طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024

مهما تمكّن منها الزّمن

يأتي تتويج مدينة طرابلس (شمال لبنان) “عاصمة للثقافة العربية 2024” من قبل المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، بمثابة تذكير بدور هذه المدينة المتوسطية كنموذج مديني حضاري ثقافي تاريخي وإنساني.

المدينة الساحرة التي تضمّ أكثر من 200 موقع أثري، تعكس حضارات كثيرة مرّت على المدينة من مملوكية وصليبية وعثمانية وفرنسية وغيرها. وهي التي شكلت في التاريخ مركزًا للمتروبول الفينيقي، وألهمت العصور الغابرة والحديثة بتنوّعها الثقافي والبيئي والإنساني والديني، واشتهرت بقلاعها وأبراجها ومينائها وتحفها الهندسية المعمارية ومعالمها التاريخية، تعود اليوم ليتذكّرها العالم من خلال اختيارها عاصمة للثقافة العربية، حاملةً هذا الإرث الغني لتقدّمه في حلّة معاصرة من خلال الفاعاليات الثقافية والأنشطة الكبرى، مستعيدةً بعض إشراق تاريخي وإنساني.

الوجه الحضاري لعاصمة لبنان الثانية (Tripolis أو “المدن الثلاث”)، انطوى لعقود في غياهب التهميش والتدمير والعنف والفقر والاقتتال الداخلي بين “باب التبانة” و”جبل ومحسن”، بعدما كانت، في الماضي القريب، مدينة ثقافية وعلمية بامتياز تميزت بنُخبها الفكرية والسياسية والإعلامية والفنية، واستطاعت أن ترفد بيروت بهذه الوجوه المتنوّرة وتحجز لها مكانة متقدمة في المشهد الثقافي اللبناني والعربي. كما استطاع موقعها البحري أن يجعل منها مدينة منفتحة يشدّها الأفق اللامتناهي إلى الترقّي والتطوّر وتلاقح الثقافات.

سنوات طويلة وطرابلس ترزح تحت ثقل ما أنتجته السياسات اللبنانية من حقد وطائفية ومذهبية وتهميش لتاريخها العريق. فضلًا عمّا أنتجته سطوة الوصاية السّورية على المدينة ما أدّى إلى عزلها وإفقار أهلها والاستثمار في التصدّع الاجتماعي. فحدث أن أُدرجت مدينة بتاريخ طرابلس وإمكاناتها البشرية والجغرافيّة والتاريخية، كأفقر الدّول الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسّط، وفقًا لبيانات رسميّة صادرة عن الوكالات المتخصصة في منظّمة الأمم المتّحدة. وبالتالي فقدت طرابلس، على مدى العقود الماضية، رونق ميزاتها الجغرافيّة والتاريخية والإنسانية، وهي المدينة التي صنّفها الباحثون، مهدًا للتعدّدية في منطقة الشّرق الأوسط.

تتشابه المدن اللبنانية، الساحلية تحديدًا، بعراقتها وانفتاحها على العالم القديم والحديث، كما تتميّز برسالة إنسانيّة اقتدى بها العديد من المدن العالميّة. طرابلس بالطبع إحدى هذه المدن التي حفرت صورة لبنان الحضارية في وجدان التاريخ، لا بدّ ستعود لتؤدّي رسالتها مهما تمكّن منها الزّمن.