قراءة في ديوانيْ “الطارق، دوائر وجودية” مكرم غصوب، و”فصل خامس للرحيل” محمد ناصر الدين

نسرين الرجب لبنان.

الشعراء يتْبَعون حدسهُم الشخصي في تحسُس هذا العالم، هم غالبا مُحملون بإرثٍ نفسي، واجتماعي يُوجه مساراتهم، تنضِجُهم التجارُب، وقد يخونون الوصايا، على سبيل الكينونة الشعرية.

 ديوان » الطارق، دوائر وجودية« الصادر عن دار النهضة، للشاعر مكرم غصوب، ينظر الشاعر في مرآة ذاته وينطلق من محوره الشخصي حتى يُدرك وجوده في الجماعة، وهو في حالة تساؤل دائم عن موقعه من هذا الكون المترامي الأطراف والدلالات، يبحث عن أسباب وجوده، يحيط نفسه بدوائر ومحاور الكون حتى يصل لمعرفة جدوى استمرارية وجوده، ومصيره، فهو لذلك يميل نحو الحرية للتحرُر من كل ما يُثقل ذاكرته الجمعية، فيتعالى على مورثات الفكر والدين، غير عابئ بمقدس أو بعُرف، أو مُعتقدات تحكم وجوده المُرهق، فمهمته إعادة بناء منظومته الفِكرية، لذا فهو لا يستثني فكرة حتى يُحاورها ويؤاتيها حيث يشاء عن رضا أوغصبا، كونه لم يعد مُقتنعا بالمُسلمات، يجهد لإصلاح هذا الخلل، فيتخد أدوات الفلسفة الوجودية، ضاربا الشك باليقين.

لوحة الغلاف للفنانة الإيرانية نيغين فلاح، »شجرة الشيطان«، هي شجرة تتغذى على القتل والدم لتورق أذى باسم الآلهة الخرساء، اللوحة تبدو لناظرها سوريالية تحاوطها أحرف وكلمات، وتنسجم مع حالة الديوان التي تميل نحو العدم في أشد مظاهره تفاؤلا.

يتخذ العنوان سِمات وجودية: »عيناك مصلى إله كافر، قلبها الطارق/ وما أدراك ما الطارق«، فسَر العلماء أن الطارق هو النجم المُضيء الذي يثقب نوره الظلام فيخرق السماوات وينفذ إلى الأرض، فهل قصد الشاعر بالطارق أسئلته الوجودية التي تطرق ظلام العالم حتى ينفذ إلى نور الوجود؟! » في الدوائر نقطة البداية هي نقطة الوصول/ وفي آخر الدوران أول العبور.. « لطالما كانت الدائرة هي دوامة لامتناهية من الأسئلة، » تؤلمني أفكاري مذ دخلت الدوائر المغلقة8. لم أكن أعلم أن الخروج مستحيل.. أشتاق الطفولة/ أزداد شيبا وتزدادين جمالا أيتها الطفولة«، تُعبر الدائرة عن العبث كما في أسطورة سيزيف، وهي دورة الحياة من الولادة حتى الموت، وهي في هذا الديوان تتمحور وفق ثلاثة أناشيد: »الحياة خيانة، إله من إله، زمكاني«.image_6_1 (1) copy

يُهدي الشاعر ديوانه: »إلى الإله الذي يستلذ الذبائح، لعل الحبر يصير دما والورق جسدا ويولد الإنسان من الشعر«، على مدى 300 صفحة يُثير الشاعر هاجس الفكر والتخيُل، يُطلق العِنان لأسئلته، في بعض المقاطع ابتعد عن الشكل الموسيقي للقصيدة، واتخذ السرد قالبا يطرح من خلاله فكرته الشعرية،

يُرقم الشاعر نصوصه بالأعداد اليونانية بدلا عن العناوين الفرعية، وكأنه يؤطر أفكاره، يلجأ إلى المُفارقة، فيطلُب من حبيبته الابتعاد بهدف الاقتراب: »ابتعدي عني حد التوحد بي«، فـ»الوجود أتفه من أن يؤخذ على محمل الجد« فهو: »لست زيزا، صرصارا، / لكني لم أتفهم حتى هذه اللحظة، العجلة في عالم النمل، هل الحياة على هذا القدر من الجدية؟« العيش لا يستحق هذا السعي الدؤوب، ليس عن تكاسُل كما في حكاية »الصرار والنملة« ولكن يشعر بالعبثية واللاجدوى، يحاول توصيف حالة الاغتراب التي تحكم الوجودي، غيابه عن نفسه ونكرانه لصورته التي يراها الناس »يقولون أنه جسدي ولكني لا أشعر بأي حنين ان أراه من بعيد.. «.

