فؤاد مطر.. وصفحة العطاء المشرقة

هـذا نصيبـي مـن الدنيا.. سـيرة حيـاة ومسيرة قلـم

لندن ـ امين الغفاري

حين تبحر بعينيك خلال سطور فؤاد مطر، وعير كتاب يصل في عدد صفحاته الى 670 صفحة سوف تكتشف انك تقرا نوعية أخرى من الذكريات أو المذكرات أو بمعنى أدق من حصاد العمر وثمار العقل والأجتهاد، انك باختصار تقرأ في سطور فؤاد مطر تاريخ أمة، ومسيرة شعب انك تبحر في محيط واسع من خلال رؤية كاتب ملتزم وضمير انسان حي.يصعب عليك حقا ان تفصل أو تفرق بين احداث الأمة ومعالجات الكاتب وأشد صعوبة أن تقتنع ان مايكتبه هو مجرد رؤية لكاتب، لايحركها ضمير أو لاينبض بها وجدان حتى عناوين الكتب التي اصدرها فانها تقدم لك في مضمونها الرأي ان لم يكن صريحا فلابد لك ان تستشفه، وأن تعرف اين يقف الكاتب أزاء ماجرى، وقد يشكل ماتقرأه مفاجأة لك اذ ربما دخل في روعك، كما تجري العادة حين تقبل على قراءة مذكرات صحفي أو تجربة كاتب أنك ستجد أمامك مادة غالبا ماتكون عامرة بالمواقف الحرجة التي صادفها في محاولاته لاستخلاص خبر من مسؤول كبير أو محاولة الفوز بسبق صحفي مثير في نشر خبر أو حتى الكشف عن مؤامرة أو حتى فضيحة ثم تتنوع الفصول مع الكاتب و طبيعة الأحداث أو جريانها مايمكن ان يعرض صاحبها الى لون من الوان الخطر مثل الخطف ان لم يكن الأعتقال فضلا عن الأغتيال، ولامانع أيضا من أن تجد بعض ألوان الطرائف التي تثير الضحك أو تبعث على التسلية وهو يروي لك أويحكي ماعاصره أو شاهده أو حتى ماحققه من تميز أو خبطات صحفية واعلامية، ولكنك في هذه المرة سوف تجد تجربة كاتب ملتزم يحركه ضمير انسان. سيصعب عليك حقا ان تفصل أو تفرق بين احداث الأمة ومعالجات الكاتب وموقفه، وماذا يعني والى ماذا يشير. أعود بالذاكرة الى أحداث يوم الخميس 13 مايو عام 1971 وهو تاريخ البدء في العصف بالمجموعة الناصرية في نظام الحكم في مصر حين أقدم الرئيس السادات على اقالة السيد شعراوي جمعة وزير الداخلية الأشهر وليس تاريخ 15 مايو عام 1971 المتداول وذلك عبر انقلابه الشهير الذي اطلق عليه اعوانه من الكتاب والصحفيين وفي المقدمة منهم عبد الرحمن الشرقاوي وموسى صبري )ثورة التصحيح( تدق الطبول للثورة الجديدة التي يقودها الرئيس السادات، ثم شعار آخر دبجة الفارس الثالث الدكتور مصطفى ابو زيد فهمي وهو )الجمهورية الثانيه( وقد عينه الرئيس السادات في موقع )المدعي العام الأشتراكي( كما أطلق آخرون اسم )المؤامرة( كذبا وتضليلا وادعاء حتى يبرروا عملية الأعتقالات الواسعة التي صاحبت الأنقلاب المذكور، لكن فؤاد مطر جاء بمنظور آخر وقام بطرح مفهوم جرى بتحقيقه ودراسته وأصدره في كتابه الرائع )أين أصبح عبدالناصر في جمهورية السادات ؟