رواية “الواعظ” للكاتبة والصحفيّة ضحى عبد الرؤوف المل

نسرين الرجب

“الأديب يجب أن يتواقح أدبيًا كي يتمرد على ثوابت عالمه الزائف

تُشكل رواية الواعظ للكاتبة والصحفيّة “ضُحى عبد الرؤوف” الصادرة عن دار الفارابي في طبعتها الأولى 2020، محاكاة للواقع الحالي، ومحاولة للإحاطة برموزه، لا ينحو السرد فيها مسلكًا واحدًا، بل يتّخذ عدّة مسارات وتعرُجات، يطولُ ويقصر، يشتدّ ويتباطأ بحسب ما تستدعيه الحالة العامة للحكاية، “الواعظ” هو الشخصية الرئيسية في الرواية،

الكاتبة والصحفيّة ضُحى عبد الرؤوف

وهي تسمية أُلقيت عليه ليس من باب الوعظ الديني والسلوك القويم، بل لأنه متبّحر في علم المعرفة ومتسع الأفق والثقافة بما منحته إليه سنوات القراءة في مكتبة الأصلع.

فضاء الرواية

نجد في الرواية تسميات من قبيل (الأصلع، البرنسيسة، أبو الخل، السبع، أبو الزيك) وهي مسميات تتماهى مع الواقع وتُجاريه، فضاء الرواية يتنقل بين عكار وطرابلس والمرفأ الذي شكل نقطة استقطاب مهمة في الرواية، حاولت الكاتبة من خلاله الإشارة إلى أهمية المرفأ ومرفأ طرابلس بشكل خاص الذي شكّل ممرًا مهمًّا للتجارة العالميّة ولتبادل أنواع مختلفة من البضائع، المهرّبة والشرعية، وعن الحدود السورية اللبنانية والعلاقة التي كانت تربط البلدين وتشد أزرهما وسهولة التنقل بينهما لغرض التبادل التجاري. المرافئ التي يلتقي بها لبنان مع مرافئ دول أخرى، التجارة الحرة ، وقصة المرافئ قصة كبيرة جدًا كنقاط  فهي تستقطب التجارة العالمية، وحاليا هي ترسم كنقاط لاستقطاب التجارة،

        حمّلت الكاتبة روايتها الكثير من الرموز، مثل رمزية البئر والأخ والتي تتماهى مع قصة العلاقة بين لبنان وسوريا والتي تحرص الكاتبة على الإشارة إليها دائما كما في روايتها السابقة  “زند الحجر”، وذلك لقوة التأثر والتأثير الحاصل بين البلدين في الحرب والسلم في البناء والخراب- كما توضح الكاتبة- وكانت التفاحة هي إشارة رمزية إيحائية إلى أهمية مرفأ طرابلس في المستقبل وللمرفأ تاريخ طويل  من قصة الفدائيين حيث كانت طرابلس داعمة بهذا الزمن ومساندة للفدائيين.

وتحدثت عن البكوية في عكار قديما، وفي مكمن آخر قصدت الإضاءة على البيت العكاري القديم حيث الغابة السوداء في سلفايا باخ في ألمانيا (مكان إقامة الواعظ برفقة زوجته)  والتي تشبه كثيرا غابات عكار الحرجية الكبيرة، المسكوت عنها والتي تستحق أن تكون مزرًا وأن تحوي على فنادق عالمية، لكي تنفتح أكثر وتكون استثمارًا لأهلها.

