طعام

يبدو لي ان الجوع كان سببا رئيسيا لخروج الانسان الاول من الكهف و تحفيزه لاستكشاف محيطه بحثا عن الطعام، ذلك البحث والاستكشاف الذي تفرع و تنوع عبر ألوف السنين و الذي دفع الانسان الى سبر مجاهل الارض و ما يستقر في اعماقها و كذلك ما يرتفع فوقها و خارجها في فضاء الكون الشاسع.

كان السعي لايجاد و توفير مصادر الطعام عاملا اساسيا في نهضة التجمعات الانسانية و نشوء الحضارات الاولى. تذكر البروفيسورة كاثي كوفمان في كتابها المعنون ( الطبخ في الحضارات القديمة ) ان الاراضي المنبسطة التي تشكل القسم الجنوبي من وادي الرافدين و التي تمتد الى الخليج العربي، لم تكن مناسبة للزراعة الجافة، بسبب طبيعة المناخ هناك من حيث ارتفاع حرارة الطقس في الصيف و شحة الامطار عموما، الا ان تلك الاراضي كانت تكتسب خصوبة بفعل فيضان النهرين في الربيع، حيث ترتفع مناسيب المياه فيها بفعل ذوبان الثلوج التي تغطي جبال طوروس و زاكروس خلال اشهر الشتاء، و ما ينتج عن ذلك الفيضان من تكدس طبقات الغرين الرطب الملائم للزراعة. كل ذلك دفع الانسان الى العمل جاهدا لشق قنوات الري و انشاء احواض خزن مياه الفيضان لغرض الاستفادة منها في الزراعة. كانت الحصيلة فوائدا زراعية عملاقة، و قد ساعد قرب الخليج العربي على تنشيط حركة التجارة. تذكر الكاتبة أن السومريين، سكان مهد الحضارات و بناة الحضارة الاولى، كانوا قد انتجوا محاصيلا زراعية اكثر بكثير مما انتج في اي زمن آخر في تاريخ المنطقة!

اوجد الانسان عبر العصور طقوسا لتناول الطعام، تتباين بشكل كبير من مجتمع الى آخر و من زمان الى آخر، حتى أن أكلة لحوم البشر لهم طقوسهم الخاصة بذلك، و التي تشرحها الكاتبة مارغريت فيسر في كتابها ( The Rituals of Dinner ) بتفصيل قد يكون صادما للبعض.

اشارت فيسر الى نوعين رئيسيين من آكلي لحوم البشر؛ أكلة ذوي القربى و الفئة الاخرى الذين كانوا يأكلون الاعداء فقط و الذين كانوا من الغرباء طبعا. آمنت الفئة الاولى بان بعضا من جوهر الحياة يكمن داخل كل انسان حي، فاذا مات الانسان وجب انتقال جزء الحياة الكامن فيه الى الاقربين من الاحياء، و هم الابناء في معظم الاحيان. اعتقدوا ان الابن الذي لا يأكل الجسد الميت للاب او الام لن ينجب اطفالا اصحاء و يمضي ما تبقى له من العمر عليلاً! لم يكن تناول تلك الاجساد لديهم لغرض درء الجوع و انما لاجل استمرار الحياة و عدم فناء ما كان يكمن منها داخل الجسد الميت، اضافة الى انهم كانوا يهدفون الى جعل اجسادهم مقابرا لأحبتهم. لذلك كانوا يحيلون الجثة الى مسحوق عن طريق حرقها و سحق عظامها فيتناولون ذلك المسحوق مع شراب ما او مع الموز المهروس في طقوس عزاء يسودها الحزن و مشاعر الحب للفقيد.

