دور المثقف في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

لم تتوقف جرائم الكيان الصهيوني يومًا. وفلسطين، اليوم، هي بؤرة ما يحدث في العالم، من حيث سحق القيم الكبرى في تاريخ البشرية. ما يجري في غزة تعبير عن فاجعة بالغة الرعب. والكتابة موقف تجاه هذه الفاجعة التي لم ندركها من قبل، بسبب الأقنعة التي كانت تخفي وجهها المرعب. أما الأفظع فهو غياب المواقف القاسية والحازمة للدول العربية تجاه ما يحدث في غزة اليوم.

من هنا وفي هذا الملفّ الذي خصّصته “الحصاد” عن فلسطين، تفتح المجلة مجال الكلام أمام مجموعة من الأدباء والأكاديميين للمساهمة بآرائهم والتعبير عن مواقفهم حول دور المثقف العربي تجاه الجرائم المستمرة في غزة، وموقف المثقف الغربي بعد اطلاعه على بيان المثقفين العرب حول هذا الموضوع، من خلال الأسئلة:

“عبّر الفنانون كل بحسب موهبته عن حبه لفلسطين وكتب الأدباء والمبدعون نصوصًا عدة عنها وعن الصراع مع الكيان الصهيوني ورفضهم لما

أنطوان شلحت

يجري، كما نلاحظ خلال الفترة الأخيرة الموقف التضامني مع فلسطين من قبل الأدباء والمثقفين. هل استطاع الأدب والشعر تغيير الوضع في فلسطين؟ كيف يمكن للشعر أن يغير العالم بنشر القيم والأخلاق، وهل حقًّا يمكن للمثقف أن يساهم في إنهاء الحروب؟ كيف؟ والسؤال الأساسي هنا، ما هو دور المثقف اليوم إزاء كل ما يجري؟

 اتّحد الأدباء والمثقفون وأصدروا بيانًا يعبرون فيه عن رفضهم للاحتلال في فلسطين وقد تضمن بنودًا عدة. إلام سيؤدي هذا البيان وهل حقًّا سيتخذ المثقف الغربي موقفًا حازمًا مما يحدث وسيؤثر في تغيير مجرى الأحداث؟ ماذا لو جاء الموقف الغربي مخيبًا للآمال؟”

 

أنطوان شلحت (كاتب فلسطيني ومدير تحرير موقع ضفة ثالثة في العربي الجديد)

“يصعب أن أجيبك عن السؤال بشكل مطلق. ولكن ما من شك بالمطلق في أن الأدب والشعر ينطويان على قدرات تغيير ولو بشكل جزئي. فهما يمتلكان القدرة على تأجيج حراكات، والحراكات في العادة تمهّد الأجواء للتغيير وربما لما هو أكثر؛ للثورة. وهذا أمر لا يجوز القفز عنه أو التقليل من أهميته.

 أنظري مبلغ الاهتمام الذي يوليه عالم اليوم لما نسميه السردية إلى درجة أصبحت فيها الحروب المعاصرة بمثابة حروب على السردية، وهو ما بات ينطبق في الفترة القليلة الماضية على الصراع الفلسطيني والعربي مع إسرائيل والحركة الصهيونية.

 نعم الكلمة مهمة، وفي خضم هذه المواجهة شهدنا كيف أن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد أبناء شعبنا في غزة رافقتها حرب إبادة ضد الكلمة من طرف إسرائيل بحق الفلسطينيين في أراضي 1948 ولا سيما الكتاب والفنانين والمؤثرين. وبقدر ما يدل هذا على هوس إسرائيل بقدر ما يدل على تأثير الكلمة.

دور المثقف اليوم هو في المزيد من الدفاع بالكلمة عن الشعب الفلسطيني وعن حقه في الكفاح من أجل حريته وسيادته وحقوقه ومستقبله، والمزيد

سرجون كرم

من الوقوف في وجه آلة القتل والتدمير والإبادة الإسرائيلية التي تتغذى على فكر عنصري وعلى نزعات فوقية شاطّة. ومن شأن كلمة المثقف أن تصل إلى أسماع أوساط في العالم أجمع فتحرك فيها الرغبة بالتضامن ومحاولة مد يد العون، ما يساهم بدون شك أولا في وقف الحرب ومن ثم في تغيير السياسة التي تسببت بالحرب مثلما تسببت بما سبقها من مؤشرات إليها.

