“عمّق الحفرة يا حفّار”

جميل تعميق الحفر وقاسٍ لأنّه كان وما زال يسكننا عربيّاً يلبس بل يتعرّى “طوفان أوطان الذبائح” تحفّ في التيه بلساني وحبري وتدفع النصوص والأزمنة خلف مقطع من قصيدة لأستاذي وصديقي الشاعر خليل حاوي. خليل؟ هذا الصقر العربي الذي تناول بندقيته أو قنيته عكّازاً في وعر قريته ضهور الشوير حالماً بيقظة العرب من وعورتهم السياسية. تناولها وانتحر وحيداً فوق شرفة منزله في ظلّ دالية صفراء عجوز قبالة الجامعة الأميركية التي كان أستاذا ركناً فيها بعد نيله الدكتوراه من جامعة كامبردج  في لندن. إنتحر الشاعر العربي  بعدما عانى الفيء العربي أمام الإجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1967.

قال: “عمّق الحفرة يا حفّار عمّقها لقاع لا قرار

       يرتمي خلف مدار الشمس “شعب” من رماد

       وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار”.

لقد صُمتُ عن الشعر نصف قرنٍ ونيّف على غيابك وبقيت القصيدة حبراً ودستور دماءٍ عربية تتوق للإنتحار فوق ركام الأنظمة والدول ومواقدها الدولية الباردة. ها إنّي عائد إليك لربّما نحصد القصائد والأنظمة الصدئة في العالم تحمل صداك مشقوعةً فوق ظهورنا لتذكرنا أننا عرب لم نطو واحدة منذ غيابك. أعتذر منك وعنك، ونعتذر معاً عائلة الحصّادين والبيادر المُقفرة من كلمة عرب التي تعني في اشتقاقها الثلاثي: عبر، برع، رعب، ربع. أمّا الإشتقاق السادس فلن أدسّه في غلالي لأنّ التاريخ ما زال يجترّ مصائبه نحو الوراء. وأسأل:

عجباً يا عرب، لماذا لا نعبر فنبرع وتغدو أوطاننا وشعوبنا وأرضنا وفلسطيننا وقدسنا ربوعاً فنرعب ونوزّع عبرنا المدفونة في التاريخ على أهل الأرض؟

أين يقع العرب اليوم؟

سجناء زوايا ثلاث:

أ- الزاوية الأولى:

قريبة وملتهبة بأحداثها ونتائجها وخرائبها منذ 1967 حتى ال2003 في العراق نزولاً نحو ال2011 تاريخ بدايات “ثورات الربيع العربي” وصولاً ل”طوفان الأقصى 2023″ وهو الأقصى. تضعنا الزاوية في تشابكات وتعقيدات وإفرازات تعفّنت طقوسها الدامية بين شرق وغرب وبين “الإرهاب” والعالم. العرب يلوذون بمعظمهم و”عظمتهم” في زوايا تكسوها علامات الإستفهام تنكز تاريخنا من داخل وتوصمه حنقاً بالإرهاب من خارج فتؤلّب المؤمنين بحثاً عن غربلة المواقف بنسخها المقترحة المتهددة وكلها مسائل مطروحة فوق أطباق لا قمح فوقها…لكن فوقها شعير وتمتة مستحيلة .

يبدو التغيير بالقوّة لا ينتبه الى كوننا نرتع بخواف حرب عالمية ثالثة تناسب هويتها الجديدة ملامح عصر العولمة الذي يجذبنا لأن نفتتن فيه وبه تواصلاً وكأنّنا نقبض أطفالاً على العصر كلّه لكنّنا لن نهضمه وسنعجز طويلاً عن إدراك إبتكاراته ومقتنياته الإتّصالية ونوازعه المحفوقة بكلّ جهنم. هكذا يستمرّ المسلمون والعرب بتوجّهاتهم وتطلّعاتهم التاريخية وبأصواتهم المتعدّدة والمتشابهة منقسمين يتوحّدون بين نقد الغرب ورفضه أو قبوله وتحدّيه، ويكابدون بسياساتهم المشتّتة المتحيّرة و”حضاراتهم” التي قد تتجاوز كثرتهم. هم ً حيال أزماتٍ فكرية وحضارية وكيانية  تجعلهم يلوذون بازدواجيات ووشوشات متناقضة بين دول عظمى تجهد فقط لإستعادة لترميم عظمتها المفقودة عبر أرضنا العائمة بالنفط والغاز والتقاتل حول النصوص والخطب من ناحية والمشغولين بألعاب التقنيات والمستوردات العالمية، وتُراهم تائهين عبردروب  الحداثة والتحديث والتراث والمعاصرة والغير والتغيير والحضارات التي بنوها أجدادهم لتبقى لنا الكنوز الأرضية المهدّدة بالنفاذ والضياع المفروض بين إستبدادية الإنتاج وإستبدادية الإستهلاك.

