عندما نعلّق الناس في الفضاء

الدكتور نسيم الخوري

هبّ الرأي العام في لندن معترضاً على الترويج لبناء ناطحة سحاب Skyscraper” “The Tulip’ أو زهرة الخزامى الغريبة كليّاً عن نماذج ناطحات السحاب في العالم بعدما فاز جوزيف صفرا الملياردير اللبناني اليهودي الأصل بالموافقة المبدئية على بناء برج بشكل زهرة يرتفع ساقها 305 أمتار وفوقه زهرة/ مدينة تتطلّع نحو السماء، وذلك بجوار ناطحة سحاب »غيركين« التي إشتراها صفرا ب 726 مليون جنيه إسترليني عام 2014 وإعتبرت عند إنشائها بكراً لأجيال التحديث الهندسي والعمراني الذي يرسي مخاطر قواعد جديدة تهدّد القديم.
تابعت بشغف تلك الحملة لوقف المشاريع العمرانية التي تتوخّى التحديث نهائيّاً لأنّها تجرف جماليّة القصور التاريخية الملكيّة وبرج لندن وماضي بريطانية العظمى العريق. لنقل إذن، أنّ الصراع بين القديم والحديث إشكاليّة راسخة وملازمة لتاريخ الدول والشعوب ولو تبعثرت الثقافات والهويّات.
الجديد ببساطة هو إضافة إلى القديم الذي يبقى ولا يتمّ إلغاؤه. وما فتون البشر بالتحديث الصارخ إلاّ الخروج نهائيّاً من عباءة القديم كظاهرة برزت منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وهي تقوى إلى حدود الجنون الهندسي. إنّ وقع هدم القديم أو تحدّيه بإشاعة المظاهر الحديثة مقبول وهو يترك صخباً معاصراً لا في المدن الحديثة وحسب بل عندما يقع التحدّي في الدول والعواصم التي تتشاوف بتاريخها الملكي العريق مثل بريطانيا، مع أنّ »الحضارة« العمرانية التي جذبت دول العالم بما أصطلح تسميته بـ »عصر التسابق بناء الإبراج« تجعلنا حيال مشاهد هندسيّة متشابهة ومبعثرة في أنحاء العواصم والمدن العالمية. نجدها أبراجاً متكرّرة بإستطالاتها لكنها مخيفة، ولو أنّها تنوّعت في هندساتها بين فرانكفورت ولندن وباريس وتورنتو والولايات المتّحدة الأميركية ودبي وأبو ظبي والسعودية ولبنان وسنغافورة وشنغهاي وماليزيا وهونغ كونغ وغيرها.
القضية هنا مخيفة لا بالمعنى النفسي بقدر ما يحمل الأمر نسخٍاً أو محواً قاسياً للماضي بما يفرّغ الذاكرات والعلاقات البشرية والزمان من الماضي الموصول بالحاضر فيصبح المستقبل معلّقاً في الفضاء.
يأخذني الخوف هنا إلى زلزال مدينة كرايستشرش النيوزيلاندية في العام 2011، الذي دمّر الأبراج والمباني الشاهقة، بما إستلزم هدم المدينة بأكملها قبل إعادة بنائها مجددا. كانت ردود الفعل الفورية للشركات الهندسيّة العملاقة على تداعيات الزلزال وكوارثه تطلب إعادة بناء المدينة كما كانت من قبل وبالشكل نفسه وفي أسرع وقت، لكن مع إستمزاج رأي سكّان بعض مدن الإبراج بعد الكارثة، ظهر أن السكان يعانون من فقدان سكونهم وإستقرارهم وجودة حياتهم حتى لو أُعيد بناء المدينة كما كانت. وبرز التحدّي في منح الناس مظاهر التحسن في الحياة واستعادة الطمأنينة المفقودة أو المهتزّة. وجاءت النتائج بأنّ هؤلاء طالبوا بمدنٍ خالية من المباني الشاهقة وفضّلوا عليها المدن الأوروبية القديمة، وإيجاد مساحات عامة يمكنهم الخروج إليها والمزيد من الحدائق والطرق للدراجات الهوائية والمناطق التي لا تبتلعها المجمعات التجارية والشركات المبهمة. أرادوا باختصار مدينة حديثة للسكان وليست للسيارات والمؤسسات التجارية الضخمة. وعندما أُعيد بناء مدينة كرايستشرش رفض سكانها وجود ناطحات السحاب وحتّى المباني التي تزيد عن خمسة أو ستة طوابق، وكان الأمر صعبا جدا بالنسبة للحكومة، لما كانت تقوم به هذه الأبراج من أنشطة تجارية واقتصادية عالمية للمدينة، لكن بسبب تمسّك السكان المحكم، صدر القرار بألاّ يزيد إرتفاع أي مبنى عن سبعة طوابق. هذه النتائج التي أفرزتها كارثة أبراج نيوزيلاندة وغيرها عمّمت مشاعر النفور العام من التركيز على الوظائف المالية والتجارية التي تفرزها »حضارة« الأبراج بصفتها نجمة التحديث في العالم. وراح الميل يتركّز في البحث الصعب عن أزمة غياب الإجتماعية وأمراضها، وتعزيز المشاركة والتفاعل والتقارب والتخلّص من الشعور بضآلة الإنسان وضمور مساحات تعامله وتواصله مع الأفراد والجماعات في زمن التحديث.
لنقل أنّ حضارات ومعالم عريقة أخرى ألفناها في العديد من الدول العربيّة الحاضنة للحضارات القديمة قد تعيدنا، في لحظةٍ ما، إلى التفكير لا بظاهرة إبراج العالم وجمالياتها ومآسيها بل بأسطورة برج بابل وتبلبل الألسن عند إنهياره وكذلك بنسف معالم حضارات بلاد ما بين النهرين. تدعونا أيضاً إلى التفكير بفلسفتها وأحلام مهندسيها الرخوة، وخصوصاً عندما نراها تندثر أمامنا بسبب الهزّات الأرضية والحروب والنزاعات، وعبر الشاشات وخصوصاً خلال العقدين المنصرمين بين ال (2003 – 2019) أو أكثر، فتغيب معالم الحضارات القديمة في البلاد العريقة لتتحضّر عواصم العرب المهدّمة، لإحتضان النماذج العمرانية السهلة والسريعة والبرّاقة بالألمنيوم والزجاج وبما يتجاوز الفروقات الذهنية والفكرية القديمة الكبرى الراسخة بين شعوب العالم في ترتيب مستقبل دول الربيع العربي القديمة المندثرة.
كاتب وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه.

العدد 101 –شباط 2020