(جزء (عمة

 سهير ال ابراهيم

كان لنا في مرحلة الدراسة الابتدائية، ومن ضمن المناهج الدراسية، درسٌ عنوانه )دين( وآخر عنوانه )قرآن(؛ هكذا كانا يكتبان في جدول الدروس الاسبوعي. تضمن درس الدين بعض الأحاديث النبوية الشريفة. بينما كان درس القرآن، وكما يتضح من الاسم، مخصصاً لتعلم قراءة القرآن الكريم وحفظ سور وآيات منه. اول ما درسنا من القرآن كان الجزء الاخير منه، او جزء )عمة(، كما كنا نسميه!

أنهيت المرحلة الابتدائية وكنتُ قد حفظتُ كل سور ذلك الجزء، إضافة لآيات وسور من أجزاء أخرى، لكن بدون أن أعرف عمة مَن كانت تلك السيدة التي أفرد لها كتابنا المقدس جزءاً كاملاً! وكذلك لم أعرف لماذا لم يخصص القرآن جزءاً للخالة، فقد كنتُ )و لا زلتُ( أحب خالتي حباً جماً!

في بداية كل درسٍ من دروس الدين أو القرآن، كانت المعلمة تُخرج من الصف الاطفالَ من الديانات الاخرى من صابئة ومسيحيين، أو بالأحرى؛ كانت تطلق سراحهم؛ كما بدا لي الامر دائماً!

كنتُ أختلس النظر أحياناً، الى اولئك الاطفال الذين كانوا يلهون ويمرحون في ساحة المدرسة الواسعة، والتي كانت تخلو من الاطفال المسلمين خلال فترات الدروس الدينية. وكنت أغبط لعبهم وانطلاقهم ايما غبطة، بينما أجلس في صفي، يملأني الرعب ويحتويني من مشاهد كانت تدور في مخيلتي؛ مشهد الارض وهي تهتز وتتشقق، فتخرج منها جميع الاجساد الميتة التي دُفنت في جوفها عبر الازمان! ثم مشهد تلك الاجساد وهي ترتفع للسماء لتقف أمام تنورٍ هائل عظيم، تتصاعد منه ألسنة اللهب. والى جواره أناس عراة يصرخون من الالم بينما تُكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم بنقود كانوا قد اختزونها في حياتهم ولم يساعدوا بها الفقراء!

كنت أخفض رأسي المغطى بوشاحٍ أبيض، ذلك الوشاح المخصص لدرس القرآن، كي أبدو وكأني أتابع كلمات السورة التي يقرأها احد الاطفال بصوت مرتفع، ولكني في الواقع كنت أطلق العنان لعَينَيّ لأتابع زملائي في لعبهم وركضهم بحرية، بينما يزدحم ذهني بصور أناسٍ تقيد أجسادهم العارية سلاسل من الحديد طويلة ساخنة، فينضح منها الدم والألم!

كنت في الغالب أجد صعوبة في فهم الكثير من كلمات الآيات الكريمة، وأظن ان ذلك الأمر ليس بغريب بالنسبة لطفل اعتاد في حياته اليومية على سماع اللهجة المحلية واستخدامها، والتي هي بعيدة في احيان كثيرة عن متانة لغة القرآن الفصيحة. وكانت صعوبة الفهم تلك عاملاً اضافياً ساهم في التقليل من رغبتي في حضور دروس القرآن والدين، وبالطبع لم أملك الخيار في عدم الحضور، كما لم أملك الجرأة على الإفصاح عن مشاعري تلك، لأني كنت اعلم انها مشاعر محرّمة تُغضِب الكبير الذي يسمعها، والأهم من ذلك انها تُغضب الله، فيُلقيني في نار جهنم، هكذا قيل لي!

ماذا استفدتُ من حضور دروس القرآن في المدرسة؟ الجواب إني حفظت السور المطلوب حفظها، واغلب ذلك الحفظ كان مشابهاً لحفظ طائر الببغاء للكلمات والاصوات التي تصل الى مسمعهِ، دون ادراك لمعنى او فهم لمضمون. لكن تلك الدروس زرعت بداخلي كمّاً هائلاً من الخوف!

