سكان اليابان وكوريا والصين يتراجعون والعرب والمسلمون يزدادون

كتبت مرة في إحدى الصحف اللبنانية مقالاً بينت فيه أن من بين الأسباب الرئيسية في تأخر البلاد العربية، والدول المحسوبة على الإسلام هو كثرة الإنجاب، مع أن القرآن ينهي عن الكثرة كما في الآية “ألهاكم التكاثر حتى زرتكم المقابر”، ويختمها بما يشبه التحذير: “كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لتروّن الجحيم”. أعود إلى هذا الموضوع بعد قراءتي قبل أيام خطاب رئيس وزراء اليابان فوميو كشيدا الذي وجهه إلى المشرعين اليابانيين، وحذرهم من خطورة أزمة تراجع عدد السكان في اليابان قائلا إن بلاده على وشك الوصول إلى حال تفقد معها القدرة على الحفاظ على الوظائف الاجتماعية، بسبب تراجع معدل المواليد، وأن اليابان لا يمكنها بعد الآن تنتظر وقتا طويلا لتحل هذه المشكلة، “فإما أن يكون الحل الآن، وإلا فلن يكون هناك حل أبدا”! وفي محاولة منه لتشجيع الشعب على الإنجاب، قال إن الحكومة ستضع مسالة تربية الأطفال في سلم اهتماماتها، وأنها ستنشئ وكالة حكومية خاصة مهمتها التركيز على هذه القضية.

وتعيش اليابان واحداً من أدنى معدلات الولادة بين دول العالم، مع أنها تتمتع بواحد من أعلى متوسط الأعمار، إذ أن واحداً من كل 1500 شخص فيها يفوق عمره 100 عام. وتتوقع وزارة الصحة اليابانية أن تسجل اليابان نسبة أقل من 800 ألف مولود عن العام 2022. وعلى مدى العقود الماضية قامت الحكومة اليابانية بمبادرات مختلفة لمعالجة التدهور السكاني، بما في ذلك سياسات جديدة لتعزيز خدمات رعاية الأطفال، وتحسين مرافق الإسكان للأسر التي لديها أطفال، حتى أن بعض مجالس المدن الريفية بدأت في دفع أموال للأزواج الذين يعيشون هناك لإنجاب الأطفال.

ليست اليابان وحدها التي تعاني مشكلة تراجع نسبة المواليد، فقد أظهرت بيانات عام 2022 أن المرأة الكورية الجنوبية، ستنجب في المتوسط 0.79 طفل في حياتها، أي أقل بكثير من 2.1 المطلوب للحفاظ على استقرار نسبة السكان، في حين يبلغ معدل الخصوبة في اليابان 1.3. أما في الصين فقد تقلص عدد السكان في عام 2022 لأول مرة منذ الستينيات، وكان آخر مرة انخفض فيها في العام 1996، خلال مجاعة أودت بحياة الملايين.

لا بأس أن أعيد ما كتبت يومها عن بعض البلاد العربية والإسلامية لأقارن كيف أن الدول التي تتمتع بوفرة في الماء والثروات يتناقص عدد سكانها، في حين أن الكثير من بلاد العالم الثالث التي تعاني الفقر والأمراض، ترتفع فيها معدلات المواليد بشكل مخيف. في العام 1950 كانت مصر 21 مليون نسمة، وبريطانيا 50 مليون نسمة. اليوم صار عدد المصريين أكثر من 110 مليونا، والبريطانيون 65 مليوناً، وإذا اقتطعنا من سكان بريطانيا 15 مليون نسمة، وهو عدد من هاجر إليها وتجنّس بجنسيتها منذ ذلك التاريخ، وجدنا أن عدد السكان الأصليين بقي على حاله، أي 50 مليون نسمة، في حين زاد عدد المصريين 90 مليون نسمة! رقم مرعب، يجعلنا نتساءل: كيف كانت مصر يا ترى لو أن المصريين حذوا حذو البريطانيين وبقي عددهم على حاله؟ حتماً معدلات الأمية والأوبئة والفقر فيها كانت لتكون أقل، والبلد أكثر نظافة، وأبهى عمراناً، وأفضل صحة، وأكثر تقدماً، وأنقى بيئة، وأقل ثقلاً على نفسه وعلى جيرانه، وعلى البشرية جمعاء، وفوق ذلك كله، أقل حاجة إلى القروض والمعونات!