علينا الإقرار بداية أن الموقف الغربي إجمالًا مخيّب للآمال في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية عمومًا والحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة خصوصًا. ولكن ما العمل؟ هل نستسلم، أم نواصل ممارسة الضغط؟ لا أظن أن أي إنسان عربيّ يمكن أن يفكر بأن يستسلم. وعلينا أن نستمر في شرف المحاولة.

 وسأكون متعاميًا لو ما ذكرت أن المواضبة على مخاطبة الرأي العام الغربي تؤدي إلى نتائج واعدة وبخاصة في أوساط الأجيال الشابة، ويضيق المجال هنا للتمثيل عليها، كما هي الحال في شوارع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأعظم. أفلا يثبت هذا أن تلك المخاطبة تنطوي على نجاعة قد تتعزز أكثر فأكثر في المستقبل؟.

ينبغي هنا التنويه بحق أنه منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة لم يشهد العالم تظاهرة واحدة تأييدًا لإسرائيل، بينما شهد تظاهرات عارمة دعمًا للشعب الفلسطيني. ومجرٌد هذا يجعلنا نربّي مزيدًا من الأمل في قدرة الكلمة على التغيير في أرجاء الكون.”

سرجون كرم (شاعر وأكاديمي ومترجم لبناني ألماني في جامعة بون ألمانيا)
“الشعر، والأدب عمومًا، لم يكونا يومًا صنّاع الحركات التحرريّة والقضايا الوجوديّة والمصيريّة، بل المعبّرين عنها. فالشاعر في الأزمنة الغابرة كان يرافق القائد الملك في حروبه ويدوّن ويكتب النصوص والأناشيد التي ستصبح لاحقًا الوجدان الثقافيّ للأمّة، وحتّى شهادتها التاريخيّة. فالشعر والأدب يتعاملان مع العصر الذي يعيشان فيه ويضخّان الأفكار، التي يؤمنان بها ولم يخترعاها، كرؤية مستقبليّة. هذا الأمر ينطبق أيضًا على فلسطين والقضيّة الفلسطينيّة. فخسارة فلسطين والإيمان بها ونشوء الحركات الثوريّة والتحرريّة لتحريرها جعل فلسطين في مرحلة ما في القرن العشرين محور الأعمال الأدبيّة والشعريّة التي ألهبت الجماهير وساهمت في إبقاء الوجدان الجمعيّ متيقظًا. ولكن بعد اتفاقيّة أوسلو وتوقّف أعمال الكفاح تمّ الاعتقاد بأن المسألة انتهت. فبدأ الأدب والشعر بالالتفات إلى مواضيع جديدة، حتى في الأدب الفلسطينيّ بدأ موضوع فلسطين يأخذ منحى تأمّليًّا هادئا. حتّى الغالبيّة العظمى للفنّانين الذي نشأ جيل السبعينيّات على أصواتهم تصدح بأناشيد لفلسطين، بتنا نراهم في صورة ووجوه وعقود لأعمال لا تنسجم مع صورتهم السابقة. ولم تعد فلسطين تعود إلى الواجهة الشعريّة إلا كفترة زمنيّة محدّدة مرتبطة بحوادث عابرة كالذي يجري في غزّة الآن، وستخبو بنهايتها. هذا يعني أن فلسطين لم تعد قضيّة الشعر والأدب، ولم تعد القضيّة المحوريّة. فالأمر يتعلّق فقط بـ”فورة” عاطفيّة نتيجة الحدث.

صحيح أنّ عدد الموقّعين على البيان لم يصل إلى تسعين باحثًا وشاعرًا وروائيّا ومسرحيّا، فهناك بالطبع عدد كبير جدّا من المتعاطفين مع مسألة فلسطين. أعتقد أنّه هنا كان حريّا بالمثقّفين العرب توجيه هكذا بيان إلى الحكومات والدول العربيّة التي، بناء على تجارب سابقة، لن تحرّك ساكنًا إزاء معاناة الفلسطينيّين لا في الدبلوماسيّة ولا في التعاطف حتّى.  هذه الدول العربيّة بالذات هي التي تقيم الاحتفاليّات الثقافيّة وتدعو الكتّاب والمثقّفين العرب إلى منابرها بصورة فولكلوريّة. وهنا كان حريّا بالمثقّفين العرب الذين تمّت دعوتهم على أساس أنّه اعتراف من هذه الدول ومحافلها بأدبهم وفنّهم أن يقولوا كلمتهم في هذا المجال، خصوصًا أنّ البيان مكتوب باللغة العربيّة ولن يصل إلى الغرب ما لم تتمّ المتابعة بترجمته وتوجيهه بالقنوات المطلوبة إلى محافل المثقفين، وإلا سيبقى خبرًا في الصحف العربيّة.

