديد، ثم أستردتها فرنسا بعد نهاية الحرب. وفي عام 1920 بدأت المنظمات الأوروبية بالظهور في ستراسبورغ، فتم إنشاء اللجنة المركزية للملاحة على ضفة نهر الراين، واختيرت المدينة كمركز للمفوضية الأوروبية والمحكمة

السفير اللبناني لدى فرنسا

الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 1949. وفي عام 1952 اصبحت مركز البرلمان الأوروبي.

يسجل متحف ستراسبورغ التاريخي المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمدينة منذ مطلع العصور الوسطى وحتى الحقبة المعاصرة عبر مجموعة من الآلات العسكرية والملابس واللوحات الفنية والمنحوتات ومقتنيات يمتد تاريخها من العصور الوسطى حتى القرن الثامن عشر. وتعتبر المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة في ستراسبورغ واحدة من أعرق المدارس العليا في فرنسا. كذلك تعتبر ستراسبورغ منافسة لمدينتي بروكسل ولوكسمبورغ على صعيد المؤسسات السياسية الأوروبية، إذ يقع البرلمان الاوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمجلس الاوروبي ومقر أمين المظالم الأوروبي في منطقة منها تدعى ’الاورانجوري‘. إضافة الى ذلك نجد في وسط المدينة مركز المؤسسة الاوروبية للعلوم ومنظمات أوروبية ودولية اخرى. وتضم جامعتها حوالي 50 الف طالب، وهي مصنفة من أفضل مئة جامعة في العالم ومن أبرز خمس جامعات فرنسية.

السنة الفائتة، قبيل بدء احتفالات الميلاد، وقعت في ستراسبورغ عملية ارهابية اودت بحياة ثلاثة اشخاص وجرح اكثر من عشرة، فكانت بمثابة هزة عنيفة شوهت صورة المدينة المعتبرة عاصمة الميلاد الاوروبي كونها جزءاً بالغ الحيوية والابتكار من منطقة ألزاس حيث نشأ تقليد شجرة الميلاد، تاريخياً. اما اليوم فالحديث جارٍ على ستراسبورغ واختيارها لبنان ضيف الشرف للموسم الحالي ممثلاً بمدينة جبيل.

بدأت التحضيرات لهذا الإحتفال في نيسان (ابريل) 2019 لدى زيارة النائب والرئيس السابق لبلدية جبيل زياد حواط لوكسمبورغ، بعد اختيار مدينته ضيفة الشرف في احتفالات الميلاد ورأس السنة الجديدة. ما يعني ان اسواق المدينة المضيفة ستحفل بمنتوجات وصناعات لبنانية ناهيك عن المشاركة الثقافية والدعاية السياحية المتوقعة. وقد بدأت لوكسامبورغ تتعرف الى قبس من التراث الإنشادي – الغنائي المشرقي من خلال مشاركة كورس الفيحاء في برنامج موسم ميلاد 2019. يمتاز كورس الفيحاء بنوع إنشادي معروف باسم اكابيلا وهو فن استعراض سمعي لا بصري، يستغني عن المصاحبة الموسيقية بالآلات ويستعين بدلاً منها بالصوت البشري من كل الطبقات، ويشكل تحدياً لألوان الغناء المألوف، ويحتاج إلى دراسة متعمقة لعلم الأصوات البشرية وعلم التأليف الموسيقي  »هارموني« و »كونتر بوينت« وذلك لفهم طبيعة ومدى اصوات المؤدين.

 ظهرت تراتيل أكابيلا في القرن السادس عشر في إيطاليا كشكل من أشكال الموسيقى الدينية تكتب للأصوات البشرية وحدها من دون استخدام آلات. أول من لحنها الإيطالي بيير لويجي بالسترينا (1526 – 1594) الذي قضى حياته في خدمة الكنيسة وتأليف الموسيقى الدينية. ثم ظهرت المدرسة الفلمنكية التي وضعت نصب أعينها تهذيب هذا اللون وتنقيته من الحذلقة والإغراق في استعمال الخطوط الموسيقية الإضافية وأهتمت بالصوت البشري فقط، فجعلت منه أداة للتعبير الكامل، وأصبحت أكابيلا تعتمد على الهارمونية المدروسة، لا مجرد وجود أصوات متوافقة بالصدفة.

