رسالة إلى المسلمين: لا خلافة لا رجال دين لا دولة دينية في القرآن

رؤوف قبيسي:

هنا لا بد من التذكير بموقف شيخ الأزهرالسابق، محمد سيد طنطاوي، من الحجاب في فرنسا، عندما وقف إلى جانب الحكومة الفرنسية في منعه في المدارس، قائلاً إن لكل دولة قوانينها، وعندما أحلّ الفوائد الربوية لدى البنوك، واعتمد التيسير، وأدرج كتابه  »فقه التيسير« في برامج التعليم في الأزهر، بدلاً من كتب المذاهب الأربعة )الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي(، في بادرة رحب بها المعتدلون وكانوا الغالبية، وأثارت حفيظة قلة من المتنطعين والمتحفظين، الذين ما إن علموا برحيل الشيخ، حتى تنفسوا الصعداء، وأوقفوا العمل بكتابه! علينا أن نفهم رجال دين ، مثل الشيخ محمد سيد طنطاوي، ومثل الشيخ الجليل عبد الله العلايلي، وإمام كبير مثل الشيخ محمد عبده، لندرك أن بعض ما في القرآن من قوانين وتعاليم هي  »أشكال« لزمن معين، ومكان معين، ولا تتماشى مع عصر كعصرنا الذي يشهد أكبر ثورة معرفية وتكنولوجية في التاريخ، وأما في« الجوهر« فالقرآن كتاب باق لا تستقيم الحياة من دونه، وصالح لكل زمان ومكان.

في  »العهد القديم« من  »السيف« والترهيب أكثر مما في القران. نقرأ في سفر إرميا:  »ملعون من يمنع سيفه عن الدم«، ونقرأ في سفر حزقيال:  »فزعتم من السيف أنا أجلب عليكم السيف يقول السيد الرب«، وفي سفر صموئيل:  »الآن اذهب واضرب عماليق، وحرّموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعاً، بقراَ وغنماً، جملاً وحماراً«. أما في العهد الجديد، فلم يتورع  »يسوع« الرحمة والمحبة، الذي قال لأتباعه، أحبوا أعداءكم باركوا لاعينيكم، لم يتورع عن الأخذ بالترهيب. في أحد المواقف يدخل الهيكل ويأخذ بالسوط، يقلب موائد الصيارفة ويصرخ في وجه الجموع:  »بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص«.  »مسيح« الرحمة هذا قال أيضاً:  »لاتظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً«.

من  »المسيحيين« ورجال الكنيسة من يعترض على هذا التفسير، بحجة أن كلام  »يسوع« هنا استعارات ورموز لمعان أخرى، ولا يصح إخراجها من السياق العام الذي يرسم شخصيته الرحيمة السمحة، وأن  »يسوع« الذي قال لبطرس  »من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ«، لا يلجأ إلى العنف. مهما يكن التفسير، يبقى  »العنف« هنا واضح، ولو على نحو رمزي ومجازي، هو أمرلا يشين الرسالة على أي حال، لأن  »يسوع« القائل:  »ما جئت لأنقض الناموس جئت لأكمل«، والذي لم ينقض شريعة  »موسى والأنبياء«، هو ذاته  »يسوع« الذي قال غير مرة:  »قد قيل لكم كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم«. خرج من التقليد ليحفظ الوصية، وترك للناس حرية وضع النظام الذي يلائمهم، كما في قوله:  »مملكتي ليست من هذا العالم«، وفي قوله الآخر:  »أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله«، هكذا وصلت رسالته في الأناجيل الأربعة المعتمدة، بسيطة وديعة غنية وقوية،. أما ما شابها من طقوس وشروح في ما بعد، فلا علاقة له بالجوهر، بدءاً بتفسيرات  » الرسول بولس  »، الذي يرى كثيرون، ومنهم جبران في كتابه  »يسوع ابن الإنسان« أنه، أي بولس،  »أفسد رسالة الناصري بما أدخل عليها من تعاليمه«!

  في حياته وكتبه وأبحاثه، أخذ الشيخ اللبناني الجليل عبد الله العلايلي بشعار عنوانه:   »ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقق المعرفة«، وقال:  »لأية جماعة الحق أن لا تتصل بالسماء عن طريق محمد«. وجد الشيخ الراحل في التدين تعصباً وتحجراً وجموداً، وفي الإيمان حياة وخلوداً. بهذا المعنى تكون  »الدولة الدينية« التي يريدها المتدينون، دولة تعسفية مهينة لمعتقدات من لا يدين بدينها، دولة أحادية تأخذ جانباً واحداً، وتعتبر السائرين على مذهب غير مذهبها مواطنين من درجة ثانية وثالثة، هذا إذا أبقتهم أحياءَ! هذه  »الدولة الدينية« التي يريدها الإسلاميون، لم توجد في التاريخ، ومن حسن الطالع أنها لم توجد، لسبب بسيط هو أنها مخالفة لروح القرآن! كانت هناك دول تقنعت ببراقع الإسلام، كما الدول المحسوبة على الإسلام اليوم، لكنها لم تكن إسلامية، وكانت أبعد ما تكون عن القرآن.