 لا يغيب الله عن وجودية الشاعر: فهو الـ »كان« والـ »يكون«: »كون الله الكون: أخرجه من العدم إلى الوجود/كان يكون، كن، كونا وكيانا وكينونة، فهو كائن/ كان:فعل ماض ناقص«، الله هو استمرارية الفعل والإنسان كائن فهو فعل ناقص الفعالية، يصبو للكمال، الحاضر هو الفعل، المستقبل يعد بالأفضل على الأغلب، ولكن ليس على ما يبدو في ظل حياة القتل والتهميش، فـ»التنين حقيقي والخضر أسطورة/ من أي شح تخافون/ والينابيع تفيض بالدماء/ مجمع الآلهة صار وحدة الآلهة… / العقد زادت والقتل استمر !/ هذا كل ما أنجزه البشري بعد الحضارة« لا يوجد حضارة هناك قتل وتهميش، وذبح، الوحش هو الحقيقة والنبي هو الأسطورة، تعمد قول البشري وليس الإنسان، وكل يدعي نفسه إلها.

فـ»الشاعر هو من يستطيع أن يقول أكثر من الكثير بأقل من القليل. / رسالة الشاعر إيقاظ الإله الشاعر النائم في كل بشري وكل ما عدا ذلك خيانة للشعر«. لا يقول الأشياء على حقيقتها الواضحة الجلية، لا يُشرح الواقع، هو يتحسس نبض الحقيقة، ويتلقى الإلهام المُرسل، يتمثل رؤيته للعالم، ويمضي مُشتعلا بالأرق.

اللغة هي سلاح الشاعر قد تضعه في مصاف المجدين، وقد تخونه فتهبط به في قاع الإبتذال: »هي التي قالت لي: في الحرب الوجودية، إن لم تكن/ كلمتك رصاصة في صدر العدو، أصمت، لملم خيانتك. / وارحل«، يزيح الشاعر الألفاظ عن سياقها اللغوي المعهود، ينتعل الطريق، يمشي وراء الريح، ينثر رماده، الولادة هي الحياة والموت، يُحاول أن يبدو حكيما، يُنضج فكرته على نار التمرد والمُخالفة.

لا يغلب على نصوصه غموض الحداثيين من حيث تركيب الجملة، وتنسيق عناصرها، ولكن الفكرة مُفزِعة، موجعة بشكل شعري مبالغ في حساسيته، »الأرض بيضاوية ولكن الوجود مسطح طالما البشري موجود«، يفتقد البشري للعُمق، يُقدم الشاعر صورة مأساوية عن الكائن البشري، حتى لا يقول الانسان في أكثر من مكان مُتعمدا لفت نظر المُتلقي، فهل أُفرغ البشري من إنسانيته؟!

الشاعر يكابد الإشارات التي يتلقاها، ينشئ كينونته، الشعري يدوم وهو على الرغم من كونه ضرب من التخيل، حيثُ الشاعر يكسر حاجز المعتاد، يُصارع الأرق، القلق، والعدم، يتشبث بالأسئلة، ويتخذ الدائرة رمزية خلاص، ، الصورة في شعر مكرم غصوب، تُفارق المُمكن وتطرق باب المُستحيل، حتى يكِل المعنى، وتتنازل القصيدة عن حقِها في الوزن والقافية، إلا ما ندر، يموج الديوان بتراكيب بلاغية ذات غرابة منها: »شجرة الصمت، أفق عينيك، عيناك مصلى إله كافر، حتى يقول في ختام المقطع الأخير: »لأني الوجود النابض بالعدم/ المكان مخبأ الذكريات/ الزمان ممحاة الذاكرة.. « ويتقدس مجد الشاعر »وأنا وحدي إله زمكاني«، بين الذكريات والذاكرة فاصل المكان والزمان، » الزمان مكان تجرد/ والمكان زمان تجسد« الشاعر قاوم الماضي ما كان عليه، تأله وارتفع بالتجربة، ليكون ما يُريد يتجلى في كتاب »فصل خامس للرحيل«، الصادر عن دار النهضة، أيضا، للدكتور الشاعر محمد ناصر الدين، الرحيل المُتعلق بالموت، والغياب، يحضر موضوع الموت بقوة، يحتل الصمت مكانة واسعة منه.