 عرفت إيطاليا مدرستين لغناء أكابيلا: مدرسة روما التي أسسها أحد تلاميذ بالسترينا، ومدرسة أخرى في مدينة البندقية . استخدمت الأكابيلا، ولا تزال، استخداما دينياَ في الانشاد الكنسي والاحتفالي. وقد توطد وتطور هذا الفن في أوروبا منذ نهاية القرن الرابع عشر (م.) رافقت الاكابيلا في بداياتها بعض الآلات الموسيقية إلا أنها لم تكن بارزة أو طاغية على الصوت الإنشادي. وسنة 1500 تطورت الأكابيلا أكثر فاكثر وصولاً الى فن انشادي ارقى هو فن الكانتاتا. التي يبدو تأثيرها واضحاً على الموسيقى الكنائسية حتى اليوم.

 تأسس كورال الفيحاء في طرابلس عام 2003 بقيادة المايسترو بركيف تَسلاكيان وعام 2016 انطلق فرعه الثاني في بيروت بالتعاون مع جمعيّة المقاصد الخيرية الإسلاميّة. ثم نشأ فرعه الثالث في القاهرة، عاصمة مصر، سنة 2017. منذ تأسيسه تلقى الكورال دعم بلدية طرابلس وإتحاد بلديات الفيحاء بالإضافة إلى مؤسسة الحريري ومركز الصفدي الثقافي. واليوم تسانده مجموعة  »أصدقاء كورال الفيحاء« ومدرسة العزم الطرابلسية التي تعبتر شريكا أساسيا له. اما الداعم الأساسي للكورال فهو مركز العزم الثقافي – بيت الفن لمؤسسه نجيب ميقاتي.

إشتهر كورال الفيحاء كأوّل فريق في العالم يؤدّي الموسيقى العربيّة على طريقة الأكابيلا. ويتضمّن برنامجه أناشيد من التراث الموسيقي العربي، كما يؤدّي مقطوعات بلغات عالميّة خصوصا الأرمنيّة والإنكليزيّة وغيرها. وهو يعتبر المرجع الأوّل في العالم للأكابيلا العربية.

يضمّ الكورال حوالي 120 مغنّيا ومغنّية في فروعه الثلاث، يمثّلون المجتمع اللبناني والمصري والعربي بمعظم أطيافه وانتماءاته الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة.

يهدف كورال الفيحاء بشكل أساسي إلى:

نشر وتطوير فن الغناء الجماعي في العالم العربي

إظهار الصورة الحضاريّة الحقيقيّة للوطن العربي من خلال نشر الموسيقى العربيّة في العالم بطريقة جديدة هي الأكابيلا.

منذ تأسيسه، قدم الكورال مئات الحفلات في كافة المناطق اللبنانيّة ضمن مهرجانات محليّة ودوليّة ومؤتمرات ومناسبات رسميّة وخاصّة. وحمل فنّه إلى العالم في عروض عالميّة في بولندا، أبو ظبي، الأردن، أرمينيا، ناغورني غاراباخ، مصر،تونس، فرنسا، كندا، الصين، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، قطر، قبرص، الكويت، مملكة البحرين، الشارقة، السويد، المملكة العربية السعودية، دبي، اليونان، سوريا…

خلال مسيرته، حصد كورال الفيحاء جوائز عالمية عدة بينها:

مهرجان وارسو الدولي للكورالات في بولندا عام 2005 حيث حاز الجائزة الثانية، وفي 2007 وحصل على جائزتيّ أفضل كورال وأفضل قائد كورال

مهرجان كورال في دبي عام 2015 حيث حصد المركز الأول، وفي 2018 جائزة الوصيف الأّول

مهرجان الموسيقى والبحر في اليونان عام 2016: الجائزة الأولى

جائزة الحقوق الموسيقية من المجلس العالمي للموسيقى عام 2016، استحقّها الكورال عن إنجازاته ومشاريعه على صعيد الدعم النفسي والإجتماعي للاجئين والمهمشين عن طريق الغناء الجماعي.

وكورال الفيحاء عضو منتسب في الجمعية الكورالية الاوروبية والمنظمة العالمية للموسيقى الكورالية.

وهو على الأغلب الكورال الوحيد في العالم الذي يعدّ ويقدّم برنامجا إذاعيا أسبوعيا حول الموسيقى والغناء الجماعي خاصة: برنامج  »مع الفيحاء« على إذاعة لبنان.