نتساءل: هل كانت الدولة الأموية إسلامية؟ هل كانت الدول الأخرى: العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية والصفوية دولاً إسلامية حقاً؟ بالاسم كانت، لكنها لم تكن إسلامية. أما الخلافة الراشدية التي جاءت بعد موت الرسول، والتي يتغنى بها  »المسلمون« فلا نعرف عنها إلا ما تفيدنا السير، خصوصاً السيرة الأولى التي وضعها ابن هشام )توفي 833 ميلادية(  نقلاً عن سيرة ابن اسحق، بعدما هذب سيرة هذا الأخير وشذبها كما قال في مقدمة الكتاب. سيرة ابن اسحق هذا مفقودة، ومن المؤرخين من لا يعتّد بسيرة ابن هشام، ويعتبر فترة مئة السنة الأولى من تاريخ الإسلام  »منطقة سوداء« يكتنفها الغموض، ولا أحد يعرف عنها شيئاً، ولا يوجد دليل واحد  »حسي ملموس« في متاحف الدنيا يعود إلى السنوات الأولى من تاريخ الإسلام، لا قطعة نقد، ولا مخطوطة، ولا شيء آخر البتة، وكل ما يقال عن  »مصحف عثمان« ورسائل  »النبي« إلى كسرى، ورسائل عمر بن الخطاب إلى ملوك الفرس والروم، وشعرة  »النبي« وسيفه في متاحف اسطنبول لم يزل مثبت علمياً. لا شيء من هذا كله صمد ويصمد أمام الفحص الكربوني!  حتى  »العهدة العمرية«، أي الرسالة التي تقول الكتب إن عمر بن الخطاب وجهها إلى أهل إيليا )القدس( يعطيهم فيها الأمان لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، لا وجود لها في أي متحف، موجودة في الكتب فقط، وبنصوص مختلفة، منها ما هو صلحي ومنها ما هو عدائي! يرويها الطبري في كتابه  »تاريخ الأمم والملوك« بنص يختلف عما رواه إبن كثير في  »التفسير«، وما رواه إبن عساكر في  »تاريخ دمشق«، وما رواه ابن القيم الجوزية في  »أحكام أهل الذمة«، أما ما جاء عنها في كتابات ابن تيمية، وما يتقيد به الداعشيون هذه الأيام، فرسالة استسلام مهين للمسيحيين! مهما يكن، هذا  »التزوير« ليس وقفاً على تاريخ الإسلام وحده، تاريخ الأديان كلها يحفل بكثير منه أيضاً. لقد ظل العالم  »الكاثوليكي« مئات السنين يتبرّك بقطعة قماش ملطخة بالدم، موجودة في مدينة تورينو في إيطاليا قيل إنها كانت على جسد  »المسيح« وقت الصلب، إلى أن جاءت  العلوم الحديثة وفحوصات الأشعة الكربوينة لتدحض هذا الاعتقاد، وتبيّن أن عمر هذه  »القماشة المباركة«، لا يتعدى 1300 سنة!

المشكلة في تاريخ الأديان، هي أن غالبية الناس لا تريد أن تسمع بالحقيقة الجارحة أو تراها! كان أرسطو يقول عن معلمه أفلاطون:  »أريد الحقيقة وأريد أفلاطون، لكني أريد الحقيقة أكثر مما أريد أفلاطون«. يبقى أن الأمر الذي لا تدركه غالبية الناس، هو أن الحقيقة الجارحة، التي تهز عقول المتدينين ووجدانهم هزاَ عنيفاً، هي أفضل السبل للوصول إلى الإيمان النقي المجرد، الخالص من كل وهم. بهذه الحقيقة تبرأ النفس من أوضار الخرافة، وتغدو حرة عاقلة، وبها تتجلى سلطة العقل الذي لا إمام غيره، كما يقول شاعرنا العظيم أبو العلاء المعري. السعي وراء الحقيقة يجعلنا اليوم نتساءل: أليست تنظيمات مثل  »داعش« والقاعدة وأخواتها، ضرباً من ضروب الوهم، والقراءة الخاطئة للنص، والفهم البدائي للإسلام وتاريخ الإسلام؟!