بعد انتقالي مع اسرتي للعيش في بريطانيا، ألحقتُ أطفالي بمدرسة عربية كي تساعدهم على الاحتفاظ باللغة العربية وتنميتها وتطويرها. وكان منهج المدرسة العربية الموجودة آنذاك يتضمن درساً للغة العربية وآخرا للتربية الدينية وتحفيظ القرآن الكريم. كانت ابنتي الكبرى في العاشرة من العمر، عندما عادت ذات سبتٍ من المدرسة العربية تلك، ومعها واجب بيتي كالمعتاد. تضمن ذلك الواجب كتابة وحفظ آيات محددة تدور حول النكاح! اتصلت حينها بالمسؤول عن تحديد المنهج الدراسي لتلك المدرسة، وأبديت استغرابي من اختيار تلك الايات وتدريسها للأطفال، وسألته عن مدى استفادة طفل في العاشرة من العمر منها! ذكرت في حينها ان القرآن لا يخلو من ايات تناسب الاعمار الصغيرة لطلبة المدرسة؛ آيات تحث على الاخلاق الحميدة او بر الوالدين وغير ذلك. كانت النتيجة اني أخذت على عاتقي تدريس بناتي بنفسي، بدون الحاجة الى )مدرسة( لا تراعي متطلبات المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل.

في بريطانيا، يعود الفضل للمدرسة في اطلاع الطلبة على التفاصيل العامة لأغلب الأديان المنتشرة في العالم. يتضمن المنهج الدراسي للمرحلة المتوسطة مادة )الدراسات الدينية(، حيث يدرس الطالب خلالها تاريخ الأديان المعروفة؛ السماوية منها وغير السماوية، حسب التسلسل التاريخي لظهورها. تُدَرَّس تلك الأديان بحيادية وبدون توجيه الطالب لتفضيل احدها على الآخر. أما الايمان والمعتقد فتلك امور يستقيها الطفل او الطالب من أسرته وبيئته التي ينشأ فيها.

أقرأ كثيراً دعوات الى إلغاء تدريس مادة التربية الدينية، او التربية الاسلامية كما تسمى في مدارسنا، والاستعاضة عنها بتدريس مادة الأخلاق الحميدة! حقيقة أجد الكثير من الغرابة في تلك الآراء والدعوات! هل تقتصر الأخلاق الحميدة على المؤمنين بدين معين، بحيث تشكل دراستها بديلاً لدراسة ذلك الدين؟! لا أظن ذلك، فأنا أعيش في مجتمع علماني لا يخشى الملحد فيه من المجاهرة بإلحاده، وأعرف الكثير من الملحدين ممن يتميزون بأحسن الأخلاق ويحملون أرفع القيم الإنسانية.

تلعب المدرسة دوراً كبيراً في عملية بناء شخصية الطفل والمراهق، وقد يكون ذلك الدور سلبياً أو إيجابياً. اعتقد ان المدرسة، اضافة لكونها مناراً للعلم والمعرفة، يجب ان تكون بيئة خصبة تنمو فيها القيم النبيلة والاخلاق الحميدة لدى الطفل. يجب ان تشكل الاخلاق الحميدة الطابع العام لأي مدرسة، وتتغلغل في كافة تفاصيلها، ولا يفترض ان تكون حصة يدرسها الطالب في دروس محددة. يجب ان يتحلى التدريسيون بحسن الخلق، فيتعلم الطفل منهم ويقتبس سلوكهم واخلاقهم، لتكون جزءاً من شخصيته، بدون الحاجة لان يحفظها من كتاب جامد لغرض النجاح في الامتحان، ثم لينسى الكثير مما حفظ بعد ذلك. الاخلاق الحميدة ليست كالمعادلات الرياضية أو قوانين الفيزياء مثلا، التي يحفظها الطالب ثم ينساها فيما بعد إن لم يستخدمها في حياته العملية.

الدين متجذرٌ في مجتمعنا، لذلك ارى ضرورة وجود الدروس الدينية في المدارس، بشرط أن تُكرَّس لتنقية المفاهيم الدينية مما علق بها من شوائب على مر القرون، وأن تعمل على محاربة الخرافات التي يبثها المغرضون خلف ستار الدين والعبادة. وبالتأكيد لن تؤدي الدروس الدينية تلك الأهداف الا اذا تم تحديد المنهج الدراسي الديني من قبل جهات محايدة بعيدة عن التطرف الديني والتعصب العقائدي والمذهبي.

اعتقد أن دراسة تاريخ الأديان ضرورية جداً، فهي تزود الطالب بالمعرفة التي يحتاجها لفهم معتقدات جميع فئات المجتمع الذي يعيش فيه، كما انها تزيل التمييز الحاصل نتيجة دراسة دين واحد يعتنقه الأغلبية، وإهمال دراسة ديانات بقية فئات المجتمع.