دور المرأة في الحفاظ على الهُويَّة الفلسطينية

بقلم: لطيفة محمد حسيب القاضي.

كانت وما زالت المرأة العربية عنصرًا محوريًّا في بناء المنظومة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة، فقد سجَّلتْ حضورًا نضاليًّا منذ العهد النبويِّ لسيِّدنا “محمَّد” عليه الصَّلاة والسَّلام، فكانت “رُفيدةُ الأسلميَّة” صحابيَّة وممرِّضة، فهي أول ممرضة وجرَّاحة في الإسلام، وأيضًا الصحابية “الخنساء” -رضي الله عنها- كانت مجاهدة وشاعرة في صدر الإسلام، وكثيرًا ما يحدث تهجُّم على المرأة العربيَّة  من قِبَل المجتمعات الأخرى، فهي مثالٌ على الدور الكبير الذي تلعبه في المجتمع العربي والإسلامي،وسنعرض في مقالتنا لليوم نموذجاً عن المرأة العربية وهي المرأة الفلسطينيَّة   فقد عملت على

 التصدِّي للانتداب البريطاني، وقاومته من خلال الانخراط المباشر في صفوف الثورة الفلسطينيَّة التي انطلقت منذ الرُّبع الأول للقرن العشرين، كما أسهمت في إغناء المشهد الثقافي الفلسطيني، واقتحمت أبواب التعليم منذ نهاية الحكم العثماني، وأدَّت أدوارًا مختلفة في الحياة الاقتصادية؛ فكانت التاجرة، والمزارعة والمعلِّمة والطبيبة والممرِّضة، لم تترك مجالًا للعمل إلا وكانت مشاركة فيه. ومع انطلاقة الثورة الفلسطينيَّة المعاصرة أسهمت المرأة الفلسطينيَّة بشكل فعَّال في مسيرة الثورة، فقدَّمت المرأة مئات الشهيدات، وشاركت في قطاعات الثورة.

إن مسيرة المرأة الفلسطينية عبْر تاريخها النضالي كانت نبراسًا للمرأة العربية، فكانت ضمن منظومة الفكر العربي والإسلامي.

لا جرمَ أن المرأة الفلسطينية هي المناضلة، والأم، والمعتقلة، والمربِّية، لقد أدركت بوعي عالٍ أن دورها بجانب دور الرجل في الحفاظ على الموروث الثقافي والهوية الوطنية الفلسطينية، فتشكَّل لها وعيٌ محليٌّ حول أهمية دورها ورفع قيمتها في المجتمع الجمعي، فشاركت في المظاهرات، وساعدت الفدائيين بإمدادهم بالغذاء والدواء، وكانت تعمل على حماية الشَّباب من بطش واعتداءات الجنود الصهاينة.

وعلى الصعيد الثقافي تعدُّ المرأة الفلسطينيَّة محورًا أساسيًّا  من محاور التنمية الثقافيَّة في المجتمع؛ وذلك لأنها تمتلك المقوِّمات الفكرية والإبداعية التي تستطيع من خلالها التعبير عن الهموم والقضايا التي تشغلها؛ الأمر الذي أدى إلى حفاظها على الهوية الثقافية، وينضوي ذلك على الحفاظ على العقيدة واللغة والتاريخ ووحدة المصير؛ لذلك فإن الهوية تحمل دلالتها من المحددات الأساسيَّة لثقافة الأُمَّة؛ لأنها تلصق الماضي والواقع لتنفتح أمام المستقبل، وتعتبر الهوية الثقافية للمرأة نموذجًا ثقافيًّا بحتًا وموروثًا يخرج من منبع الثوابت التاريخية والطبيعية والبشرية والثقافية التي تتميز بالثبات، وعلى نفس المنوال تتغير وتتطور عبر الأزمنة المختلفة من حيث أن الثقافة هي أحد أعمدة العادات والتقاليد وأنماط السلوكيات والمثل والعقائد والقيم الإنسانية.

وعلى المستوى الاجتماعي، لقد قامت اللجان النسوية بالمساعدات التعليمية والصحية والاقتصادية؛ ففي ذلك الوقت كانت المرأة تستخدم أسلوب التعليم المنزلي؛ حرصًا منها على تعليم أطفالها ومتابعة العملية التعليمية بشكل مكثَّف؛ كون التعليم سلاحًا فعَّالًا في مواجهة الاحتلال. فقد أدت المراة دورها في الحفاظ على الأُسرة من الانهيار النفسي والمعنوي بسبب الحروب المتتالية، وعملت على مؤازرة ذوي الشهداء والمعتقلين وتقديم العون لهم.

