شيء من ذاكرة التراب

لا أفهم، لماذا يجب أن أكون في البقعة الأخرى من الأرض..

هي فكرة يحملها التراب معي، منذ نشأت وترعرت وكبرت حتى صرت مخلوقا خرافيا، لا أقدر أن أفهم كل ما يجري حولي لا بل بعضا أو جزءا مني، و حتى كلي..(إقتضى الأمر توضيحا أني ما زلت أعيش على هذا الكوكب).

أنا الآن في الشطر الآخر من الأرض، طقس بارد بدرجة حرارة صفر، أدفىء جمجتي بطاقية الإخفاء، كي تسري الدماء في ذهني بشكل أسرع، فأقاوم عثرة الصفروأخواتها من تحت إلى فوق…

تلاحقني فكرة الخوف منذ يناعي حين بدأت القضايا تتحرك بي لتشعرني بالخروج من مكان إلى آخر.. كل الرقصات كانت تجري في دمي سوى البدلة العسكرية والجاسوس. لم أفهم لماذا أخاف الخائف الجاسوس، والمخبر هو كشاف مضمر لغاية صريحة وهي الجبن… لماذا أخاف الجبان والرعديد، والأفواه الناقصة؟!!

لست هنا لأعرف، لكن إكتشفت أنني أكره البذلة العسكرية جدا، ولاحقا، وفهمت أني تعرفت على البذلة العسكرية قبل أن أتعرف على جسدي.. حين رأيت الشرطة تسوق أبي إلى التوقيف مع ثلة من أبناء القرية، بسبب حادث وقع مع الدرك والجيش في مؤخرة الضيعة، وإكتشف التحريون- المخبرون أن مطلقي النار على الجيش قد هربوا إلى حارتنا في أعلى القرية…لكنني لم أصدق كيف بدأ العسكر بضرب ابي على رأسه وكتفه. وهو لما يزل ينزل من السيارة التي كانت تقله من مكان عمله إلى المنزل هجموا على البيوت وبدأوا يأخذون الناس عنوة للإشتباه بهم وتعاملوا معهم بقسوة عجيبة والأهالي في حالة ذعر.. كانت المشاهد تحصل أمام أعيننا نحن الأطفال الذين لم نبلغ العاشرة بعد، والنساء تهلع وتولول مع كل ضربة بندقية على رأس أو كتف أو بطن زوج أو أخ أو وليف…

لم يكن لدي النية بإكتشاف أسباب الخلاف ولا الإعتقال – كنت فقط ألمح صورة العسكري وهو يضرب بكعب بندقيته رؤوس أهالينا، وأبي يحرس كتفه وهو يسير ببطء شديد نحو محمولة العسكر… وربما هناك سبب آخر، دفعني لكره البدلة العسكرية، حين مرّ دركيان صوب منزلنا ليسألا عن أخي الأكبر، فإستقبلهما أخي الأوسط بفتحة باب جعلهم يدركون أن الزيارة ممنوعة، وحين سألهم أخي سبب الزيارة فقال أحدهم :«جئنا لنتعرف على البيت  »فقال لهما مسرعا ثلاث غرف ومطبخ وحمام«!؟! كانت صورة أحدهما مع الآخر تولول على الباب وفي ذهني أن عيونهم تقدح شررا من سؤالهم عن أخي الأكبر الذي كان خارج المنزل..فذهبا دون زيارة تليق بهما؟!

هذان المشهدان جعلاني أبدو خائفا من إثنين، الزي العسكري والجاسوس…وراح خوفي ينداح ليثبت أن العسكري والثرثري وجهان لعملة واحدة… وقضيت عمري كله في محاولة إثبات نظرية خائفة!؟!