       النساء والجنس

        تناولت الرواية عدّة موضوعات، ولجأت إلى عدّة حيل نفسية واجتماعية، حاولت الكاتبة من خلالها دراسة شخصية البطل وعلاقته بالواقع والمُحيط، فهي تناولت موضوعات جنسيّة بدأت بتجربة التلصلص التي حدثت مع الطفل “عبدو” (الواعظ) الذي كان هاربًا من عقاب والديه له بعد وقوع أخيه في البئر وعجزه عن مساعدته، ولجوئه إلى منزل فريدة الزنبق الذي يقع في قرية على مبعد من قريته،  ومشاهدته لها في وضع جنسي وهو مختبئ في المنزول، مما ولد لديه رغبة دائمة بالتلصلص ومتعة خاصة جمعت بين المحرم والمقدس، فهو يملك مشاعر جنسية اتجاه فريدة ولكنه غالبها وكبتها في نفسه لرعاية الأخيرة له واهتمامها به كأم،  فحرص على الاهتمام بها والخضوع لمشاعر الأمومة التي أغدقتها عليه، وأرسلته إلى الكُتاب ليتعلم، وتوسطت لديه عند الأصلع شريكها الجنسي الذي تحبه ، كي يأخذه إلى العمل معه. وكانت هذه العادة المكتسبة (التلصلصية) سببا لامتناعه عن إقامة علاقات تامة مع النساء عند بلوغه سن الرشد.

        في الرواية الكثير من النساء المختلفات واللواتي ظهرن خلال حياة الواعظ، وكان له علاقة بهن من قريب أو من بعيد، نساء القرية ونساء المدينة، فتوضح الكاتبة ذلك: ” في عكار تختلف النساء عن بعضها البعض من فريدة إلى خديجة إلى سهام ، وكذلك الجنس بالنسبة للمرأة يختلف من امرأة لأخرى، تقبلها له أو نفورها منه، سهام كانت شخصية متحررة بقدر ما هي خادمة، غير فريدة التي كانت راضية عن علاقتها مع الأصلع وسعيدة به، شخصية المرأة العكارية قديمًا كانت أقوى من الآن، من حيث القدرة عى المواجهة والحكي مثل شخصية سحر، وطبعًا هناك نساء لم يظهرن كفاية ولكن كان لوجودهن أثر”.  والمرأة الأجنبية، والتي لا يمكن للرجل الشرقي أن يقمعها أو يحدد لها طريقها كما في حكايته مع ماتيلدا الألمانية الرسامة التشكيلية التي عرضت عليه الزواج، واختفت بعد مرور مدّة قصيرة على زواجهما لتظهر لاحقًا في حياته منقذًا بعد حادث انفجار المركب وفقدانه رِجله وأخيه “أبو الزيك” أيضًا الذي للمرة الثانية جمعه القدر به ولكن لم يكتشف الأمر إلا بعد فوات الأوان.

        أخذته ماتيلدا إلى ألمانيا، أسسا مأوى للنساء العجائز وعاشا معًا في وداعة وسلام، متناسيا كل تاريخه المأساوي في لبنان، إلى حين تبدت حنكة ودهاء ماتيلدا في مارلا ابنة أخيه. وبأسلوب ما ورائي محنك، يُرجع الواعظ الأمر إلى لعبة القدر، ولكن كما يبدو هنا أن حتى القدر هناك أياد بشرية تساهم في تصنيعه وتحيكه بعناية تتوافق مع مصالحها.

        بدا الجنس وكأنه طاقة الراوي، العلاقة مع المرأة، شهوة المرأة  (سهام أنموذجًا)، وعن ذلك صرّحت الكاتبة للحصاد: ” كتبت عن الوعي الجنسي عند المرأة والرجل لأنه غالبًا النظرة إلى موضوع الجنس عند النساء ينطلق من مبدأ الحلم السطحي الرومانسي  والذي يفتقد إلى المفهوم العميق للحياة الجنسيّة،  لهذا تصاب بصدمات متل صدمة “مارلا” في زواجها الأول، وكانت نتيجتها طلاقها، وفي الحوار الطويل الذي دار بينها وبين الواعظ الذي عمل على الوعي الجنسي لديها لخبرته بالنساء، ولعمق ثقافته التي نمت بالقراءات  المتنوعة  والمهمة من مكتبة الأصلع “

قدرة النساء وتأثيرهن المحنّك في المجال التجاري والاقتصادي: “كانت تعتمد على إيلي في تخليص الأوراق من مرفأ طرابلس، فالكسارات الآتية من اليونان بمنزلة الذهب الأبيض لبرنسيسة تمد بعض الرجال بآلات تأكل من جبل لبنان ما كانت تأكله دودة الحرير من ورق التوت”.

