“في النور المنبعث من نبوءة الغراب” لسيف الرحبي، أوراق تدحر الموت بقوّة الكتابة

بيروت من ليندا نصار

“في النور المنبعث من نبوءة الغراب، أوراق2020 ” الصادر حديثًا عن  منشورات الجمل، يفتح الرحبي آفاق الكتابة بلغة شعرية جمالية، ويسيّر قلمه بخفّة الساحر وبحرّيّة الطائر الذي لا يمكن احتجازه في نوع أدبي واحد، فمن السرد، إلى اليوميات، إلى السيرة الذاتية التي تروي أحداثًا وثّقتها الذاكرة، فالشعر الذي يحمل حالات القلق حيث الإقامة في المسافة الفاصلة بين الشكّ واليقين… إنها عمليّة بحث في الوجود، عن الكائن بهشاشته وحركته وهذيانه في فضاءات لامتناهية حيث التعبير عن الأحلام المنتهية والانهيارات والآمال المفقودة، في زمن ساد فيه وباء صنع التحوّلات الكبرى في حياة الإنسان. فهذه الذات وجدت لغة شعرية تتماهى وسيرتها وتعبّر عن أصوات المهمّشين الذين وحّدهم الوباء تحت سقف العزلة.

يطرح الرحبي إشكالية الحياة الحقيقة التي يتّجه نحوها الشعراء فيوغل في عالم الذات التي تبحث عمّا هو جديد وعن الأمل وسط هذا الكمّ من الخراب. إنه يبني صورة جماعية تلتقي فيها الذوات عند حافة الكتابة لتتخطّى الوباء.

“فجرٌ آخر يطلّ على البشرية معبّأ بالهلع وأشباح الأوبئة والبراكين الخامدة في الأعماق المذعورة تنتظر لحظة الإنفجار.

“فجرٌ مخيف وعدواني، أتمشى، كالعادة التي بدأت تحفر مجرياتها وتفاصيلها مع الأيام، إلى نافذتي المطلّة على واحة الشجرة أنظر إلى كائنات الفضاء الأرضية تتقافز بين الأغصان، عصافير وزوج يمام وطائر صغير صدّاح، وثمة طائر (المينا) الآسيوي الذي يتعايش مع البيئة بشراسة فارضاً مكانته العدوانية على الطيور الأخرى كافتراس البيض وغيره.

الطفلان يغطّان في نوم عميق بعد أن هجرا المدرسة، ينامان في ساعة متأخرة ويسهران

لم يعبآ بالوافد الثقيل بقدر استمتاعهما بفسحة الحرية التي أتاحها الوباء بعيداً عن إكراهات الدروس الملزمة والمدرسة، حتى أن أحدهما قال ذات مرة: (لو كانت كورونا امرأة لتزوجتها)”

هكذا اختصر الرحبي أوراقه في أسطر مكثّفة تضمّ في ثناياه فترة قاسية مرّت على الأطفال والكبار.

هذه الأوراق التي كتبت على شكل نبوءة انتقلت من التاريخ لتكمل المستقبل. فما هي هذه النبوءة؟ تراها نبوءة الحياة أو الموت أو أنّها نبوءة لنهايات هذا العالم. يمثّل الشاعر دور الرائي والنبي الذي يستطيع التبصّر وتوقّع الأحداث المقبلة، في رسالة هداية للإنسانيّة تدعوها للعودة إلى الأصول الحقيقة، إلى الله بصورته الجميلة فهو الذي يمتلك مفاتيح الوجود لينقذ الإنسان من شقائه في هذا العالم.  وينتقل الرحبي إلى استعادة لحظات ما قبل الوباء ويتأمّل الإنسان الذي كان يدور في هشيم هذا العالم، يكلّمنا عن الحضارة التي وقفت شاخصة أمام هذه الأزمة التي اعترضتها، وكأنّها رؤية أو نوع من التفكّر الذي يقوم به الإنسان  مع نفسه بعد كلّ التقدّم الذي حقّقه. وقد عبّر الشاعر عن ذلك من خلال التنقّل من الأدب إلى المسرح فالروايات التي قرأها وتأثّر بها، وهو يذكر أسماء عظماء لفتته أعمالهم والأمثلة كثيرة على ذلك.