ب – الزاوية الثانية:

يتعاظم الخوف من الإرهاب فيوحّد البشر أكثر من أيّ زمنٍ مضى. هذه المعادلة تبرز أهميّتها بل خطورتها عن طريق تقييم الفكر الفلسفي مثلاً منذ الهند والإغريق وصولاً الى حضارات مصر وبلاد الرافدين فالعرب والإسلام وأوروبا. ولّد هذا الفكر تثاقفاً مثمراً وغنياً بين الشعوب والحضارات وتأثيراً متبادلاً، وكان العرب مبدعين في المجالات كلّها تفكيراً وإنتاجاً، لكنّ العقل الفلسفي عجز عن إيجاد الأجوبة الإنسانية النهائية للأسئلة الكبرى وفشل في توحيد البشر وراحت القضايا تتواضع نحو مسائل عصرية مثل البيئة والصحة والموضة والرياضة أي أنّها تدحرجت من مقولة:” أنا أفكّر إذن أنا موجود” الى مقولة الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر: “أنا موجود إذن أنا أفكر” التي حملت رفضاً عارماً للحرب العالميّة الثانية. وفشلت الأديان حتّى التوحيدية منها وسقط الفكرالإلحادي بدوره بتوحيد إنسانية البشر في حقي الحياة والموت، ومثلهما إهتزّت صدقيّة العلم الذي يبحر فيه البشر كما القردة بالصور والإشارات والمختصرات عبر عصر التواصل وهو لم يخف وجهه القبيح النهم في صناعة الأسلحة وتغذية الحروب وتسخير المعارف والتكنولوجيا لأغراض الهجوم والعنف والبراعة في القتل.

ج- الزاوية الثالثة:

كيف نفسّر هذا التوغّل في العنف؟

تندرج معظم الأفكار التائقة الى توحيد البشر وسلامهم في خانة المستحيلات ليبق السؤآل الضخم لطخة على جبين الأمم: هل باتت صناعة الأسلحة الفتّاكة وإمتلاكها تتقدّم بوتيرة جهنّمية لتعوّض عن العنف الهائل الذي أورثه ويورثه حظر إستعمال السلاح النووي في النفوس؟

 للجواب على هذا السؤآل، أستعيد ما قاله روبرت أونبهايمر المعروف ب “أب القنبلة النووية” حين الانتهاء من صنعها :” أصبحت أنا الموت،  مدمر العالم”. وهذا قول صحيح بعدما جرّبت البشرية أن تدفع العرب خلال وقتٍ قصير ما قد يُذكرنا بما دفعته فلسطين والعرب من ضحايا وخراب. وهنا يجب التمييز بين الرغبة في إشباع الغرائز بالتدمير والقرار المشبع بالتدمير الذي أبعد المسافة بين الرغبة والقرار، بما قد يفسّر مضاعفات العنف وسحق الناس في مطاحن “الحضارة”.

تتكرّر ظاهرة الحروب بوتيرة أقوى من السابق في فلسطين، وتتجاوز حسابات الأكلاف والخسائر حسابات النصر التقليدية. المخيف أن الرغبة في التدمير النووي لم تختف نهائياً. قيّدتها الإرادة الدولية بعد هيروشيما لكنّ قرارات القيامية سوريالية أو الجنونية مقيمة في بال سلطان أو حاكم “عظيم” إذ مسّه جنون العدميّة.