افتتح رئيس بلدية ستراسبورغ يرافقه سفير لبنان لدى فرنسا رامي عدوان والنائب زياد حواط القرية اللبنانية المخصصة للتعريف بمنتجات بلاد الأرز وللتسويق للسياحة في لبنان في إطار فعاليات سوق الميلاد 2019 في مدينة ستراسبورغ.

كورال الفيحاء في ستراسبورغ

 وحضر الافتتاح عدد كبير من اللبنانيين والفرنسيين والأوروبيين يتقدمهم مسؤولون رفيعون أبرزهم النائبة في البرلمان الفرنسي مارتين فونير التي لعبت دورًا محوريًا في إنجاح مشاركة لبنان. وكان لافتًا حضور عدد كبير من اللبنانيين المقيمين في الدول المجاورة لستراسبورغ، من ألمانيا وهولندا وسويسرا ولوكسمبورغ علمًا بأن سوق الميلاد الذي تمتد فعالياته حتى 30 كانون الأول يستضيف سنويًا حوالى مليوني زائر.

قدمت الحدث ممثلة عن بلدية ستراسبورغ ورحبت بلبنان وبمدينة جبيل شاكرة كل الذين ساهموا وبذلوا جهودًا في تنظيمه.

ثم ألقى النائب حواط كلمة حيّا فيها اللبنانيين المنتشرين في كافة أنحاء العالم وشكر مدينة ستراسبورغ وكل الذين شاركوا في إنجاح التعاون اللبناني-الفرنسي، ولا سيما المنتجين والحرفيين العارضين منتجاتهم في سوق الميلاد.

كما ألقى السفيراللبناني لدى فرنسا رامي عدوان كلمة شدد فيها على الرمزية الثلاثية للحدث:

1-المساهمة في تجذر المنتجين اللبنانيين في أرضهم من خلال مساعدتهم على تسويق منتجاتهم في الخارج حيث يشكل هذا النشاط الاقتصادي رافعة للاقتصاد اللبناني في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان.

2- أن تستضيف ساحة تحمل إسم غوتنبرغ، مخترع أول مطبعة في العالم، بلدةً لبنانية علمًا أن أول مطبعة في العالم العربي موجودة في دير مار انطونيوس الكبيرن شمالي لبنان. فالحدث دليل رمزي على الغنى الثقافي والتربوي والعلمي الذي لطالما ميَّز ثقافة لبنان وشعبه. وأن تكون مدينة جبيل، مهد الأبجدية، شريكاً في هذه القرية، يزيد من رمزية الحدث والمناسبة.

3-أن يصادف افتتاح المعرض مع تاريخ عيد الاستقلال اللبناني يؤكد على تمسك لبنان بهويته المنفتحة على العالم وبصون استقلاله الذي يشكل مهدًا لكافة الحريات.

ونظّم رئيس البلدية حفل استقبال في دار البلدية تمّ خلاله تبادل الهدايا التذكارية وحضره أبناء الجالية في المدينة.

ختمت اليوم اللبناني في ستراسبورغ جوقة الفيحاء فا نشدت ترانيم ميلادية لبنانية وأجنبية في حرم كاتدرائية ستراسبورغ بحضور أكثر من ألفي شخص. وقد امتد تصفيق الحاضرين وقوفاً اكثر من خمس دقائق. ولاحقاً تتواصل النشاطات الثقافية والشبابية التي تنظمها سفارة لبنان لدى فرنسا في ستراسبورغ، بالتعاون مع أبناء الجالية حتى اختتام فعاليات سوق الميلاد، ومنها:ندوة عن السياحة الدينية في لبنان بالتعاون مع المكتب السياحي اللبناني في باريس.

ولقاء شبابي وطلابي يجمع الطلاب اللبنانيين والأجانب حول آفاق التعليم العالي في لبنان وإمكانية التبادل الجامعي المتاحة لهؤلاء، ورشة عمل للأطفال بالتعاون مع دار نشر ’سمير‘ بهدف تعريف الأصغر سنًا على بعض المعالم الأثرية اللبنانية.

لعمري إنه حدث يعكس تضميد جراح متبادل بين ضفتين!

العدد 100 –كانون الثاني 2020