أمّا بالنسبة إلى المثقّفين الغربيّين، فالأمر صادم. إنّ أكثر المثقّفين الغربيّين ليسوا متعاطفين شعوريّا فقط مع الفلسطينيّين في غزة والضفّة الغربيّة، بل متعاطفين عقلانيّا أيضًا وينظرون إلى المسألة من جذورها وأسبابها الأصليّة. وهم يدركون أنّ حكوماتهم الغربيّة هي المسؤولة الأولى عن قيام دولة إسرائيل وتشرّد الفلسطينيّين. فالمظاهرات الحاشدة في لندن والسويد والدانمارك وحتّى فرنسا وألمانيا ليست من العرب وحدهم.  ولا يقتصر الأمر عليهم فقط، بل إنّ طلاب المدارس، مثقّفي المستقبل، متعاطفون تمامًا مع الفلسطينيّين، ولنا مثال في غريتا تونبرج الناشطة في مجال المناخ وخلفها جميع طلاب المدارس الأوروبيّة في حركة “أيّام الجمعة من أجل المستقبل” والتي ينزل الآلاف من طلاب المدارس كلّ يوم جمعة للتظاهر من أجل الحفاظ على المناخ، وقفت مع مجموعتها حاملة لافتة “أنا متضامنة مع غزّة” و”الحريّة لفلسطين”.

أمّا على المستوى الرسميّ فالأمر مختلف. هناك منظومة سوسيو-ثقافيّة في الغرب، مجنّد لها الإعلام ومن خلفه اللوبي الصهيونيّ والذي يمارس ضغطًا على أيّة أفكار مناوئة لإسرائيل تحت غطاء معاداة الساميّة، وهي التي تقرّر ما يبثّه الإعلام. هذه المنظومة بالذات تريد أن يتكلّم المثقّفون العرب بما ترغب هي في سماعه. فمن يُسمح له الظهور على منابر هذه المنظومة مطلوب منه أن يتحدّث عن الديمقراطيّة والحريّة والمثليّة وانتقاد التراث الإسلاميّ وضرورة تحديثه، وفي حالة كـ”غزّة” الآن يجب إدانة الفلسطينيّين والبكاء على الإسرائيليّين وأنّه لا “يُرى في اليهوديّ وجه العدوّ”، كما في حالة “المثقّف العربيّ” الطاهر بن جلّون في مقابلته مع صحيفة لوبوان الفرنسيّة. أنا على يقين، بناء على تاريخ ومواقف المثقّفين الموقّعين على البيان، أنّ أكثرهم وقّعوه انطلاقًا من تعاطفهم وقناعاتهم، والأسماء التي لها علاقة بالمنظومة الإعلاميّة الغربيّة عليها في المستقبل أن تبرّر هذا التوقيع وتقدّمالتبريرات، أمّا من يودّ الدخول إلى هكذا منظومة، وهذا حقّه، فعليه أن يعرف أن الثمن سيكون كبيرًا إن لم يظهر من البداية قناعاته الشخصيّة التي لا حياد عنها. “

عبد السلام العطاري (شاعر وكاتب فلسطيني)

“حالة التضامن على أهميتها وضرورتها، أصبحت وأقول هذا من خلال تجارب سابقة تعرّض لها شعبنا للأسف؛ (موضة) تكون حين الحدث، وقت سخونته وسخونة واقع الألم الذي يعيشه شعبنا الفلسطيني، لذلك إذا كانت النظرّية التي يقوم عليها المثقف العربي، هي أن تظلّ المسألة الفلسطينية على مواقد جمر المواقف الحقيقية للمثقفين وغيرهم، وألّا تظل كما هي العادة  السالفة والتاريخية مجرد لحظة وقوع الحدث وتنتهي بانتهائه، أو إن طالت الأحداث تصبح (روتين) ومجرد موجةً عابرةً لازمة كي يمسح المثقف الخجلَ عن وجههِ ويرفع العتبَ عن كاهله ويقول؛ لقد فعلت، فهذه ليست

