هاني نقشبندي

لم يحدث في حياتي أن خاطبت أرواحاً غيّبها الرحيل، ولا أدري ما هو السبب الذي يحملني الآن على أن أصطنع هذه اللغة مع صديق غاب وترك فراغاً أي فراغ. أتخيله الآن أمامي حيا من لحم ودم، وفي صورة يراها الناس ساطعة نضرة، لكنهم لا يلحظون ما في العينين من سمات الوجع، وما على الخدين من دموع الوداع، مثل قطرات من الطل تنساب على عشبة خضراء، ثم تهوي على صفحة نهر صغير، لتعود إلى منتهاها في البحر الذي منه خرجت.

أتكون الحالات المُرّة التي اختبرتها مع صديقي في بلاد غريبة هي التي كانت تفتح عيني غصباً عنها، وتجعلها تلحظ في عينيه ما ليس مرئيا أمام أعين الناس؟ هي حال الغربة والوحدة والخلافات الزوجية التي كانت تحول أحياناً بين صديقي، ورؤية وحيده البالغ من العمر 6 سنوات. أتمثله الآن يودعني الوداع الأخير، منتظرا ما سأقول، عارفا بالذي سأبوح به، وبأنني لن أتردد في الكشف عما هو مستور، لأرد على من كان يسأل: كيف ذهب هاني مع الريح؟ …  حين بلغني نبأ الوفاة بقيتُ في دائرة الشك، إلى أن هاتفت طوني خليفة، المدير العام في قناة “المشهد”، حيث كان صديقي يعمل، فأكد لي الخبر، وقال إن العاملين في القناة المذكورة، اتصلوا بالراحل مرات عدة، من دون أن يتلقوا جواباً، وحين اعياهم عدم الرد، اتصلوا بالشرطة التي فتحت باب الشقة ليجدوا هاني نقشبندي جثة هامدة.

في قديم الزمان جاء في المأثور: “لا خفي إلا سيظهر”. فليظهر إلى العلن من الآن إذن، هذا الذي أعرفه أنا وتعرفه أنت يا هاني، أم تريدني أن أبقي عليه مكتوما؟ كثيرون من الذين عرفوك وقرأوك في الكتب والمجلات والصحف، وشاهدوك على الشاشات كانوا يتساءلون: هل كانت سكتة في القلب أم سكتة في الدماغ، أم تراه كان انتحاراً؟ وإذ أكدت لكل من سأل أنه لا يمكن أن يكون انتحاراً، بحكم معرفتي بالراحل ودقائق شخصه وسجاياه، بقي بعضهم يتساءل: كيف يغيب وجه نضر في العقد السادس من العمر؟ مهما يكن، لن أبقيها مستورة يا هاني، شهادة الحق والحقيقة هذه، عن وجع كنت أراه يتسرب إلى روحك، ويجعل حياتك شقاء ما بعده شقاء، وأفهم الآن، وقد أصبحتَ في حضن الطبيعة، أنه كان السبب الأكبر الذي عجّل في رحيلك!

نعم يا صديقي. لا يكفي أن يقال إن الروح تخرج من الجسد حين يتداعى الجسد، أو حين تكشف تقارير الأطباء علة هنا أو علة هناك. لا بد أن هناك توصيفاً عن الرحيل غير هذا التوصيف، وانت أخبر الناس بذلك! أعرف كم كانت قاسية عليك تلك الأشهر التي قضيتها في بروكسل، ولم يكن يخفف من أثقالها وقساوتها إلا مجيئك إلى شقتي بمنطقة “جت”، تشكو لي همومك وشكواك من البطالة والوحدة القاتلة التي كنت تعيشها وحيدا، فأعّد لك وجبات لبنانية كنتَ تحبها وتثني على مهارتي في الطبخ وتقول عني إني “سُفرجي” خمس نجوم، فاضحك وتضحك! لا يا صديقي الجميل؛ لا نجوم ولا شيء من هذا القبيل. هو شعورك بالراحة وأنت معي، وحبنا للحياة والنكتة والحرية الذي كان يضفي على الطبق ويجعله شهياً. هنا أريد أن أفصح عن شيء آخر عنك ربما لا يعرفه كثيرون، هو أنك كنت مؤمنا، ولا أخفي عليك أني استغربت في المرة الأولى التي دعوتك فيها إلى الغداء، رأيتك، بعدما فرغت من الطعام، تنتحي، زاوية في الصالون وتصلي، وكنتَ في ليلة سبقت، تشاركني فرح الحياة وأنغامها في تلك الساحة العريقة الكبيرة التي اسمها “غراند بلاس”، المفتوحة محلاتها وحاناتها لكل صنوف البشر. هكذا كنتَ يا صديقي، مؤمنا ومعاصراً في الوقت نفسه، منفتحاً على الأرض والسماء، ومحبة الناس، من كل لون وعرق ودين، لا تحفظ ولا تزمت، ولا عصبية هوجاء أو غير هوجاء.