هذا الشاعر الذي أتقن عزلة الكتابة ولم يستطع السفر والتنقّل في الأصقاع من أن يأخذه من هذه الحالات أراد لكتابه أن يكون تذكرة عبور من عالم حكمته قسوة وباء استبدّ به.

إذًا يصّور الرحبي بلغة شعرية عالية تلطّف من قوّة اللهجة فيستعيد اللحظات ويقدّمها إلى القارئ على شكل مشهديّة أو صورة بصريّة تحدث الآن. إنه يعتبر أنّ الأوبئة ربما هي المقدّمات الضرورية، الإنذار المبكر لانفجار الخوف والموت. ففايروس كوفيد أعاد طرح أسئلة البداهة التي تجاوزتها علوم هذه الحضارة بتقنياتها ومعارفها المختلفة لمسافات طويلة من التحقق والإنجاز والتجاوز فإذا بأصحابه يحلمون بعلاج يوقف زحف الوباء.

العودة إلى الطفولة تتجلّى في عدة أمكنة من هذا الكتاب فسيف الرحبي يصرّ على نافذة الأمل ليطلّ عليه بلبل مليء بنور البشارة والغموض المبهج فتأخذه النشوة بعيدًا عن حقيقة هذا العالم. بعد ذلك ينتقل بنا الشاعر إلى حياة تناسلت من بعضها البعض لتشكّل حيوات مختلفة وليصيب العالم خرس يطبق على أنفاسه.

يحلو مشهد المكان بالموسيقى وسط الشوارع الفارغة  إنها المدينة التي لم يعد يعرفها، بالنسبة إليه، لعلّها فقدت هويّتها بفعل الفراغ الرهيب حيث تغيّرت ملامح الطرقات والشوارع. ثمّة استدعاءات مليئة بالحضور في مواجهة الغياب، وقد جعلت الشاعر يستحضر فيلم استانلي كوبرك “شايننج” لما يجمعه من فقد ووحشة مع هذه المرحلة.

للرحبي علاقة أفقية مع البحر فهو الذي يسير نحوه بحثًا عن حرية أو هدوء. إنه الإحساس المختلف الذي يحمله الشعراء في طريق العودة. وسيرجع إلى هذا البحر في نهاية كتابه ليخبرنا عمّا يحمله ويحتمله في آن.

يطلق الشاعر نظرة غضب تجاه الإعلام الذي يستثمر بالوباء أو بالزائر الغريب كما يسمّيه، فيتجاوز مفهوم الخرافات والأساطير حيث يحمل أخبارًا سارة لإعادة ترتيب هذا العالم. هنا امتزجت المشاهد بين النور والظلام، وكرسّام تبدّت قدرة الشاعر على العناية بالتفاصيل وإطلاقها والانتقال من موضوع إلى آخر وكأنّنا أمام حلقة حلزونيّة تتناسل فيها الصور من بعضها البعض لترتبط بخيط وثيق.

 ناصر وعزان مفاتيح العمر: الطفولة التي مكثت معه وما زالت وحي قلمه، فمن الغرفة المليئة بالأقلام والدفاتر  أصوات ما زالت مألوفة واستعادة لطفولته، يذكر بودلير وحديثه عن عبقرية الطفولة المستعادة والدادائيين الكلمة اللفظ الأول المبكر للطفل. فالطفولة هنا تمهيد للحياة.

هكذا يربط الشاعر الكتابة بالطفولة، ثمّ الحرّية بالطفولة فيكتب: “هل الكتابة والفن بهذا المعنى أو ما يوازيه تقليد لفوضى الطفولة الخالقة على طريقتها وبراءتها؟ مثلما كان المفهوم الكلاسيكي للفن والأدب كونه محاكاة للطبيعة؟”

“الحرية واختراق الحدود، هاجس الصنيع الفني وكذلك الفلسفي، دائمًا، كما هو هاجس الأطفال في صميم تجلّيات السلوك والتعبير.”

كما يتذكر الرحبي الفيلسوف برونو باتلهايم في نظريته ذات النزوع العدمي عن الأطفال الذين يشيدون الأبنية والقصور على الرمال لتمحوها الرياح وكأنّه هنا يختزل حياة الكائن على هذه الأرض وأحلامه.