( وحظي هذا الكتاب بشعبية كبيرة، لأنه وضع ماحدث في اطاره الصحيح، وقد كان حتى في العنوان واضحا ومعنيا وهو موقع عبدالناصر في اجراءات السادات بعد ما تم اتخاذه من قرارات.وأخذ اسم فؤاد مطر يتداول بشدة في المجتمع المصري، ومن ثم اعادة البحث في ما يتناوله الأعلام الجديد للرئيس السادات من ادعاءات ومزاعم، ثم تلت تلك الأحداث وقائع ومؤشرات جديدة بعد طرد السادات للخبراء الروس، وتصوير الأمر على انهم كانوا يمثلون احتلالا جرى انهاؤه بقرار ثوري وذلك من واقع البيانات المصاحبة لعملية خروجهم، ويصدر للمرة الثانية على التوالي كتاب فؤاد مطر )روسيا المصرية ومصر المصريه( لكي يزداد الشغف بمؤلفات فؤاد مطر ومتابعاته الحية للتطورات الجارية على الساحة المصرية وتسابق الأحداث، وحسه الصحفي المرافق لها، وادراكه الواعي لما يجري من وقائع بنظرة تتسم بالعمق في الرؤية، وتحليل لحركة الصراع الجارية بين نظام كان يقوده عبدالناصر، ومرحلة جديدة تتكشف ببطء وتمهل وسرعان ماانكشف المستور وتم التعرف على المقصود والهدف الرئيسي، وقد كان القيام بتصفية نظام عبدالناصر، وضرب كل المكتسبات التي حققها سواء على المستوى الوطني أو القومي. ثم جاء كتابه الثالث بعد ان تم اقصاء الراحل الكبير محمد حسنين هيكل عن جريدة )الأهرام( وكان كتاب )بصراحة عن عبدالناصر( الذي يعد من خلال القضايا التي اثارها او قيامه بالرد على كل الادعاءات المضللة التي تم تداولها عبر الأعلام الأنفتاحي الجديد بمثابة ضربة ناجزة ومؤثرة لكل الترهات التي كان يلوكها ويمضغها بعض الكتاب الذين التفوا حول النظام الجديد في صحف تم اختيار المسؤولين عن تحريرها بعناية وتركيز. كان نظام السادات قد بدأ يخلع القناع الذي كان يرتديه ابان الحقبة الناصرية ويكشر عن انيابه في محاولة لهدم كل المنجزات التي تحققت ومنها تأميم قناة السويس والسد العالي وشعار القومية العربية وغيرها واعتبار انها لم تكن سوى كوارث، وجاء حوار فؤاد مطر مع الأستاذ هيكل ليبدد كل السحب ويدحض طوفان الأكاذيب، ولازال هذا الكتاب يعد مرجعا للأنجازات الناصرية على الأرض المصرية، وأيضا لتوجهاته القومية وموقفه أزاء التكتلات العالمية، والتزاماته في عدم الأنحياز والأستقلال الوطني والقومي، وانحيازه لقضايا العالم الثالث في الدفاع عن الحرية والأستقلال باعتباره جزءاً من حركة التحرر العالمية.