عبد السلام العطاري

أدوارًا ولا أفعالاً تؤسس لحالة التغيير والنهوض بالواقع الهزيل، لحالة العادة الصامتة، فالمثقف وإبداعه يجب أن يكون محطة للتثوير كما هو يفترض أن يكون محطة للتنوير، ومحطة لمواجهة ثقافة النقيض المُحتل اللصوصية التي يقوم بترويجها وتسويقها، وهي مبنية على الكذب والتدليس والتزوير، لذلك تتبدّى أهمية ودورالقصيدة والمقولة عندما تصبح راسخةً في وعي الأجيال وذاكرتهم. وعلى هذا الأساس يمكن للمثقف دوره ولمقولته مكانةً تؤثر عندما تؤطر المجتمع على أساس مضامينها وما غرسه في ذهنية الكلّ وليس في وعي القاريء الخاص وحَسْبْ، هذا هو الأساس بالدور الطبيعي للمثقف الطليعي اليومي وليس الموسمي، الذي يجب أن يجعل من  قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، قضيةً  يوميةً، وليس مجرد قضية كلاسيكية، ومجرد شعار، وديكور ثقافي ومجتمعي يستخدم فقط لمناسبات المنابر وتظاهرات الشوارع.

ولطالما كانت القضية الفلسطينية على المستويين القومي والأممي في سنوات خلت بوابة عبور الكاتب إلى  القُرّاء في الوطن العربي وفي مواطن من العالم للمنتصرين لنضالات شعبنا، إلى أن خَفَتَ هذا السطوع في الألفية الثالثة، بعد إتفاقية أوسلو، وهَرولت بعض العواصم العربية نحو التطبيع، وأصبحت فلسطين إلى حدٍّ ما خلف ضباب المرحلة، ولم تعد كما كانت عليه، إلى أن  قلبَ اليوم السابع من أكتوبر كل المعطيات السالفة التي توقفت عندها الاهتمامات بالقضية الفلسطينية رغم اشتداد حالة البطش والتنكيل المستمرة بحق شعبنا من قبل حكومات الاحتلال المتطرفة ومستوطنيه من فعلِ تنكيلٍ يومي في الضفة الغربية الفلسطينية بما فيها القدس، كونها على تماسٍ مع المستوطنات المُقامة على الأراضي المسلوبة من المواطنين. وعلى إيقاع العدوان الغاشم الذي استهدف كلّ شيء في غزة برضى ودعم الحكومات الغربية وصمت أنظمة الشرق، حيث تداعت موجات الجماهير الرافضة لهذا العدوان، وتعالت أصوات اتحادات وروابط الكتّاب والأدباء والمثففين كغيرهم من القطاعات الأخرى رافضة لما يجري من خلال ما أصدرته من بيانات موجهة بخاطبتها إلى جموع المثقفين من الغرب والشرق، محورها الأساس رفض العدوان الذي أودى ولا زال بحياة الكثيرين من الأطفال والنساء وكبار السّن وتدمير أحياء بكاملها وشطب عوائل أيضًا بكامل نسلها من سجلات الوثائق المدنية،على أمل أن تـؤثر أصوات المثقفين على توجهات حكوماتهم، ولكنّ برأيي أذا ما نظرنا إلى الماضي ومن كمّ الحوادث التي حلّت بنا، وكمّ المواقف التاريخية الرسمية والشعبية، إلا أنها لم تُغيّر من واقع الحال الذي عاشه ولا زال يعيشه  شعبنا شيئًا، وهي تندرج في سياق حالة التضامن التي لا تفضي إلاّ للتفريغ عن حالة الغضب السائدة وسرعان ما تدخل حالتها العادية، أي أن كل شيء يصبح عاديًّا. مع الأخذ بعين الإعتبار إلى أهمية هذه الحراكات الشعبية والجماهيرية في الوطن العربي والعالم ككل.لأنه ربما تفضي إلى خلق تراكمات تعزز من مقومات صمود شعبنا الفلسطيني في ظلّ غياب آفاق الحلول المنشودة بإقامة دولة حرّة خالصة من الويلات وكوارث الاحتلال. “

فخري صالح (كاتب وناقد أردني من أصل فلسطيني)

“لا شك أن المثقفين والأدباء والفنانين العرب متعاطفون مع القضية الفلسطينية، ومن الصعب على الغالبية منهم أن يديروا ظهورهم لهذه القضية العظيمة التي احتلت وجدانهم على مدار ما يزيد على قرن من الزمان. فقد مثلت النكبة الفلسطينية، وضياع فلسطين، عام 1948 تحولًا في السياسة والثقافة، والفكر، وفي الرؤية، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتركت بصمتها على التحولات الثقافية، وأشكال التعبير الأدبية والفنية، في العالم العربي، إلى جانب أنها أدت إلى سقوط أنظمة سياسية، وصعود التيار القومي الذي ادعى أنه يريد تحرير فلسطين، فقادنا زعماؤه المتسلطون، ونخبه العسكرية، من كارثة إلى كارثة.

