في حوار مع الشاعر العربي أحمد عبد المعطي حجازي

   يمثّل الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي تجربة فريدة في الثقافة العربية وهو من المؤسسين الرواد لحركة الشعر الحر الذي ظهرت بعد نكبة فلسطين عام 1948 في العالم؛ إذ شكل ديوانه  “مدينة بلا قلب” عام 1958 إلى جانب الرواد نسيجًا شعريًا أدخل الشعر العربي بنية تاريخية جديدة، وهو من المثقفين البارزين الذين ينتصرون إلى أسئلة التنوير والتحرر الفكر. ولد أحمد عبد المعطي حجازي عام 1935 بمدينة تلا المصرية، حاصل على إجازة في علم الاجتماع من جامعة السوربون الجديدة عام 1978، وشهادة الدراسات المعمقة في الأدب العربي عام 1980. عمل في العديد من المنابر الصحافية منذ عام 1956 سواء في مجلة “روز اليوسف” أم جريدة “الأهرام”، أم رئاسته تحرير مجلة “إبداع” الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب إلى حدود عام 2014. وتقلد العديد من المناصب أهمها: عضوية المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ورئاسة لجنة الشعر، ورئاسة مجلس أمناء “بيت الشعر”. صدر له الأعمال الشعرية الآتية: “مدينة بلا قلب” (1958)، و”أوراس”(1959)، و”لم يبق إلا الاعتراف(1956)، و”مرثية الزمن الجميل” (1972)، و”كائنات مملكة الليل”(1978)، و”أشجار الإسمنت” (1989)، و”طلل الوقت” (2011)، وأيضا مؤلفات أخرى تتوزع بين النقد والصحافة والسياسة كما هو الأمر مع “محمد وهؤلاء” و”إبراهيم ناجي”، و”خليل مطران”، و”حديث الثلاثاء”، و”الشعر رفيقي”، و”مدن الآخرين”، و”عروبة مصر”، و”أحفاد شوقي”، و”سارق النار”، و”القصيدة الخرساء”. كما حصل حجازي على جائزة كفافيس اليونانية المصرية عام 1989، وجائزة الشعر الإفريقي عام 1996، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 1997، وجائزة النيل عام 2013. وتمت ترجمت مختاراته الشعرية إلى لغات عديدة أهمها: الفرنسية، والإنجليزية، والروسية، والإسبانية، والإيطالية، والألمانية.

هنا حوار بين مجلة الحصاد والشاعر:

“الحصاد”  تصور قصيدة “صبي من بيروت” في ديوان “مدينة بلا قلب” طفلا في العشرين “يملك قلب شاعر حزين/ يحمل حزن اللاجئين/ يملك روح شاعر ثائر/ يداه في الحاضر/ في النار/ في بحر الدم الهادر/ عيناه في الآتي/ يستشرفان النصر موقوتا بميقات”. ترى من يكون هذا الطفل؟ وهل ما تزال بيروت في نظر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي تملك قلب قلبا للشعر والجمال والحياة؟ ما رأيك في الحركة الشعرية بلبنان؟

“أحمد عبد المعطي حجازي” طبعًا لا تزال بيروت في قلبي لأن ما تمثله هذه الأخيرة ليس بدعة بل تراثًا قديمًا ضاربة جذوره في التاريخ، ثم هو تراث إنساني بيروت أي فينيقية البحر المتوسط بشواطئه كلها. التعدد الذي يملكه لبنان أيضًا له دور كبير. كثيرون وللأسف الشديد، يتطرقون إليه على أنه نقيصة. في الواقع إنه غنى، وهم يجعلونه مرادفاً للتمزّق والواقع. إن التعدد يمكن أن يصبح متاحًا للحوار والتبادل ولكن هذا يتم في ظروف ليست كتلك التي نعيشها في لبنان أو خارجه، فخارجه يضغط على داخله ويجول التعدد الى تمزّق ويفقده القدرة على أن يقدم ما هو منتظر منه. لبنان يؤدي دوره إلى الداخل والخارج خصوصاً في مصر منذ بداية النهضة . عندما نقرأ بين كتب حسين العطار في مصر، وبين نقولا التركي مرورًا بما قدّمه أحمد فارس الشدياق وكبار الفنانين اللبنانيين … هذا الطفل الّذي في القصيدة هو وجه من الوجوه التي تعبر عن الرسالة التي يحملها لبنان. أساس العلاقة بين لبنان ومصر لا تعود فقط إلى القصة الحديثة، بل إلى العصور القديمة، منذ أن بحثت إيزيس عن أدونيس فوجدته تحت شجرة أرز وعادت به إلى مصر. يمكنني القول:  من أجمل ما قد يراه الإنسان في حياته هو اللبناني الذي يحول الحياة الدنيا إلى متعة وجمال ومحبة وعرس.