        دهاء الواقع

        تتحدث الكاتبة أنه في مرحلة ما كان النضال الفلسطيني قويًا جدًا، وقد قام الكثير من اللبنانيين في مرحلة معينة  بتهريب السلاح وتوصيله للفسطينيين.  ولكن  هذا العمل المقاوم قد حاد عن بوصلته كما يبدو، وأثر ذلك سلبيا على المدينة: ” حالة طرابلس بدأت تتراجع مع وجود الفدائيين بكثرة في المخيمات، والخلاف الذي ينشب بين المقاتلين في التظاهرات أحيانا “، “سيول المقاتلين الذين التهموها وتركها ممزقة وسط مستنقعات من الدماء وبعض المطلوبين للدولة”.

 تجارة الأسلحة ( تهريب السلاح بعد رميه قبل وصول الباخرة إلى الشاطئ والغطس ليلا لانتشاله وإدخاله إلى المخيمات).

تجارة المخدرات وعلاقتها بالتنظيمات المقاتلة:” فتح رغيف الخبز وأخرج منه حزمة الدولارات وناولني هي قائلا  لا بد أنها هذه المرة قوية المفعول أريد من المقاتلين أن لا يشعروا بالموت وهو يسقطون أو بوخز الضمير  عندما يقتلون فلا يقتلو”.

الغموض الذي يلف القضايا التي تتعلق بالموساد الإسرائيلي مثل محاولات اغتيال السبع من قبل المدرب الألماني والذي كان للمفارقة يدرّب الفدائيين، لا يمكن للكاتب أن يكتب من علٍّ ولذا فهو مجبر على النزول إلى الأرض لاختبار الأشياء في واقعيتها وهذا ما فعلته الكاتب والتي تحدثت عن تجربتها في زيارة مرفأ طرالبس، واستلهام سمات الشخصيات فيه  ومنها شخصية أبو الزيك، ” الرواية شبه واقعية لأن خيال الكاتب يصوّر ما يراه في الواقع ويتناسب مع مقوّمات وبناء الرواية”.

         حمل الفصل الأخير، فلسفة أكدت على أهمية المعرفة والثقافة، والتي قد تتحصل خارج نطاق التعليم الأكاديمي، من خلال القراءة والمتابعة، واستخدم الواعظ ثقافته المُكتسبة لاجتذاب مارلا، فالمرأة تُشكل للرجل الهاجس الأقوى، الذي يدفعه للبقاء على قيد الحياة – كما تقول الكاتبة- ومن دون المرأة يكون عيشه كئيبًا وهو ما واجهه الواعظ عند سفر ماتيلدا، حيث لجأ إلى صحبة مارلا والذي عمد إلى توعيتها من خلال الثقافة الجنسية، فهو قال لها أن كل رجل يريد صداقتك هو يبغي أمورًا أخرى ونسي نفسه أنه رجل فبذلك هو يقوم بما ينهاها عنه وهذه قصة كل إنسان، فترى الكاتبة أنه لا يوجد صداقة كاملة مع الرجل لأن هناك دوما محاولات لديه للدخول إلى عالم المرأة لكي يشعر بالمقبولية.

        الواعظ هو الإنسان في سعيه الوجودي، الذي يجمع بين الشر والخير، بين المعرفة والجهل، فهو كما قال الخوري جرجس له: ”  إن وجهك ليس بوجه الرجل البريء وستحمل حياتك سهامًا عديدة كل منها تصيب الإنسان بمقتل..”

العدد 119 / اب 2021