إذاً، لماذا حدث في مصر ما حدث، حتى تصل نسبة الأمية فيها إلى 30 في المئة، ويعيش ربع شعبها تحت خط الفقر، ويعاني عشرة ملايين منهم، أمراض الفشل الكلوي الناجمة عن تلوث مياه الترع؟!

أهو الإسلام يدفع المسلمين إلى مزيد من الإنجاب، حتى كثر عددهم إلى هذا الحد، أم الفهم الخاطئ للنص؟ سؤال يتعين على “أولي الأمر من الأمة” أن يجيبوا عنه، ويجترحوا الحلول لمشكلات شعوبهم قبل أن تدخل البلدان “الإسلامية” في نفق لا ضوء فيه ولا نهاية، من الآن، وإلى “أن يرث الله الأرض ومن عليها”.

عن مصر “أم الدنيا” و”النهر الخالد”، كتب نجيب محفوظ مرةً: “كانت لنا في مصر مدينة أوروبية اسمها الإسكندرية”. نعم الإسكندرية، المدينة التي كانت إحدى المدن الجواهر على المتوسط، والتي سكنها فنانون وأدباء وشعراء شرقيون وغربيون مثل اليوناني كفافيس، ووضع لها سيد درويش أجمل ألحانه، وغنّت فيروز جمال شواطئها، وكتب عنها لورنس داريل رباعيته الخالدة، وألّف إدوار الخراط عنها كتابه الجميل “ترابها زعفران”.  اذهبوا وشاهِدوا ماذا فعل بها التكاثر. عودوا إلى صورها وأفلامها القديمة يوم كانت بحجم نفسها، وكيف أصبحت بعدما تضخمت وأنهكها التكاثر والتلوث!

نترك مصر ونذهب إلى إيران. في العام 1950 كان الإيرانيون 18 مليون نسمة، اليوم يفوق عددهم 90 مليون نسمة! لا فرق إذاً هنا بين عربي وأعجمي، “كلهم في الهوا سوا”، يختلفون في شؤونٍ عمرها من عمر الإسلام، أما في مسألة الإنجاب فهم متساوون كأسنان المشط، موحّدون على طريقتهم، غير آبيهن لما في النص، خارجين عنه إلى حد الكفر بالإنسان، كقيمة وروح وجوهر، وبطبيعة الأرض التي تكاد اليوم تضيق بسكّانها وندرة خيراتها.

في القرآن “الأرض يرثها عبادي الصالحون”، وفي الأناجيل: “كل شجرة لا تثمر تقطع وتلقى في النار”، هذا يعني أن الحياة لا تتألق إلا بالأخيار، أصحاب السواعد الطيبة والعقول الذكية المثمرة المنتجة على كل صعيد، والوحيدة المؤهلة لترث الأرض وخيراتها. في سورة الكهف قصة من أجمل قصص القرآن عن “نبيين من أنبياء الله”، هما الخضر وموسى. تقول القصة إن الخضر أراد السفر وحده، ولم يشأ أن يصطحب موسى وقال له: “إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبراً”. لكن موسى يلحّ على الخضر ليسافر معه ويقول له: “ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً”. يوافق الخضر أخيراً، فيحدث وهما في الطريق أن يرى الخضر غلاماً فيقتله، فيقول له موسى: “أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نُكراً”، فيردّ عليه الخضر: “ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً”، ثم يشرح له قبل الفراق، أسباب أفعال قام بها أثناء الرحلة، ومنها قتله الغلام، ويقول له إنه فعل ذلك بأمر من ربّه: “وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحماً. وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً”.

