قطعة السماء الشريدة

الوطن الجريح الذي يحلم منذ دهور بالتئام جراحه، فإذا بها تزداد اتساعاً وعمقاً، إلى أن وصلت اليوم لتهدّد كِيانَه الفريد في المنطقة، بخطرٍ وجوديٍّ مصيريٍّ، لا يطاول شعبَه ودورَه فقط، إنّما يُرخي بتأثيراته على المنطقة برُمّتها نظراً لموقعه الاستراتيجي، إنسانياً وجغرافياً وسياسياً وثقافياً. الوطنُ الأيقونة، ووطن الريادة، لبنان الطّاعن في جماله وقدسيّته والآتي من عظمة التاريخ وفرادة المعنى. هو مَن لأجله تضرّع النبي موسى إلى الله ليسمحَ له برؤيته ولو من بعيد: “دعني أعبر وأرى الأرض الجيّدة الّتي في عبر الأردن، هذا الجبل الجيّد ولبنان” (التوراة، سِفر التثنية 3: 25).

 “لبنان الذي ذُكر أكثر من 70 مرةً في الكتاب المقدّس، وأرزُه أكثرَ من خمسٍ وسبعين مرةً. هذا اللبنان الذي فتَن الشعراء والفلاسفة والفنانين، نُظمت في بهائه أجملُ القصائد. لبنان قطعة السماء الشريدة التي حطّتْ بها الغيوم هنا، أهداها بعضُ حكّامه إلى إبليس ليقيم عليها طقوسَ جهنّم، وكانت بيروت وليمتَه الأشهى. بيروت التي ألهمتْ الشاعر اليوناني العظيم ننوس فكتبَ “ملحمة بيروت الميمونة” في القرن السادس إثر الزلزال المدمّر الذي ضربها وقتل ثلاثين ألفًا من أهلها، خاطبها قائلاً:

“يا بيروت/ أنتِ أرومةُ الحياة/ مُرضعةُ المدن/ مَفخرةُ الأمراء/ أولى المدنِ المنظورة/ الأختُ التوأمُ للزمن/ المعاصِرةُ للكون/ كرسيُّ هرمُس/ أرضُ العدالةِ ومدينةُ الشرائع/ معبدُ كلِّ حب، ونجمةُ بلاد لبنان”.

نفتح أبواب الزمن الجميل للبنان. هذه الأبواب التي دخلت عبرها ثقافاتُ التنوير والحرية والانفتاح والأدب والنشر والصحافة والنهضة، والسياحات التاريخية والطبيعية والطبية والتعليمية والترفيهية والفنية والثقافية. عبر هذه الأبواب كانت وثبةُ بلدٍ صغير إلى العالمية والعولمة والحداثة، نافس بها البلدان العظمى بجغرافيتها وتطوّرها وإمكاناتها.

هذه الأبواب التي لم تتوقف محاولات إغلاقها منذ عقود، على يد من تخيفهم الحرية، ويخشَون التعددية الثقافية، ويرعبهم التنوّع الحضاري، فيحاربون مَن بهم شغف الحياة والحب والجمال. مَن حاولوا كسرَ هذا الأنموذج، ربما نجحت بعضُ محاولاتهم عبر الحروب والعنف والتهجير والهجرة والتيئيس، لكنهم موقنون في صميمهم أنّ مرفأ بيروت الذي لم يتوقّف عن أداء دوره التاريخي من موقعه الاستراتيجي في المنطقة والعالم، لم يتوقّف منذ أيام الفينيقيين مرةً واحدة سوى بتفجيره المأسوي في الرابع من آب 2020، وهو الصورة المصغّرة عن لبنان الصّامد أمام أعتى العواصف.

ثراء هذا التاريخ الآتي من أكثر من سبعة آلاف سنةٍ، لم يتوقّف يوماً عن ابتكار النماذج الحضارية التي أبهرت العالم. كل مرحلة طبعت لبنان ببصمة مختلفة جعلته قِبلةً للمستشرقين والأدباء والعلماء والمفكّرين. إلى أن تربّع في منتصف القرن العشرين على قائمة البلدان النموذجية في الثقافة والفنون والسياحة والقطاعات المصرفية والتربوية والطبية وغيرها. فلازمته صفات الجمال والحضارة مثل “سويسرا الشرق”، و”باريس الشرق” “ولؤلؤة المتوسط” و”عروس المتوسط” و”منارة العرب” وصفات أخرى كثيرة.

لم يكن هذا الموقع المتقدم الذي وصل إليه لبنان وليدَ صدفة أو هدية من أحد، بل كان نتيجة تميّز شعب وحلمه بتحقيق المستحيل، مستعينًا بمقدّرات وطنٍ استثنائي وهبه الله عطايا لا تقدّر بثمن.