كانت بروكسل تجربتنا الأولى. التجربة الثانية كانت في شقتي بمدينة أنطاليا على الساحل المتوسطي في تركيا. كانت مُرّة كمثيلتها الأولى، لأن جائحة “كورونا” سجنتنا أشهراً. أتذكر الساعات الطوال التي كنا نقضيها على الشرفة الكبيرة المطلة على المنزل الذي عاش فيه مؤسس الجمهورية التركية مصطفي كمال أتاتورك، في اثناء زيارته أنطاليا في ثلاثينات القرن الماضي، وما كان بيننا من حوارات في السياسة والدين والأدب والتاريخ والفلسفة. يومها اختبرت فيها سعة معارفك في هذه الحقول مجتمعة، كما لم أختبرها من قبل، وشهدت معاناتك في البحث عن عمل يخفف عنك أثقال الحياة والتزاماتها المادية، كما شهدت لوعتك على صغيرك في بروكسل، وشوقك الدائم له في عقلك وقلبك. دامت التجربة الأنطالية أربعة أشهر قضيناها معاً، لكن معاناتك استمرت حتى بعد ذهابك للعمل في دبي، ولهذا السبب أردت أن أكشف عن “المستور” الذي كان يساور روحك، والذي عجّل في رحيلك.

قريبا سأذهب إلى أنطاليا، وأعرف من الآن أن جلساتي على تلك الشرفة المطلة على الحديقة الكبيرة لن تكون كما كانت، والحق وحده يشهد كما أنا حزين على فراقك. وإذ استرجع الآن خيالات تلك التجارب من حافظة السنين، أجد أنها كانت، بالرغم من قساوتها عليك، أجمل أيام عمري. ولقد نظرت في نفسي وتأملت، لأعرف الدافع أو العامل الذي جعل من روحين روحاً واحدة، إلى أن وصلتني رسالة هاتفية من صديق لي حميم مقيم في أستراليا، وفيها صورة باقة ورد على نافذة بيت عتيق جميل، كتبت حولها كلمات تقول: “هناك أشخاص يصافحون القلوب قبل الأيادي”! نعم يا صديقي هاني، لقد صافحت قلبي قبل أن تصافح يدي. ذكراك ستبقى في البال، وأقول لك ما قاله مدير “المشهد” في رثائك: ليتني ما عرفتك، من حظي أني عرفتك. هذا ما اشعر به، وسأظل أشعر به كلما ذُكر اسمك أو بان لي طيفك.

كان جبران خليل جبران أديبا وفناناً. في أول معرض أقامه لرسومه في بوسطن، وكان بعدُ فتى يافعاً، حضرت إلى المعرض سيدة أميركية، فاستوقفتها من بين أعماله، لوحة “فوارة الألم”، وسألت جبران عن الدافع الذي جعله يصور تلك اللوحة، فقال لها إنه الموت الذي أخذ أمه واخته وأخاه في سنة واحدة، وقد ماتوا جميعهم في بوسطن وبمرض السِل. بدأت السيدة تتأمل تلك اللوحة ملياً، وبدأت تشعر بمعاناة الصبي اللبناني المهاجر، ثم توجهت إليه قائلة: أشعر بأحزانك يا سيد جبران، لأني أنا أيضاَ فقدت أمي، فرد عليها جبران قائلاً: “رابطة الألم اقوى من رابطة الدم”.  كان اسم تلك السيدة ماري هاسكل، وكانت تكبر جبران بعشر سنين، وفي تلك اللحظة صافح قلبها قلب جبران، ثم شاءت الأقدار أن تصبح “ملاكه الحارس”، وتحبه حباً عذرياً، دام بينهما إلى اليوم الأخير من حياة جبران سنة1931، وعمره آنذاك لم يتجاوز الثامنة والأربعين.

لقد جِئتُ على ذكر هذه الحادثة من حياة جبران يا هاني، لأنهي رسالتي إليك بهذه الكلمات الأخيرة: معاناتك وأحزانك فهمتها كما أفهم نفسي. هي السر وراء رحيلك، وهي السر وراء هذا الرباط الدهري الذي جمعنا في فترات متقطعة من حياتنا على هذه الأرض. ليتني ما عرفتك. من حظي أنني عرفتك، رابطة الألم أقوى من رابطة الدم.