تراقب الذات العالم بوصفه خاضعًا للصيرورة أو لشبكة من التحولات التي أحدثها الوباء، فيتساءل الشاعر حول شدّة هذه المشاهد وقسوتها التي أحدقت بالبشرية. إننا أمام الذات الشاعرة إذ تتأمل في عزلتها ويسكنها قلق وجوديّ.

يرسل الشاعر مرايا وصور تعبّر عن شقاء الإنسان وعدم تحقّق الأحلام لعلّه يمزج مراحل الحياة ويتأمّل في حياة الإنسان وفي كينونته وحضوره عمومًا. هذا الإنسان الذي أراد أن يتحرّر من وباء يحدق به هو ابن إيكاروس الذي ذابت أجنحته المصنوعة من الشمس، وهو بطل آلان باركر الذي سقط بعد أن حلم بالطيران للتحرر من سجن العالم. فهكذا هو الرحبي شاعر يحلق في حرية منحته إياها الكتابة إنه الشاعر الذي يتأمل في تفاصيل التفاصيل ولا يترك للهامشي من أن يفلت منه يليه عناية ليخرج بنصوص دافئة وسط برد هذا العالم القاسي. وهو يشبّه  جفاف الأحلام بجفاف منابع الكتابة، لعلّه القلق الذي يرافق المبدعين خوف جفاف الأقلام فكيف يكون الاستمرار في عالم أحكمه اليأس؟

ثمة قطيعة شبه نهائية بين الطبيعة المتجلية بجمالها وبين البشر، حتى الأطفال ينمون وسط التكنولوجيات فالمعنى غاب والروح غابت أمام وحشية  المال والتكنولوجيا التي غزت هذا العالم. ولا أمل إلا في انعطاف في سيرورة هذا التاريخ.

 المقارنة هنا بين الصين بفلسفتها وتاريخها الطاوية والكونفوشية… وبين الحكم وما وصل إليه الحزب الشيوعي يعتبرها الأكثر ضراوة في التاريخ بين الأنظمة الأخرى إن الصين الحديثة حالة خاصة في صعودها الاقتصادي وهي التي باتت تتبادل تهم الوباء مع أميركا وهي التي ستتفوق في انحطاط القيم والبشاعة. ينظر الرحبي إلى الحرب الحديثة على أنها حرب فيروسات وجراثيم هي حرب ابتدعها الإنسان للهيمنة والسيطرة حيث يحكم القويّ الضعيف هذه الفيروسات أشدّ فتكًا بالبشر. هي حالة من الرعب والقلق إنها معركة الحياة في مواجهة الموت، إنه فصل جديد في مسار الحروب.

أشباح الخطر والموت لم تغادر الكتاب بل أحدقت بالمدن الكبيرة وراحت تدعوها إلى حياة مختلفة، حيث نبرة الكتّاب والأدباء والفنانين اختلفت وصارت حزينة أيضًا. يرى الشاعر نفسه في مواجهة سؤال الوجود والعدم الحياة والفناء في رحلة الإنسان العابرة. فيشير بإصبع المؤمن عن التكنولوجيات الرقمية التي لم تستطع أن تحلّ محل الإله والروح الأعلى.

ثمّ يعود للبحث من جديد عن البراءة الأولى إذ يستسيغ سمعه للعصفور الأول أو لهديل حمام يتبعه الغراب في الليل المشي مع ناصر وعزان اللذين يسيران معه وسط الصخور والألوان والأشكال.

“كثيرًا ما يستغرق الإنسان السطحي في التفكير في البلايا التي تضغط بقوة على الكائن البشري ويفقد الأمل في إمكانية تحسين الحياة، بالأشياء من العناية الإلهية التي تدير العالم.”

تختلف مقاربة الوباء باختلاف الأنظمة فالبلدان الخاضعة لحكوماتها المستبدة والظالمة تذهب في الاستثمار في معاناتها بينما تبحث الدول التي تعتبر ننفسها أكثر حضارة عن الحلول الناجعة وفاء لحضارتها. هي الأنظمة نفسها التي ارتكبت أبشع المجازر بحق البشر.