كان دور المرأة في الحفاظ على الهوية الوطنية كبيرًا، وذلك من خلال محاولات الاحتلال وسياساته القمعيَّة لكسر صمود الشعب الفلسطيني، وشطب هويته وموروثه الوطني، وانعكس ذلك على المرأة، فأصبح الحفاظ على الهوية الوطنية من أولويات المرأة الفلسطينية، فعملت على تكريس الهوية بطرُق مختلفة، مستمدة ذلك من الواقع الذي تعيشه، فظهرت المرأة في ميادين النضال الفلسطيني؛ بداية من المنزل، مثل: إسعاف الجرحى، ثم الحياكة، إلى الشارع للمظاهرات والمواجهات مع قوَّات الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى نطاق الذاكرة، لعبت المراة دورًا مهمًّا في الحفاظ على الهوية والتاريخ الفلسطيني ذلك لدحض رواية الأعداء الصهاينة ومحاولة استبدال الرواية الفلسطينية؛ وبالتالي طمس الهوية وبعثرة الذاكرة الوطنية الجمعية التي يحرص كل فلسطيني على التمسك بها؛ لأن الذاكرة هي محور أساسي للتاريخ الشفوي؛ ذلك أن المرأة  لها دور في حفظ الذاكرة والتدقيق في التفاصيل من خلال الحكاية الشفوية؛ لأن لها القدرة على الإفصاح عمَّا كان يدور من أحداث عبر الزمان والتاريخ، ومهما كانت الظروف إلا أنه يعتبر واجبًا وطنيًّا نضاليًّا أن تنقل المرأة التاريخ بين الأجيال.

ومن ناحية التراث والفن كانت المرأة الفلسطينية تُتقن فنَّ التطريز اليدوي، وأيضًا الحياكة؛ ولذلك تتميز فلسطين بالتطريز على الأثواب، مثل: تطريز علَم فلسطين،  وتطريز شكل المفتاح الذي يُعبِّر عن التمسُّك بحق العودة، وأيضًا الزيتونة والأرض للتعبير عن معاني ومكان الأرض في وجدان الشعب الفلسطيني، وكلها رموز تراثية شعبية من المطرزات، استطاعت المرأة من خلال هذا الفن أن تحافظ على الهوية والموروث الثقافي الإبداعي المميز الذي يميز الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب العربية؛ تأكيدًا منها على التراث، والتصدي للمحاولات الممنهجة التي يقوم بها الاحتلال لسرقة التراث الشعبي الفلسطيني.

وعلى مستوى اللغة، فإن اللغة تعتبر عنصرًا مهمًّا من عناصر الهوية الثقافية؛ لأن كل لغة تُعبِّر عن هوية ثقافية خاصة بالمجتمع الذي يعمل على توظيفها في الاتصالات المختلفة؛ ولذلك تجدر بنا الإشارة إلى اللهجات التي تتعدد في اللغة الواحدة، فمثلًا من خلال العادات والتقاليد يتولد لدى الأفراد الذين توارثوها أسلوب اجتماعي من خلاله يمكن التفاعل بين الأفراد؛ فهي الدعائم التي يقوم عليها التراث الثقافي في كل بيئة اجتماعية، ومن هنا يتوجب على كل مواطن فلسطيني أن يرفع المستوى الفكري للحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، وأيضًا تفعيل دور المؤسَّسات المجتمعيَّة والتربويَّة للحفاظ على الهوية، وزرع القيم والأخلاق والعقيدة السليمة من خلال أيديولوجية الأفكار السليمة وحُبِّ الوطن.

وعلى الصعيد التنظيمي والنقابي شكَّلت المرأة العديد من اللجان التي تميزت بامتدادها الجغرافي الشامل لمدُن وقرى ومخيمات فلسطين، فعملت على تنظيم العديد من الحملات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية ونشر التوعية لاستقطاب أكبر عدد من الكوادر النسائية للعمل في الاتحادات المختلفة لخدمة شعب فلسطين ومواجهة تحديات العدو.

فكان بذلك دور المرأة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية والتراث الشعبي، وربط كافة المجالات الثقافيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للدفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة وإبرازها للعالَم، وتذكير الأجيال القادمة بالتراث والهوية الوطنيَّة الفلسطينيَّة.

العدد 125 / شباط 2022