يقع الكتاب في 104 صفحات، ويتكون من 42 نصا شعريا، يحتل البياض محورا أو علامة خاصة في الكتاب، يبدأ من الغلاف، حيثُ تأخذ لوحة للفنان »آني كوركدجيان«، مساحة صغيرة في وسطه لجُثة ممددة وأشخاص يُحاوطونها بينما يحاول بعضهُم حملها، وكأن به يقول أن الموت لا يُتعب الموتى، بينما يُشكل فوضى في حياة الأحياء بعده، وهو جُثة هامدة لا حول لها ولا قُوة؟!

 في فلسفة البياض يغيب الكلام، وتتخذ الصورة مكانا موحيا بما امتُنِع عن الإباحة به، يتضمن الكتاب صورا فوتوغرافيَة، لـ«حسين ناصر الدين« بالأبيض والأسود، لقطات ساكنة، لا وجود للحركة فيها، أو أن الحركة مُجمدة في تلافيفها، منزل، أبواب، وأشجار وفضاء ومنديل يتطاير، طفل منخفض الرأس تحتل صورته السماء، لقطة لمدخل منزل تدُل على أنه ها هُنا كان يوجد حياة وغابت، كما يبدو دار واسعة، مقاعد وطاولات، أغصان شجرة متدلية، لُعبة مرمية على الأرض، صورة شاب، ليل وأشجار قبر وبيت، هل هو الموت الذي يُحيل الأشياء جامدة، لا أثر للحياة فيها؟!

يُحفز الحذف وحركية البياض في النص مُخيلة المُتلقي، ويُساهم في إحداث حركة نوعية على أسلوب النص، يُكثف مُعطيات الصورة، يكسر روتينية الصفحة التي تمتلئ بالكلمات، لذا يلجأ الشاعر إلى علامات التنقيط وإلى الهوامش، إيمانا بأن المُتلقي ليس عنصرا سلبيا، بل هو الذي عليه ملء فراغ النص، ولكن هل ينقلب البياض على قاصِده، فيغيبُ المقصد ويغيب ُ صاحبه؟!

في الكتاب الكثير من الفراغات البيضاء، التي قد لا تتسع في مواقف كثيرة إلا للتساؤل، تساؤل قارئ قد لا تروي شهيته الشعرية، فيشعر أنه أمام نص عادي، أُفرغ من محتواه، وأنه عليه ملء الفراغ بالشعور المناسب.

الصمت من المحاور التي تغنى بها الشاعر، صرح به، واعتبر أنه والشعر عُنصرا تجاذُب وانوِجاد. لا تقف بلاغة الشاعر عند حدود الكلام، بل تُلامس أطراف الصمت، فالشعر برأيه يُحب الصمت، وعلى الشاعر أن يتعلم قيمته: » تعلم أيها الشاعر شيئا واحدا/ من الأبكمين، القلب والصخرة/ الصمت أجمل ما في الموسيقى«، فهل هذا يشفع لغياب الحس الموسيقي من شعره؟! هل تكفي الصورة لنرتوي بالنغم؟! وأن يتعلم كيفيته: »أكثر من الفراغات البيضاء فوق الصفحة.. / فرق مثلا الأحرف الستة في سبتمبر« ثم يضع كل حرف على سطر.

إن للصمت حكمة، قليلٌ من يُدركها، فهناك » الصمت الذي يفرمل العالم« في مواجهة كثرة الكلام التي قد تؤسس لفوضى يغيب عنها المعنى، فتصير خواء كمثل من يحشر الكون في صخرة كما يقول الشاعر: »الشعراء فاشلون/ يحشرون الكون في صخرة«، يتخذ الشعر مسافة من المواضيع، كي يُحسن رؤيتها: »كذلك الشعر/ مسافة بين الأشجار وأسمائها/ أرق من الضوء في الشجرة«، الشاعر شمولي الرؤيا، يتحسس الكون بحسه الباطن فبين الرسام، والصياد، والرياضي، والحطاب، الشاعر: » فوق/ تحت/ كعب/ قلب الشجرة«.