النوع الرئيسي الثاني، و الذي يشكل الطرف الاخر من طيف واسع لأكلة لحوم البشر، هم أكلة الاعداء، و اولئك كانوا يأكلون البشر لاجل الانتقام و الاستمتاع بتناول اجساد اعدائهم في طقوس اتسمت بالكثير من السادية. كان الاسير يُدفع الى القتال، و كلما ابدى شجاعة اكثر كلما صار يشكل وليمة فاخرة اكثر حيث ساد الاعتقاد ان شجاعتهم تلك تنتقل الى اجساد آكليهم فتزيدهم قوة و بطولة. رغم ذلك كانت تلك الاقوام  تهتم بالفصل بين الاكل و القتل، فالاسير، بعد تعذيبه،  كان يُذبح على يد شخص واحد و لم يكن يُسمح لذلك الشخص بتناول لحم قتيله، كان عليه ان يصوم لعدة ايام او ان يختفي في الغابة لعدة اسابيع او ان يغير اسمه قبل ان يعود الى حياته الطبيعية بين افراد قبيلته.

كان القدماء من سكان جزر فيجي، الواقعة جنوب المحيط الهادىء، يأكلون طعامهم بايديهم مهما كان نوع الطعام، الا في حالة اكل لحوم البشر حيث كانوا يأكلونها بشوكات خشبية مخصصة لذلك.

المرأة كانت مدنسة في معتقدات قدماء الماوريين، سكان نيوزيلاندا الاصليين، لذلك لم يُسمح للنساء اكل لحوم الضحايا من البشر. كذلك كان الطعام نجسا لديهم و غير نقي خصوصا المطبوخ منه، فكل ما كان يتعلق بالطعام من الحصول عليه و اعداده كان يفتقر الى الطهارة و طبعا كانت النساء تقوم بطبخ الطعام فتضاف بذلك نجاسة على نجاسة. كان البيت طاهرا في اعرافهم، لذلك كانوا يتناولون الطعام خارج المنزل، و كان الرجال (الانقياء) يتناولونه باستخدام عصا مدببة تشبه الشوكة كي لا تمسه ايديهم الطاهرة. مما لا شك فيه ان الرجال كانوا يأكلون طعامهم بمعزل عن النساء و بعيدا عنهن قدر المستطاع.

نجاسة الطعام كانت كبيرة عند الماوريين بحيث ان اكبر الاهانات لديهم كانت ان يقال الى الرجل ان رأسه سيصبح وعاء للطهي، او ان يتم تهديده بطبخه او طبخ اجزاء منه. في المعارك كان الفريق المنتصر يقوم بتقطيع جثث قتلى العدو و طبخها في مواقد يعدونها مباشرة فور انتهاء المعركة. و بعد الاستمتاع بتناول وليمة الانتصار كانوا يأخذون العظام المتبقية معهم لاستخدامها في مجالات شتى في الحياة اليومية، كالطهي مثلا، او يصنعون منها مزاميراً، و لا ادري ان كان للقول السائد في بعض البلاد العربية ان عظام الشخص صارت (مكاحل) خلفية تاريخية ترتبط بتلك المزامير!

يبدو ان الانسان كان و لا يزال يمثل وجبة شهية بالنسبة الى البعض و الذين يطلق عليهم اكلة لحوم البشر، و قد نجدها فكرة مريحة ان ذلك التقليد او تلك الممارسة هي جزء من زمان ولى و مر، و لكنها للاسف لا تزال موجودة في زماننا هذا و لو بشكل مختلف، فلم يعد الجاني يقطع ضحيته و يعد منها وجبة شهية، اذ ان لجناة اليوم ذائقة مختلفة.

لا اجد اختلافا كبيرا بين مشعلي الحروب مثلا و بين اولئك القدماء من اكلة لحوم البشر، بل ان ضحايا الحروب في هذا الزمان اكثر بكثير من ضحايا معارك كانت تتم بالمواجهة المباشرة بين المتحاربين. و لا اجد اختلافا كبيرا بين آكلي لحوم البشر و بين من يستبيح حقوق غيره. الاطفال المشردون في شوارعنا العربية، و الفقراء الذين يبحثون عن قوت يومهم في مكبات النفايات هم ضحايا الاصناف الحديثة من اكلة لحوم البشر. من يبحث في بلادنا يجد الكثير من الامثلة.

يقول فرويد ما معناه ان من المدهش اننا نعتبر أكل الانسان فعلا قبيحا يثير فينا الكثير من المشاعر السيئة من تقزز و اشمئزاز بينما نحن نقتل بعضنا طوال الوقت، و غالبا ما يشعر القاتل بالفخر و الانتصار.

العدد 119 / اب 2021