كيف يمكن للكتّاب والأدباء أن يحوّلوا الكارثة إلى شعر وتجميل القبح والتشوّهات؟ سؤال يطرحه الرحبي في مستهلّ أوراقه ليأخذنا إلى الطائر الوحيد الذي يلتقيه عد البحر يتأمّل معه الزبد والموج ثمّ يشكّ في ما يراه “لعلّه هذيان شاعر يشعر بالوحدة والغياب الذي يولد مكتملًا من رحم الآلهة كما يقول. ” أسرّح النظر في أرجاء البحر والمدينة/ لا أرى إلا ما رأيته سابقًا/ برية من العدم/ غراب وحيد ينعق تحت شجرة البيذام/ كأنما يستغيث/ نعيقه المفعم بالرؤى والسواد”

يخلص الشاعر إلى نتيجة مغزاها أنّ الإنسان هو الإنسان في الأماكن والأزمان والقارات. النهاية واحدة مهما كان شكله، “الموتى أيضًا يتذكّرون أنّ موتهم، بالتوازي مع نسيان ساحق ليوم الولادة، ولادة جبل الطفولة، ولادة الكون الآفل لحظة انفجار الكينونة والمسار. ليس الشاعر من يؤرّخ المنعرجات والمسار، من المهد إلى يوم الدينونة، إنه قداس الأرق الليلي الذي يختفي بنجومه المضيئة وسط كثافة الليل وحشراته الزاعقة.”

 ثمّ يستذكر الشاعر الذين رحلوا محمد عيد ابراهيم وحلمي سالم وعلي قنديل وابراهيم الجرادي.

لم ينس الشاعر المرأة في فصولها وتجلياتها فيصوّرها بأنّها تغوي بعطرها وتحرّك الجماد حتى، كما أنّها الرسالة الحيّة التي تناقلتها الأجيال وهي لا تعرف قتيلها بحسب أبي نواس، إنها الخطر المختبئ في فستان الجمال الملقى على السرير…تلك التي تملك صهيل الجسد الصامت، الغافل عن ضحاياه الكثر، ضحايا الجمال الفائض والمغيب.

ويختم الرحبي كتابه برسالة عنوانها: ” إلى أعداء الحياة والمعرفة”: “لا شيء أحمله هذا الصباح/ على كتفي، إلا الألم/ يتسلّل إلى أعماق الروح/ الزلزال بجوار بيتي/ ما زال يخبط الأساسات والحيطان/ التي توشك على الانهيار… عليّ تهريب أطفالي إلى بلدان/ لا يطالها الزلزال والفيضانات/ بلدان مستحيلة/ أبحث عنها في خرائط محترقة…”

يعود الشاعر في نهاية النص إلى الطفولة والأطفال الذين أصابتهم التحولات. فالأعداء حوّلوا مشاعر الطفولة الجميلة إلى مشاعر ممتزجة بالخوف واللاأمان، فأين الهروب وقادة العالم يوزّعون الخبز على اللاجئين والمذابح لا صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصوها في كتاب الحضارة والحيوان؟

ثمة إبادة تبنّاها أعداء الحضارة والمعرفة، هم قراصنة التاريخ ومبيدو الأعراق والأديان، سفّاحو الدماء، معهم موت كثير وجرحى كثر، حيث روائح الدم تفوح من كل صوب. إنها الافتراسات  هؤلاء يبحرون في الخرائط المحترقة، فهل من فرصة للحظة أبدية، للبراءة الاولى، للطبيعة؟

يكتفي  الشاعر في نهاية نصوصه بهذه القصيدة ليقول أعماق الحياة، فالطائر الذي رافقه منذ بدايات الكتاب، أبى أن يتركه وحيدًا في نهايته حيث تجلّيات الطفولة، الذاكرة، الحنين، الحياة، الموت، القوة الضعف، الحنين، الألم، المدن الواسعة والمستقبل الغامض والمجهول :  “أيها الطائر/ وسط زوابع الصحراء والغبار/ تقف مكسورًا على عمود الكهرباء/ تدير جسمك الصغير/ في الجهات المدلهمّة/ كأنما تلهج بالموت والحنين.”

العدد 125 / شباط 2022