على كل حال، فإن مواقف السياسيين، والنخب الحاكمة في العالم العربي، هي في صدام دائم، خلال نصف القرن الأخير، مع مواقف المثقفين، بعامة. وقد أدى هذا الصدع القائم بين المثقف والسياسي إلى محاولات للاستتباع، أو إسكات أصوات المثقفين المعارضين، بسحنهم، أو ملاحقتهم، أو التضييق عليهم، أو حتى قتلهم، في بعض الحوادث المشهودة.

لكن ما نراه الآن، هو أن محاولات الاستتباع، أو الإغراء، وشراء الذمم، ودفع المثقفين إلى الصمت، وتغييب الصوت الناقد، المعترض، هو ما تمارسه بعض الدول العربية، التي تسعى إلى التطبيع مع الدولة العبرية، على حساب القضية الفلسطينية، بل من خلال دفن القضية الفلسطينية. وللأسف فإن بعض المثقفين يستجيبون لهذه الإغراءات، من خلال الرغبة في الحصول على جائزة، أو حضور مؤتمر، أو نشر كتاب. لكن ما يحدث الآن في هذه المذبحة المتواصلة المروعة، وتواصل نكبة الفلسطينيين، على أرض فلسطين التاريخية، أدى إلى صحوة أكيدة في أوساط المثقفين العرب، فرأينا بيانات يوقع عليها عدد كبير من المثقفين العرب، على اختلاف تياراتهم ومشاربهم الثقافية والسياسية، يعلنون فيها موقفهم الواضح من الجنون الإسرائيلي – الغربي غير المسبوق، والتواطؤ، والنفاق الغربي، ولانحطاط الأخلاقي الذي وصلته بعض الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا. كما أعلن العديد من المثقفين العرب موقفهم الواضح من تخاذل معظم الأنظمة العربية، وضعف صوتها، وانبطاح بعضها أمام العدوان الصهيوني الغاشم، بل تواطؤ بعضها على الفلسطينيين، واتهامها الضحية، بدل أن تدين المجرم الفاتل. لا شك أن هذه لحظة الحقيقة، بغض النظر عن نتائج هذه المعركة التي تدور في الميدان، وحول السردية، ومحاولة تشكيل الوعي، في العالم العربي، كما في العالم بأجمعه.

أريد أن أنبه أنني أعرِّف المثقف هنا بأنه الفاعل والناشط الثقافي، أو السياسي، أو المدني، المنخرط في قول الحقيقة والدفاع عن المستضعفين والمظلومين، والقضايا النبيلة، لا المهني الذي يكتب الرواية أو الشعر، أو يمارس التمثيل في المسرح أو السينما، فقط. فثمة مؤثرون على وسائط التواصل الاجتماعي يؤدون أدوارًا أعظم بكثير من المثقفين العاملين في حقول الثقافة والإبداع، من خلال ملايين الأشخاص الذين يتابعون حساباتهم. لقد تغير مفهوم المثقف في هذا الزمان، وتراجع دور المثقف المتداول في القرن الماضي، ليضمَّ شرائح واسعة من الفاعلين التواصليين، والناشطين على وسائط التواصل الاجتماعي. ويمكن لهؤلاء أن يؤدوا دورًا عظيمًا في تغيير المواقف العالمية تجاه القضية الفلسطينية. وثمرة ذلك هي هذه المظاهرات الحاشدة التي تخرج في مدن العالم، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، من عمان إلى لندن، ومن بيروت إلى تورونتو.

لا شك أن العالم يتغير، برغم ما يصرفه الكيان الصهيوني، وداعموه في الغرب، من أموال كثيرة، لاستمالة ورشوة النخب السياسية، والثقافية، والإعلامية. وما نشهده في شوارع العالم الآن هو صحوة حقيقية. إن فلسطين في ضمير العالم، وهذه أكبر هزيمة منيت بها إسرائيل خلال أقل من أسبوعين، فمئات آلاف الأطنان من القنابل الأمريكية التي ألقيت على رؤوس أهل غزة، وآلاف الأطفال الذين قتلتهم، وعشرات آلاف المباني التي محتها من الوجود، وضعت وجود إسرائيل نفسه، لا صورتها فقط، في مهب الريح.”