الأضلاع الملوّنة في مثلّث العظمة الدوليّة

الدكتور نسيم الخوري

تتقدّم استراتيجيات الصراع بين أميركا التي تعتبر نفسها قائمة عالميّاً مع الصين الدولة القادمة عالمياً، وتحديداً بعد أن فرّخت بذرة “كوفيد 19” الصينية انتشاراً يشغل أميركا والكرة الأرضيّة. يستتبع هذا الصراع بالطبع، معظم الدوّل حاملاً معه أبعاداً علمية/ثقافية بين الشرق والغرب أكثر من أيّ معنى خطيرٍ ظاهر. الجديد أنّ الثقافات تتواصل في عصر الكوكبة لا العولمة وكأنّها كائنات تتصارع مهددة بالانقراض والاختلاط.

ماذا نتوقع، لمستقبل دول مهملة في أقاصي الشرق الأوسط والأقصى بعيدة جدّاً عن أميركا، إذا كانت المكسيك، الجارة الأقرب والمتعلّقة بأذيالها اقتصادياً، تعاني من تهديم ثقافتها وبيئتها مع أنّها في حالة نمو طويل؟

هناك حقائق حضارية شغلت العصور كلّها وحاولت أن تنتشر بكلّ الوسائل، لكن ليس هناك من لا نهايات في حياة الدول وحضارات الشعوب وتأثيراتها بعد مهما بلغت قوّتها ونفوذها. أكتب هذا وأميركا تنسحب من أفغانستان لتّدافع عنها من قواعد عسكرية تبعد 8 ساعات طيران، مذكّراً بأنّ القواميس والموسوعات تزخر بأسماء سياسات مرعبة وحضارات وإمبراطوريات وشعوب كثيرة أفلت أو عادت إلى أصدافها، ولم يبق منها سوى ملامح أوسطور قليلة تُوقظ أحلاماً إمبراطورية يمحوها الزمان.

سؤال: كيف تبدو صورة أميركا العُظمى فوق الأرض اليوم؟

1- ارتاحت أولاً من الخط الأحمر أو الخطر الشيوعي وساعدها المسلمون في ذلك باعتبار البترول ماء الكوكبة وكلأ شعوبهم للانخراط في العالم. يعني سقوط الشيوعية إزالة العدو المشترك للغرب والمسلمين وترك كلاًّ منهما كي يصبح الخطر المُنتظر على الآخر. لقد رُسمت إشارة الدفن فوق قبر “هيجل” الجدلي، مع كلّ ما رشح عنه من ثورات كان لها إيقاعاتها في التاريخ المعاصر، وعاد الصليب “الأرتوذكسي” فوق صدر موسكو اليوم ناسياً مُعظم ما أنجزته الماركسية، أو تفوّه به لينين، بعد عودته من منفاه بأن” أياماً لا عقوداً تصنع التاريخ البشري”. لكنّ ارتياح موسكو الى الحاضر يخفي قلقاً عارماً من المستقبل، فحجم الولايات المتحدة في الشرق يتجاوز المتغيرات الكبرى في أفغانستان والعراق والدول المسكونة بالهلع وتعلّم الديمقراطية المستوردة التي لم تتضح معانيها، بما يخلّف ذبول الوحدة الأوروبية في القارة الموصومة أميركياً بحتميّة شيخوختها، ولو أنّها أنجزت وحدتها الاقتصادية المتعثّرة كما يبدو بالأعباء الضخمة.

2- تهادن أميركا وتصارع في الوقت نفسه الخط الأصفر أعني الخطر الصيني، وتشحن الغرب بالنظر الى الإمبراطورية التي سيطرت في آسيا ألفي سنة، وهي تستعيد قوّتها وتاريخها بتحدّيات عالميّة. صحيح أن الكوكبة وُلدت بهويّة أميركيّة، لكن الصحيح أيضاً أنه في الوقت الذي تحلم فيه معظم شعوب بتعلم الإنكليزية المسيطرة ويمارسون حضورهم الكوني عبر الشبكات العنكبوتية، نلحظ الأميركيين يفتتون بتعلّم اللغة الصينية. وقد لا يطول الزمن الذي نجد فيه تلك اللغة تحتل مساحات أوسع على الشاشات والأسواق. تُعتبر الصين قلعة الأقصى من الشرق وهي تغري إذن الفكر الغربي المعاصر اللاهث وراء هذا الشرق أو “عش الشمس” كما يسميها مثقفونا وطلاّبنا في الغرب بحثاً عن الحقائق والمعارف التي قد تُوقظ ذواتهم أو تجدّد فلسفات اليوغا ومشتقاتها باعتبارها موضة العصر في المعالجات النفسية التي تدمغ أهل الغرب الباحثين عن التخلّص من التعب الصناعي والضمور الفردي والأمراض في أزمنة تضافر فيه عنف الحضارات الصناعية وإغراقها بتضافر العنف أو رعبها من الأمراض الحضارية البيئية والسيدا والسارس وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والجمرة الخبيثة وغيرها من المظاهر العلمية التي لم تُفكك مراميها وألغازها بشكل كامل وصولاً إلى جرثومة “الكورونا” سليلة خطأ ما في المختبر الصيني. تزاحم الصين دول العالم بصمت؟ صحيح، ومن دون أن تتماهى بأيّة دولة حتّى أميركا التي تتماهى ببريطانيا العظمى البلاد التي لم تكن تغرب عن مستعمراتها الشمس.

