سؤال الهوية بين الاغتراب والاندثار

من أنا؟ من نحن؟

سؤال المفرد بين الجموع المغتربة كلّ عن ذاته وعن سواه، يطالعنا عند إشراقة كل صباح وعند المغامرة بالنظر إلى المرآة.

كيف اختلفت الصورة التي اجتهدنا في صناعتها وتقليمها وتشذيبها حتى باتت غريبة عنّا، نافرة، منفّرة، لا تشبه ذاتها ولا حتّى تقترب من ملامحها؟ ملامح كانت في الأمس القريب مسكونة بقسمات ساكنة، هادئة، راضية بتلاوينها وتعابيرها. ملامح الدهشة المفقودة والسؤال البريء الملحّ.

سؤال الهوية المكرور المُملّ، يراودنا عند أي فكرة أو مفترق أو ذاكرة مستعادة، وغالبًا ما نقع في كمائنه. نبحث عمّا ضاع وعمّا سنكون عليه أو ما نحن فيه الآن، من دون اكتراث لخصوصيتنا المذابة في الكونيّة الجديدة، ومن دون إيجاد ضوابط وقواعد ورسم حدود بين الخصوصي والكوني.

“لا نصبح ما نحن عليه إلا من خلال الرفض الراديكالي العميق لما فعله الآخرون بنا”، يقول جان بول سارتر. وجلّ ما نفعله، هو المراوغة الجذّابة للنفس الرّاضية بما هي عليه. قبِلنا بما فعله الآخرون بنا بطيب خاطر واستسلام. ليس ثمة رفض راديكالي سوى رفض استنساخنا وتعليبنا. الرضا التام والقناعة المطلقة بأننا أحجار البناء المتشابهة، لا بل المتطابقة في رسم هندسي كامل القياسات محدد الزوايا. “فنقوم بتشكيل بنياننا، وبعد ذلك يشكّلوننا”، على قول ونستون تشرشل.

بعد انصهار الفكرة والنموذج الواحد، كيف لنا أن نطرح أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية كتعدد، وبالغيرية كاختلاف؟ وكيف لنا أن نسلك طريق النجاة في متاهات عولمة كل ما ومن يتحرك ويتنفس ويحاول إيجاد صيغة مبتكرة لذاته الباحثة عن ذاتها؟

كل محاولة لأنسنة ما تبقى ضد توحّش العولمة، هي استفتاء فاشل لمن هم خارج اقتصاد السوق لأنهم يخضعون، هم أيضًا، لمتحوّلات الهوية المشتركة غير القابلة لإنتاج نُظمٍ مبتكرة تميّز ذاتًا إنسانية عن الأخرى. فلا تعدّد ولا اختلاف ولا هويّات ولا خصوصية ولا قيم إنسانية سوى تلك المبثوثة في حمض نووي مستحدث يجتاح الإنسان الحديث.

حدّد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر سِمات الهويّة بأنها “تفصح عن كينونة كل ما هو موجود، فلكل كائن الحق في ذاته والوحدة مع ذاته من دون تجاهل الاختلافات الداخلية والخارجية، وأينما كنّا في الوجود فإننا نسمع نداء الهوية، أي نداء الوجود”.

فكيف لنا أن نلبّي نداء وجودنا ونحن في اغتراب، يكاد يكون أزليًّا، عن هويّتنا التي نراقب أفولَها خلف اندثار ملامحنا…