“الحصاد”  تقول في قصيدة “طلل الوقت”: “شجر ليس في المكان/ وجوه غريقه في المرايا/ وأسيرات يستغثن بنا/ شجر راحل/ ووقت شظايا/..” هو الطوفان، هل نحتاج إلى سفينة نوح أخرى لكي ننقذ البشرية من هذه اليابسة التي تفتت عظامنا بتعبير أمل دنقل؟

“أحمد عبد المعطي حجازي”  نقول في طلل الوقت نحتاج الى سفن كثيرة. إن سفينة نوح لم تنقذ إلا نماذج من كل جنس ممثل ولم تستطع أن تنقذ كل شيء، بل تركت معظم الأشياء لتلقى مصيرها. نحتاج إلى إنقاذ البشرية كلها والحياة والطبيعة. الطبيعة في هذه الأيام تتراجع. الكائنات تتعرض للأخطار والتحديات. أصبحنا نعيش متعبين من جنون يحدث، وقد تكون النتيجة الفناء بوساطة هذه الأسلحة الفتّاكة الحديثة، أظن في مقابل الأخطار هناك مؤسسات ومنظّمات قامت لترعى السلام وتحقق التواصل والتبادل والتعاون بين البشر، وتقيم الحق وتضع لكل شيء قانونًا، البشرية تقدمت لكن الأخطار تتزايد، نحن نحتاج إلى العمل لكي ننقذ ليس فقط شيئًا ونترك أشياء أخرى. مثلاً عندما نتحدث عن الحضارة نتحدث عن أعمال كبرى وتراث أساسي نحتاج إليه، لكن هناك أعمال مجهولة محدودة القيمة أيضًا تخص جماعات صغيرة، وفي ظل هذه العولمة تنسى وتفنى. كيف يمكن للبشرية أن تنفذ هذا كله؟ وفي ظني – يجب أن نرفع أصواتنا ضد آثار التوحش والتي ما يزال معمولاً بها في بعض المجتمعات والدول، وأن نخرج من التفرد ونطهر البشرية وننقذ ما تضحي به للفناء والرماد.

ما نعانيه الآن الإرهاب باسم الدين والعنف الشديد هذا من بقايا التوحش يستحيل أن يكون حضارة وإنسانية، وقد لا يتصور أن يخرج فجأة واحد من هؤلاء ويتحول الى قنبلة يفجر نفسه والآخر. كيف يمكن لهذه الثقافة ان تبقى وتغني الثقافات الحقيقية التي لا أحد يراها؟

“الحصاد”  تحكي قصيدة “كان لي قلب” في ديوان “مدينة بلا قلب” عن القُبلة الأولى من خلال بلاغة الاستعادة من داخل مساحات التخييل الشعري؛ حيث نتلصص على الحديث الذي كان يظهر في عين الأنا الغنائية على الرغم من أنه كان مهموسًا ومجهولاً إلى درجة أننا نتعاطف مع بطل قصيدتك في الرواية التي يقرأها الصوت الشعري داخل القصيدة بوصفه بطلًا مهزومًا في علاقته بالمرأة ككائن معشوق. ما علاقتك بهذه المرأة المتخيلة في هذا النص تحديدًا؟ وكيف تقربنا من رؤيتك للمرأة في واقعك المادي الملموس؟

“أحمد عبد المعطي حجازي” هي علاقة ملتبسة ومعقدة، نعم علاقتي بالمرأة كما عبرت عنها في شعري هي علاقة الرجل بالمرأة في بلادنا، ، لأن الحاجة العضوية فيها والحاجة العاطفية الإنسانية دائماً مرفوضة في الثقافة السائدة. ولكنها لا بد من أن تعبر عن نفسها فلا تستطيع إلا متخفية، لا بد أن تزيف نفسها وأن تدعي حتى تصل الى ما تريد لأنها لا بد أن تصل الى ما تريد ومع أني لا بد أن أكون قد تحررت الى حد ما من هذه الثقافة المتجذرة، أولاً لأنها لم تعد مجرد تربية ننشأ عليها ونستجيب لها دوماً ونعيها أو نتأملها. لا شك أنني استطعت بعد تلك المرحلة التي كتبت فيها هذه القصيدة حيث كنت في الثامنة عشر من عمري، أني تحررت الى حد ما من هذه الثقافة ومع ذلك ظلت قادرة على أن تتدخل في علاقتي بالمرأة. منذ ذلك الوقت السعيد الذي أتحدث عنه، وأنا لم أعش فقط في ذاكرة ضيقة، بل كنت دائماً في دائرة واسعة لأني منذ بدأت أنشر شعري وفي ذلك علاقاتي كانت مفتوحة، واسعة ثم لأني اشتغلت في الصحافة 1956 كان هناك عالم واسع الصدر والفهم والقدرة على الاتصال والتواصل موجود دائماً، ولم تكن المرأة مجرد موضوع، بل كانت طرفًا فاعلًا في العلاقة. من هنا يحتاج الأمر في نظري الى كلام طويل، لأنه يلزمه تفكير وتذكر واستحضار مواقف، حتى يمكن للإنسان أن يعطي هذا السؤال حقه.