التضامن ترجمة للفكر السياسي.. الى العمل الصحفي

أصدر فؤاد مطر مجلة باسم التضامن عام 1989 في العاصمة البريطانية )لندن( كانت البداية شقة في احد الشوارع المتفرعة من )ريجنت ستريت( قبل ان تنتقل الى مبنى آخر أكثر اتساعا، وكانت كلمة التضامن قبل ان تكون اسم مجلة، هي عنوان لمشروع سياسي عربي يتبناه فؤاد مطر ويدعو اليه، فهو يؤمن ان الخط الثوري لم يعد صالحا، بمعنى أن تضامن النظم العربية أصبح أكثر جدوى من تثويرها، كما ان معيار العنف في العمل السياسي يمكن ان يتفاقم بحيث يشكل في النهاية عوامل هدم للمجتمعات لا عامل بناء وتشييد، من جانب آخر فان التضامن العربي يعد أكثر الحاحا وضرورة من الحديث عن الوحدة العربية، وما تصادفه من عقبات ومشاكل يمكنها ان تعوق وحدة الصف، لاسيما وان حجم التحديات التي تواجهها الأمة العربية على اكثر من صعيد خطير ومهدد للصالح العام.في اطار تلك الفلسفة الواقعية في مضمونها، برزت فكرة )التضامن( وألحت على فؤاد مطر الى الحد الذي أصبحت تشكل فيه دعوة صريحة، ولأجل التأكيد على هذا المعنى فقد اطلقها سياسة للتحرير وعنوانا للمجلة التي اصدرها من لندن تعبر عن الفكرة، وتتحدث عن ألأمنية في تحقيق التضامن العربي. كانت الدعوة محاطة بالتقاليد الصحفية الموقرة، من احترام الرأي والرأي الآخر، والألتزام بطرح الأفكار دون تهجم أو تجريح أو اي تجاوز في اللفظ أو في التعبير. للتأكيد على تلك المعاني السامية يشير فؤاد مطر الى ضرورة اجراء مصالحات بين اصحاب الرأي المختلفين، وجاءت وفاة المفكر الكبير )ميشيل عفلق( مؤسس حزب )البعث( لكي يعرض على الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ان يكتب له رثاء، وهو نوع من المصالحة بين اتجاهات حتى وان جاءت متأخرة ويستجيب هيكل بما يرمز اليه ذلك من معنى فيكتب عن عفلق )الحالم الكبير( جاء فيها »كان حالما كبيرا واستطاعت صيحته ان تلهم اجيالا في طريقها الى الرجولة والشباب وان تنبه اوطانا في طريقها الى الحرية والاستقلال، ولقد مارس الأحلام الكبيرة في اوقات بدت فيها الكوابيس نازلة لكن الاحلام الكبيرة لاتشيخ ولاتموت ولاتدفن ولاتعتزل..وكانت خاتمة المقال تقول انني اتردد كثيرا في كتابة المناسبات لكني هذه المرة اجبت شاعرا ان شاهدا عاش عصر حلم عظيم في مصر من حقه ان يقترب اليوم باحترام ويضع باقة زهر في تحية حلم عظيم آخرسافر رائده في رحلة الأبدية تاركا كل ما يستحق البقاء بعد غياب اي انسان حلمه والاجيال…«الخ.

