في القضمة الثانية لتفاحة حوّاء

الدكتور نسيم الخوري

أودّ التذكير بالمكانة التي شغلتها التفاحة في ثقافة الأميركيين، وعمّمتها دولة العولمة عبر ثقافات العالم، رافعةً شعار شركة Apple الإلكترونية كضرورة تحقيق معاصرة الشعوب والأوطان المرتبطة بحبل صرّةٍ عالمية أختصرها بسلطات الريموت كونترول أو أجهزة التحكّم من بعد، أو سلطات الفأرة Mouse التي تخزّن المعارف والحضارات في رأسها المتناهي الصغر أو المساحات الصغيرة المسحوقة تحت سبابات البشرية. كان يكفي النقر أوّلاً مرّات ثلاث wwwكي يعبر الإنسان الرقمي Digital بسرعة الضوء نحو مخازن المعرفة ملفوفاً بالصمت الرطب الذي غالباً ما يحدثه العنكبوت في الزوايا والشقوق، فيلفّ العنكبوت البشري العالم بنسيجه الواهي الناعم.

منذ أن قدّم ماكنتوش، مخترع أوّل كومبيوتر للإستعمال الشخصي، نصوصه الإلكترونية المزيّنة بالتفاحة المقضومة، كان يُقلّد آدم عندما قضم تفاحة حوّاء فيؤسس لمحطّة ثانية وكبرى في تاريخ العلاقات البشرية. إنّها المحطة المشوبة بالفكر الخرافي والأساطير تذكّرني ب “قضمة” آدم الأولى  للتفاحة الأسطورية في حقول الجنّة الشهيّة أمام لحظ السيدة حواء وغوايتها. تلك الغواية التي لم تتمكن المرأة من تغطيتها بأوراق التين فقطفتها كلّها ولم تحظ بورقة واحدة تنال إعجابها فوقعت المرأة في علّيقة الموضة عنوان العصور. ربّما لم تنتبه حوّاء الى التشابه الهائل بين هذه الأوراق الأمر الذي يأخذني سياسياً إلى بساتين التين في فلسطين وغيرها التي لم تركع أمام خطى المسيح ابن مريم، فقادها عصيانها الى إلى أن تصبح طعماً لمواقد النار في الصقيع لدى مسيحيي الشرق.

 لكنني أصحّح بأنّ ريق العنكبوت ليس نسيجاً ناعماً على الإطلاق،كما ذكرت،لو عرفنا أنّ المادة التي تفرزها أنثى العنكبوت هي أصلب مادة موجودة على وجه الأرض تسيل من فمها مباشرة بعد تلقيحها من الذكر الذي تقتله الأنثى وهو في قمّة النشوة. هي الغزيزة والحكمة في موت الذكورة كي يتحوّل جسد الأب مخازن الغذاء لصغار العناكب. بعد يسهل نمو صغار العناكب وقوتها لإصطياد الحشرات التي تعلق بسهولة فوق شبكات(Reseaux) العناكب.

أتساءل: أليست دول العولمة هي المتخفية كالعناكب في تمرير الأفكار والثقافات والعادات والموضة والأحلام والميول والحاجات، ورصد معظم الأفراد وكلّ الدول الصغيرة في الذهن الأميركي القابض على السلطات وممارسها تماماً؟

أليس ما نفعله كأفراد أو دول هو مشابه لتلك الحشرات الصغيرة التي تعلق في الشبكات وهي تطير أو تتهادى أو تزهو في لحظات ما من تاريخ الكتابة والتدوين والبحث الإلكتروني؟

أقول أكثر مجيباً أننا إن لم نتعرّى أو نؤكل عند وقوعنا في الشباك الإلكترونية من مخابرات دولنا أو الدول الأخرى، فإننا قد يتمّ ترصّدنا ليقبضوا علينا في المطارات ويفدموننا هدايا في أعياد الميلاد حيث يملأ بابا نويل أميركا، والاّ فإننا قد نيبس تحت الشمس وتذرينا الرياح مع أوّل عاصفة إن كنّا جامدين في أمكنتنا؟