3- تنشط الولايات المتحدة، بإعلان الحروب والإستراتيجيات المتبدّلة والمُبهمة على الخط الأخضر أو الخطر الإسلامي الأصولي حليف الأمس ولربّما اليوم. وعلى الرغم من الإقرار والتصريح بأن الإسلام دين التسامح، لكنّه إقرار لا يستقيم بكونه مبطّن بدرجات من العدائية التي تحرص عليها وقد تبثّها حروباً مفتوحة في عنوانين مرفوعين تحت مسمّى الشرق الأوسط الجديد من ناحية والفوضى الخلاّقة من ناحية أخرى تتقاطعان عبر مظلّات المال والإعلام والمؤسسات والسفارات الداعمة لهذه التوجّهات.

تُقدّم الأمركة نفسها، رمزياً، ببساطة الطبق الذي يوضع أمام الجائعين والعطاش في المعمورة، عبر المنظّمات الدولية التي لم تصل بعد إلى ما يُعرف بالمجتمع الدولي. وتحاول أن تشغل أطباقها “بالهمبرغر والكوك والبيغ ماك والبيتزا” وغيرها، فتخرق الأذواق والنفوس والعادات والثقافات وتطبعها تعميماً لملامح الإنسان الرقمي الأميركي عبر المواقع والشاشات. لكن بقايا الرغيف الثابت، اليوم، فوق طبقها العالمي، ليس “البيغ ماك” (الذي سلب لعاب الجماهير الثورية، سابقاً، في مدن اوروبا الشرقية وقراها) بل” البيتزا” التي تحمل في مذاقها وطرائق تحضيرها وتقديمها لشباب الأرض الطامحين الى أرضها وإنسانها ومجتمعاتها الرقمية الجاذبة. أذكّر بأنّ ” البيتزا” ليست أميركية، بل إيطالية استولت أميركا عليها وحوّلتها عن هويّتها الإيطالية، مع أنّ ايطاليا بلد أوروبي عريق، وحاضن الكاثوليكية التي يلجأ إليها لبنان بحثاً عن الخلاص الصعب بالحياد كي لا أقول المستحيل. روما باقية خلف إيطالية بهياكلها، وأمامها كسرة من الخبز وتُصلّي لأن تُطعم شعوب الأرض بالمحبة والتضحية وقبول الثقافات ومشاركة الآخرين أرغفتهم. باتت “البيتزا”، المعاصرة، قطعة خبز عالمية يضع كلّ شعبٍ في الدنيا فوقها حشائشه وذوقه وثقافته، لكنّها ستبقى أبداً ذي إيطالية مهما كانت الموضوع فوقها.

وعلى الرغم من أنّ أصحاب الخطر من العرب والمسلمين يضعون فوق رغيفهم السعتر البرّي المطحون من فلسطين والعراق ولبنان وسورية أو”الكشك” من ضروع الماعز المُقيم في رؤوس الجبال وغيرها، فإن أقصى طموحاتهم “منقوشة” يعشقها الغربيون في عواصمهم واقتصاد أسواقهم، وداعمة لصلابة الفقراء من العرب في زمن الشح كما هو حاصل في جوع لبنان اليوم جزءاً من ثقافة المقاومة الصلبة.

اجتازت أميركا الأرض والمياه، ونشرت مواقعها وثقافاتها معلنة ًحضارة الفضاء، لكنّها تبقى بصفتها المشرفة على “حضارة” النار” في حروب خياليةٍ، وهميّة ضائعة غير محدودة المساحة، لا حدود لها في قراءاتها لكنها تبدو اليوم وكأنّها تقاتل الأوهام.

العدد 119 / اب 2021