فؤاد مطر…الكاتب والأنسان

 يتمتع فؤاد مطر بوجه ذي ملامح هادئة بريئة، ويتميز بصوت خافت حتى في حواراته ومناقشاته ولاأقول في مجادلاته، لايستفزك بصوت أجش أو غاضب أو حتى نظرة جاحظة شاردة تتفرس في ملامحك كأنها تريد أن تصفعك دون أي سبب أو مبرر لعدوانية متطفلة، ثم هو يتحصن في رصد الوقائع والأحداث باتزانه المعتاد في التفكير الهادئ، وبالتالي في عملية التحليل الموضوعي لما يرى ويسمع، دون تسرع أو اندفاع. انها المهنية التي تتوخى الصدق قبل السبق، والأمانة لا المراوغة والألتفاف حول المعاني الحقيقية باستخدام الكلمات الفضفاضة التي تضلل أكثر مما تفسر. ان الأخلاص في المهنة وللمهنة هي السمة التي لازمت فؤاد مطر عبر رحلته الممتدة مع الكلمة المطبوعة رغم تعدد الأصدارات والأشكال في الجريدة أو المجلة أو الكتاب. السمة الثانية التي تميز فؤاد مطر بجوار المهنية، هي سمة شكلت منه البؤرة التي تتلاقى عندها التيارات المتعددة والمختلفة، أو بمعنى آخر انه المحطة التي يتوافد عليها كل من كان الفكر هو همهم أو السياسة هاجسهم أو مستقبل الأمة هدفهم ومحط انظارهم. تأملوا معي من عني الكتاب )هذا نصيبي من الدنيا( بالحصول على تقديمهم وتقييمهم، انهم رموز حقيقية للفكر المستنير والموقف الشريف. انهم الرئيس سليم الحص، والكاتب المناضل طلال سلمان والكاتب اللامع فرانسوا عقل. سليم الحص رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الذي تتوجه اليه الأنظار حين تتعقد القضايا وتدلهم الأجواء، لتجد في ساحته الأسهام الجدي في ازاحة جبل الجليد بين الأطراف لكي تتقارب وليتم رصف الطرق التي يعبر عليها المختلفون. انه نسمة الهواء الرطبة حين يشتد القيظ، ويعصف التشنج بالمتحاورين وقد كانت مبادرته الأخيرة التي أعلن فيها اضرابه عن الطعام مساهمة في الأعراب عن تضامنه مع الأسرى الفلسطينيين تمثل لمحة اضافية للحس الأنساني اضافة للقومي في مشاعره الفياضة يقول سليم الحص )ان فؤاد مطر مارس مهنة الصحافة بكل نبل وترفع وواقعية دون انحياز لطرف او جهة لذلك بقي سيل قلمه فياضا في صحيفة الشرق الاوسط السعودية وصحيفة اللواء اللبنانية لاكثر من ربع قرن آخرفي صحيفة النهار ومجلة المستقبل الى ان انتهى به المطاف في لندن ناشرا لمجلة التضامن التي شعارها مجلة العرب من المحيط الى الخليج منطلقا من وحي قناعاته الوطنية البحته(. ويقول طلال سلمان الكاتب الذي تستشعر حرارة كلماته وانت تتابع سطوره، فهو نهر متدفق، بل شلال منهمر حين تكون القضية التي يعالجها تتعلق بالارادة الحرة للأوطان، وطلال سلمان أيضا اسم له اشعاع خاص آسر وجاذب ومثير، وفي كلماته صدق يبوح واخلاص يتفجروغيرة على الوطن والأمة تلتف حول بصرك لكي تؤكد عليه وتثبته. يقول طلال سلمان عن فؤاد مطر )انه تأريخ لمرحلة النهوض التي جاوزت الاحلام ثم سقطت مستولدة كوابيس تكاد تلتهم المستقبل.. اذا لم تنهض الامة بعزيمة اجيالها الجديدة من الوهدة التي رمتها فيها انظمة الظلم والظلام وتركتها تتخبط في جحيمها من دون دليل للخروج في اتجاه الفجر الجديد، ثم يستطرد في القول: فؤاد مطر ليس مجرد شاهد وشهيد لتلك المرحلة بل هو محرض ممتاز على البحث عن طريق لطي صفحة التراجع والتهاوي في مهالك الهزيمة والاندفاع ذ مرة جديدة ذ نحو وعد الغد الافضل(. أما فرانسوا عقل فقال )عرفت فؤاد مطر في النهار عام 1963 وقد سبقته اليها في مطلع العام وانضم هو اليها في اواخره وسافر ولا ازال انا فيها، فقد فتحت النهار ابوابها امام كوكبة من المحررين الشباب ممن لم يكونوا يرون بالضرورة رأيها وراي منشئها سياسيا او حزبيا وكان ذلك انجازا من هؤلاء الشباب وكان فؤاد مطر الذي لم يحد الشيب قط من غزارة عطائه( تلك هي الزهور الفواحة التي تحمل مع عمق الفكر وعطر الموقف رفقة الألتزام وبهاءه.انها رفيقة فؤاد مطر التي اختارها لكي تتصدر غلاف الكتاب. انها تزينه وتعطيه نفحات من عطر الرأي والموقف فتزيد من عبقة جمالا.ان ثروة فؤاد مطر تكمن في علاقاته وصداقاته ومعارفه، وهي ثروة ضخمة في العلاقات العامة والأتصال بالمجتمعات المتعددة وعلى مستويات مختلفة في العالم العربي وخارجه من المثقفين واصحاب الرأي من المفكرين والكتاب الى السياسيين النافذين والنشيطين ابتداء من القادة والحكام الى المسؤولين في الاحزاب والمؤسسات الشعبية والجماهيرية.انها ثروة تمثل قاعدة صلبة في العمل الصحفي والأعلامي، وتدفع الى انطلاقة في سماء مفتوحة يغرد في آفاقها الرحبة.

 الكتاب صادر عن )الدار العربية للعلوم ناشرون( أما عن محتواياته، فهي من غزارة مادتها وحيويتها فانها لاتعد بحرا زاخرا بالقضايا والمعلومات، ولكنها محيط بأكمله، صاخب الحركة، عاصف الرياح، ثائر الأمواج، ولكنه مع ذلك يفيض بالحيوية، ويغري بالسباحة لمن يهوى التصدي للعواصف والتحدي للرياح. لقد أطلق فؤاد مطر على كتابه )هذا نصيبي من الدنيا( والعنوان فيه الكثير من خصال فؤاد مطر ومنها التواضع وانكار الذات وكان حريا بالكتاب ان يكون عنوانه )هذا عطائي للوطن وللناس(