وليس نسيج العنكبوت، ثانياً، بسيطاً أيضاً على الإطلاق لو عرفنا أنّ الفكرة الخاصة بنسيج خيوط العنكبوت قد خرجت من رأس ضابط أميركي كان يدمن حراسة المعلومات الخاصّة بالدول في أقبية”البنتاغون”. ولشدّة ضجره في الحروب العالمية الباردة (حيث كان يسود آنذاك رعب نووي ما بين الجبارين، أثبتت الأيّام والتواريخ أنّه لم يكن سوى رعب مهندس لشعوب العالم الثالث وقد أتى دورها من أنظمتها قبل أن يأتي من غيرها) كان عليه مصادقة العنكبوت الذي كان ينزل اليه، يسهر معه،ويتسلق أجهزة الماكنتوش هناك قبل أن يغادرا الى النوم عند انتهاء فترة المناوبة. لم يكن الضابط الأميركي ليدوسه أو ينفر منه أو يؤذيه، مع أنه كأميركي لم يسمع بالجاحظ حتماً، ولم يقرأ كتابه  “الحيوان”، وهو كذلك لم يكن يعرف أنّ العنكبوت قد حمى كلمة الله الثالثة تحديداً، وحافظ عليها عبر حمايته للنبي محمّد الرسول الذي لجأ الى مغارة في غار حراّء وهو في طريقه من مكّة الى المدينة هرباً من أقاربه وأبناء بجدته يتعقبونه ويحاولون قتله، لكنّ أنثى العنكبوت سدّت باب المغارة بريقها اللزج الواهي مثل الدخان الأصلب في إخفاء الحقائق لأنها الكلمة التي دخل الله من بعدها مملكة الصمت السماوي، فارتفع العنكبوت الى مرتبة ما من القداسة والإحترام وعليه نحافظ كما حافظ علينا.

لربّما لم يكن يتصوّر هذا الضابط، ثالثاً، أنّ الفكرة المنسوجة من العنكبوت ستقفز بسرعة البرق فتنسلّ في ما اخترعه “ماكنتوش” مجدّداً آدم وحواء الى أجيال لا تنتهي من المخترعات الإتّصالية المحكومة بالولادات القسرية السريعة والموت السريع وصولاً الى تفجير الإنسان لجهازه العصبي المعاصر المنهك وربّما تحقيق استطاله الأخير. نقول،اذاً، أنّ ” الأنترنت” هي استطالة للجهاز العصبي البشري وهي كذلك فكرة تخرج من قلب المناهج المنظوميةSystématique التي تغزو الجامعات الأوروبية بعدما تأسست في الولايات المتحدة الأميركية في زمن فيض اقتصادها وتأهبها للخروج خارج حدودها في حروب رقمية تشابه الألعاب التي لاتنتهي لأنّ الفيض طويل. تلك حروب كان لا يدركها الضابط وهو يرسم العنكبوت للمعرفة الجديدة أو بلعابه الوهمي يسدّ باب المعرفة الجديد “الإنترنتية”،  فيحافظ على ماذا؟ على” نبؤآت” المعارف المعاصرة الغارقة في الشكلية والمشتاقة الى المضامين، وتلحّ في الخروج من رطوبة الأقبية الى” عش الشمس” التي تشرق أساساً في أقاصي العالم فتذوي وتبرد أو تخفّ حرارتها كلّما تقدمت بخطىً بطيئة نحو الغرب. كان طلابنا في الغرب يعشقون الحج الى هذا “العش/الرحم” وما يزالون، بعدما أسس الرأسمال الغربي الممثل بآبائهم دول “النمور السبعة” في شرقي آسيا(أنظر الى هذه التسمية الفضفاضة المقصودة بالطبع) التي اكتشفها الرأسمال وهو يمضي عطلاته السنوية ويتصفّى من أسقامه الكثيرة. جذبته برخص أياديها العاملة وشموسها الساطعة، فأسس فيها مصانعه أو نقل بعضها الى هناك، تماماً مثل أجداده وأحفاده اللاهثين اليوم وعبر التاريخ المحيطات نحو التوابل والهند والبخور واليوغا والأعشاب. وتأتي أميركا اليوم لتقرع أبواب الشرق بألعاب الحروب المحكومة بهذا النسيج المتفجر عبر تقنيات الإتصال.

العدد 127 / نيسان 2022