فجأة صرت على بينة صريحة أن ما أحتاجه هو قلب إمرأة تستطيعني ولا أستطيعها، قلب غفور، مسامح، كريم، لا يذهب معي بأسئلة بعيدة… أحتاج شعر أنثى تخالط مهجتي في سبيل النهار، وتخبىء سواده إلى آخر المتعة والغنج والدلال، وينساب شعرها على كامل جسدي لأرتوي من بحر من اللحم الدافىء البض، .يلاصق جسدي من بداية الليل حتى أول الفجر، تلامس أصابعها ملامحي، وتكسر خجلها على صمتي الباحث عن الله فيها. أعرف أنه سيقايضني بهجتي لأن هذه الأنثى هي لإله لا لبشري يرتب عمره على عمى…إنها أنثى الرغبة في إمتطاء صهوة فرس تشب على سكونها المعربد بتنهدات اليتم الفظيع، وأنين الصبوة نحو أفق الخلاص من ربقة العوز إلى صهوة الشهوة…

إمتلاؤها كثير أحبه، أحسه عاصفة برق مع جنون خواء تتعسني إذا إختفت وأنا أشب في رحلة لحمها الملتوي على عنق المعنى… غزالة تفيض ضفافها ماء متعتها، وأنا أكسر فيها منابع الوصل كيما تبعدني النهايات… فيما يبقى صوتها صدى لبوة تنشر طيب عزتها على سفح جبل أخضرينزّ بياضا. إمرأة تعرف عني كل شيء دون أن أعرف شيئا منها.فهمت أن قتال المجهول صعب لكنه أفظع الأوقات فهو لا يملك بداية كي ينتهي…

كلما ضحكت أمي في وجهي عرفت أن خوفا يداهمها، فهي لا تقوى على حركة النبض حين يصيح شىء ما في داخلها، هي تفهم أن حركتها معادية لتعب الحياة ومشقة العابرين للحظاتهم…أنا أمكث في ضلالي، وهي تمكث في حنكتها…تعرف متى تقرب الأبعدين، وتبعد الأقربين… كل سلاحها يشعرني أن خوفاعارما يخامر مقلتيها كلما ناص قنديل في زوايا البيت…أو إنطفأت شمعة في خبايا الضوء… الذبول حالة عارمة تتصيد الإنسان الموقن أنه إلى زوال…والعتمة أكبر قناص للضوء فيما يعتقد الكثيرون أن العكس هو الصحيح… لم أوقن حتى اللحظة علام تبتسم أمي على حين غرة وهي سقف البيت الذي لم يعرف الضحك والإبتسام يوما…لقد ولدت في سرير العجز البنيوي أو القهر الإستلابي حين واجهت دلال أهلها لها بسلاسل من التعقيدات وقبل أن تعرف أن سر الحياة هو بعد الخروج من مساحة الإهتمام إلى فضاء الأحلام المكسورة والتقاليد القابضة على متعة الحياة…

وجهك القابض على سمعتي والكون إحتمال أن ينساب في رحلة أناملك تتصيد بهو المعرفة… لم يكتشف فيلسوف أن أناملك تورق المعنى… أنا في داخلك طفل محظوظ بسجن رؤاه… لأنه يضحك حين يبكي المسكون على عرش الحرية… العري سجن لقناعتي بأنك تحضرين…وغيابك سطو على أفئدة النساء… أشتم رائحتك حين تبعدين لكثرة هذا الهواء العابق بي، المتبقي فيّ منك… لا أحزر كم أنا صغير على هذا العالم الذي يدوس نملة ليطارد فيلا في أقصى الجهات… أثقيل أنا على عالم معرفتي بالأشياء إلا حين يطل وجهك عليّ فأدرك أن لا معنى يستوي ولا أفكار تترعرع إلا في ظلك… قد أكون شاهدا على رغبتك في كسر المعنى أو ترميمه… لكن رحلتي تبدأ حين أخرج منك… فليس لقصيدتي أن تكتب من داخل معناها… فهي موبوءة بالحد الفاصل بين الحروف وعينيك…والعبارات تساق بشفتين يحزران الجري خلف الكلام…

إنه شيء من ذاكرة التراب….

العدد 104 – أيار 2020