ما المعنى الذي علينا أن نستخلصه من هذه القصة المدوّنة بإيجاز لغوي لا نظير له، غير القول إن اللباب غير القشور، وإن الجوهر غير العرض، وإن النوع أفضل من الكم، وإن شجرة تثمر خير من شجرة لا تثمر، وإن ولداً صالحاً خير من ألف ولد طالح.

هل تريد أن تعرف أيها القارئ الكريم حجم الزيادة الذي طرأ على عدد السكان في ألمانيا وإيطاليا منذ 1950؟ كان الألمان يومذاك 67 مليوناً، وبقوا 67 مليوناً، أما الزيادة، 15 مليون نسمة، فهم الأجانب الذين وفدوا إلى تلك الدولة وتجنّسوا بجنسيتها. إيطاليا كانت 47 مليوناً، وزادت ثلاثة ملايين نسمة، أما الملايين العشرة الإضافية، فأجانب صاروا “طلياناً”.

لو أن سكان أوروبا زادوا منذ 1950 بنسبة زيادة سكان “العالم الإسلامي”، إلى أيّ حد كانت معدلات البطالة والتلوث والفقر والجريمة بينهم لتكون؟ لو أن الصين لم تكبح جماح شعبها وتحدد معدلات النسل، وزاد عدد سكانها بنسبة زيادة الباكستانيين؛ أي نتيجة كانت لتكون؟!

نقرأ أن باكستان كانت 38 مليون نسمة في العام 1950، وهي اليوم 235 مليون نسمة، أي بزيادة 197 مليون نسمة، هذا في وقت يدعو القرآن المسلمين ليكونوا خير أمة أخرجت للناس! أيّ أمة هذه التي عناها القرآن وأرادها أن تكون خير الأمم، إذا كان كل ما تفعله هو ضد حاضرها ومستقبلها؟ في العام 1950 كانت الدانمارك 4.300 ملايين نسمة، وكانت الجزائر (زمن الاستعمار!) أقل من 10 ملايين نسمة ملايين نسمة، اليوم صارت الدانمارك 5.400 ملايين، بزيادة 900 ألف نسمة، معظمهم أجانب مهاجرون، في حين صارت الجزائر 35 مليون نسمة، يعيشون على أرض ماؤها ليس كافياً، ويحتاجون إلى أكثر من مليون مسكن جديد!

نسيت أن أخبرك عن اليهود، “أعداؤنا وأعداء الله”: كما يسميهم بعضنا أيها القارئ الكريم. هؤلاء استوعبوا القصة جيداً، فاستبدلوا مرض الكثرة بعقار النوعية، وأصابوا أعلى المراكز وأخطرها في العالم. هل تعرف ما يطرأ على أعدادهم كل سنة؟ هوذا الجواب أقدمه إليك على طبق من فضة؛ إنه يتراجع! نقص بنسبة 300 ألف في عام واحد، حسب “معهد الوكالة اليهودية”. هل أرضتك هذه “الحقيقة” أيها القارئ الكريم؟ لست أدري. لكن ما أنا واثق منه أشد الثقة، أن هذه “الحقيقة” سوف ترضي الكثيرين من العرب والمسلمين، وتجعلهم يتنفسون الصعداء، لأنه إذا استمر هذا التراجع “المأمول” في عدد يهود العالم، فسيأتي يوم وينقرضون، كما انقرضت شعوب كثيرة عبر الأزمان. عندها لن يحتاج الفلسطينيون إلى “قادة تاريخيين”، لأن “الوطن السليب” سيعود عربياً بكامل ترابه، ومن دون أي مقاومة، وتعود القدس عربية، تخفق أعلام العروبة عالية فوق هضابها، ومعها يخفق قلب شاعر مثل سليمان العيسى في لحده ليردّد من جديد:

“أمة العرب لن تموتي/ وإني أتحداك باسمها يا فناء”!