في قصيدة »فصل خامس للرحيل« والتي تحمل عنوان الكتاب، يقول: »حين ندفن غدا/ سيكون دوما بستانيون جيدون/في الحديقة، / وحين ينحنون قليلا فوق الأرض/ ليطمئنوا أن الوردة تشق جذرها بثقة/ نحن أيضا/ نتحسس هيكلنا العظمي قليلا/ نعتذر بشدة من غبارنا الكثيف/ نتبخر/ نرتب فصلا خامسا للرحيل/ نترك للوردة التراب كله. « بين حين ندفن غدا و نترك للوردة التراب كله، مشهد البستاني، الحديقة، الهيكل العظمي الذي يصير رمادا. من الموت حتى الولادة فصل الرحيل الذي يترك إمكانية لولادة ثانية، ولادة الوردة، عندما تتحلل الجثة، ولادة الجمال من القُبح؟

 تظهر في قصيدة » في ما تقوله المشافي« مفردات ومصطلحات على علاقة إشارية بالمرض والمشفى، مفردات الجسد البشري: »جماجمنا، الأضراس، العظام، العينين، فروة الرأس، القلب، الذكرى« ثمة ألم وحزن ووهن، مريض يُعاني، وحقل معجمي على علاقة بالعلاج والمرض: »أشعة أكس، المشفى، اسم المريض، الغرفة، الممرضات، الطبيب، السكري، الزهري، ترقق العظام، التوحد، تبديل الأغطية البيضاء، أبر المورفين، الدواء السائل، العروق، الغرسة البلاستيكية، مساعد الطبيب، القاموس الطبي، الكيمو، أكياس المصل، التلاسيميا«، يوثق الشاعر المشهديات بطريقة لافتة، أُم تصلي للرب أن يشفي ابنها » من قلب ينقبض في الوحي/ وينبسط في التجربة«، في بعض حالاته يبدو النص غير خاضع لمنطقة الوعي، ففي المقطع الخامس من النص، هناك 12 سطرا شعريا، نجد فقط علامتيْ وقف، فاصلة في السطر السادس ونقطة في ختام المقطع، مما يوحي بأننا أمام نص سوريالي النزعة، يستسلم الشاعر فيه لحركة المشهد.

يدخل أروقة المشافي لينقُل لنا مشاهد المرضى الذين يُصارعون الموت بالعلاج، في مكمن آخر نجده يحشر تراكيب لفظية تُحيل إلى أسماء مشاهير: بيتهوفن، كتاب التحولات لأوفيد، وسورة النجم، فهل يقصد من خلالها أن يشرد بذهن المتلقي حيث يغتني نصه بالخيالات، والمعاني العميقة، هل يهذي بجديَة بالغة !!

 قد يُفرغُ الشاعر الُلغة من جديتها، عندما يُسيء نظم الكلمات في السياق، فتغدو هشة، حتى لو فاجأنا المعنى، فإدخال كلمات أجنبية، على سبيل أنها مُستوحاة من روح العصر، تُجمد النص في مرحليته، فهل سيبدو الشاعر أكثر انفتاحا وغرابة فيما لو فعل ووضع كلمة أجنبية مفتاحا لنصه؟! »تجد like، قميص lacoste، أنتقي بيضة kinder، «، ماذا لو أبدل كلماته وعربها، أليس من مهام الشعراء رفد اللغة بالكلمات الجديدة، وإنضاج معانيها؟! وتتجلى الغرابة في نصوص تحمل عناوينها أسماء حيوانات أليفة وأُخرى مُفترسة، وتحضر في بعض النصوص، أسماء شخصيات ثقافية شهيرة: »أناتول فرانس، نيتشه، ماري كوري«، وغيرها، حتى يُكاد لا يُحتمل ضجيج حضورها، في آن معا.

 في الكتاب، هناك إشارات ودلالات غائمة، بعيدة، وهناك شاعر مُنسجم مع الأسماء، حتى ظن أن بها الشعر، ربما غابت عنه مقولة: »كل ما زاد عن حده نقص«.