“الحصاد” لديك علاقة ملتبسة بالشعر بوصفه توسطًا جماليًا يقيم في حدين: حد الحب المخملي الملهم والآسر، وحد القسوة التي تصل إلى سطوة الموت كما صرحت في أحد حواراتك. كيف يمكن أن يكون الشعر حبًا رائعًا، وفي الوقت نفسه موتًا قاسيًا؟ ألا يحيل هذا الأمر إلى وجود هوة بين واقع المدينة حملتها في قلبك، وصورتها في لحظة الخراب الذي تعيشه عربيًا؟

“أحمد عبد المعطي حجازي” الشعر احتياج إنساني لا غنى عنه لأنه أكمل تفسير عن إنسانية الإنسان ومن حاجته الى الآخرين، وأكمل تعبير في اللغة، وهي وسيلة الإنسان بالاتصال بالآخرين . هذه اللغة تعني المدينة والحضارة.

الشعر كأنه وسيلتنا لأن نعيش معًا، ولكننا لا نستطيع أن نتصل بهذه الوسيلة إلا اذا كنا نتمتع بأقصى الإخلاص والقدرة على الصدق. إنّ الوصول الى هذا الحد من الاخلاص والصدق مليء بالقسوة عنيف لأننا لا نستطيع إلا أن نتعرض إلى القسوة وحين نجد أنفسنا في الشعر بين هذين الحدّين : المودة والموت أي الحياة في عمقها والموت في قسوته، وأنا اعتبره انقطاعًا وعدمًا. وربما تعتبر أيضًا حركة الشاعر بين هذين الحدّين ملهمة.

“الحصاد”  هل استطعت أن تقتل “مدينة بلا قلب” وهيمنتها على صوتك الشعري؟ أم أن “مدينة بلا قلب” تحولت إلى “قصيدة خرساء” بتحديداتك النظرية جراء تنميطها من خلال اعتماد معيار قصيدة النثر العالمية؛ إذ حققت الشرط الحداثي الذي وضعته سوزان برنار في ما يتعلق بالمجانية، والعضوية، والتكثيف على الرغم من أنها قصيدة حرة؟ ألا يعني هذا أن النصوص الجميلة تبدع شكلها الخاص، ولغتها الخاصة لتتحول إلى سلطة جمالية كما هو الأمر مع تجربة بودلير؟

“أحمد عبد المعطي حجازي” هذا السؤال ذكي وقد أطلعني على أشياء لم أكن منتبهًا إليها، وهي استمرار مدينة بلا قلب في المجموعات التالية لها بالإضافة إلى القرابة التي وجدتها في قصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر، من حيث هذه السمات التي حددتها سوزان برنار. مؤكد إنّ العالم هو نفسه، وهو استمرار له ولكن أحيانًا القصيدة تدور حول واقعة والتالية تدور حول ذات الواقعة، لكن حين تصبح هذه الواقعة ذكرى عندئذٍ تكون هذه الحركة بين التجربة الفعلية التي تستغرق الشاعر وتنطقه وبين العودة الى هذه التجربة من خلال الحنين والتذكر، وأظن أن هذا يمكن أن يفسر كذلك أن نتنقل به من الديوان الأول إلى الديوان الأخير، لأنّ طلل الوقت ليس إلا تذكراً للخبرة التي نظمت من قصائد الديوان الأول حاولت من الأخير أن أصنع من الذكريات أطلالًا للوقت، كما كان الشاعر القديم يقف أمام الطلل المتكرر فأنا جعلت طللاً للزمان، وعندما تنجح من أن تجعل الزمن طللاً تستطيع التحرك بين الزمن الواقع والزمن المستعاد في وقت واحد.