قراءة في  ديوان  »مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء«، للشاعر قاسم سعودي.

نسرين الرجب

بيروت ـ لبنان

كتابة تسعى إلى الخلاص!

يُعايِن الشاعر قاسم سعودي في ديوانه  »مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء« العالم بعينٍ فوق-واقعيّة، ورؤية غاضبة ساخرة ورافضة، يفكّك معطيات الواقع ويشرِّحها في دعوة لإعادة النظر في الكثير من مسلّماته البائسة، وهو على الأغلب واقع الفقراء ضحايا الشعارات الوطنيّة الخادعة، الواقع العراقي والذي حضر فيه ذكر صريح لأسماء أمكنته )الرصافة، شوارع بغداد، نهر جاسم، ساحة الأندلس، البصرة…(، ولدلالات مرتبطة بأحداثه: )داعش، الحروب الثلاث، كثرة الشهداء..(، يوجّه نقده للثقافة التي تمجّد الموت، يتّسم أسلوب الكتابة بالعصبيّة، والروح النزقة التي تتعامل مع المحسوسات بطريقة غير منطقيّة، يختلط فيها الواقع بالمتخيّل في تجربة هذيانيّة تؤرّخ للعبث، وترصد عدميّة المعنى، كتابة تثير الأسى، والخوف، وتزرع الرعب في المشهديّات، هناك نفس شعري يدوزن إيقاع النص، حتى يأتي على شكل مقاطع متبايِنة في الحجم.

يحمل العنوان في ذاته دلالة تضاديّة )قارب مقلوب- صحراء( ينحو فيها الشاعر إلى إحداث الغرابة وافتعال المجاز بهدف التأثير والإيحاء بتماثليّة عبّرت عنها آداة التشبيه  »مثل«، في قصيدة تحمل العنوان نفسه يقول:  »مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء/ أنام على السقف/ يصرخ السائق العجوز، استيقظوا أيها الشجعان/ لقد وصلنا إلى الجنة/ نحمل بنادقنا/ ونركض / ياه كم هو لذيذ أن تطلق الرصاص على رأس/ أحدهم…« عن أيّة جنة يتحدث الشاعر هنا، وإلى أية لذّة تقوده   »ياه« التعبير؟! )نوم على السقف ، عجوز ، أمرٌ بالاستيقاظ، الوصول إلى الجنة، البنادق، الركض ، الرصاصة…ولذة؟!( ربما هي لذة الموت الساديّة، القتل بحجة الدخول إلى الجنة، أليست هي ثقافة حاضرنا المشبّع بروائح الدم والجثث، أليس هذا التشظّي والكابوسيّة حالنا الذي نحياه ويحياه على الأخص المواطن العراقي بكل بؤسه وحزنه الذي يقتات من روحه، ومن هنا نصل إلى الإنفعاليّة، إلى الطاقة الدلاليّة التي تتفجّر حزنًا وألمًا لتترك شظاياها على شكل كلمات وجُمل تنتثر  في صفحات الكتاب، للديوان عنوان أوّلي  يتماهى مع المضمون، عنوان سوريالي، يتنامى فيه وعي الشاعر على الرّغم من حالة اللاوعي الظاهرة في النصوص، مخزونه الواقعي الرائي ، والبعيد في مضامينه، القريب حتى البكاء في صناعة قساوة الصورة الشعريّة.

كابوسيّة الصورة.

الصورة هي رمز الحاضر الغائب، هي الشاهد الجامد على الذكريات الماضية، تتواتر مفردة الصورة  مع اختلاف سياقها داخل نصوص الديوان بشكل ملحوظ: )أخرجت صورتك / عندما هجم الناس على بيتي مطالبين بمعجزة، الشهداء نزلوا من الصور، يعود إلى صورته المعلقة،

*قاسم سعودي،  »مثل قارب مقلوب في الصحراء« الصادر عن دار الكتب العربية في طبعته الأولى 2017

تبكي العائلة في الصور، أدخل إلى صورتها بثيابي العسكرية، سوى شاب صغير يحمل على ظهره عشر صور، …(، يبتدع الشاعر القصيدة من لاوعيه، لذا فليس من السهل تفكيك دلالتها، فهو يكثّف الدلالة بمعطى الخيال والمفارقة والبلاغة المبالغة،  وهناك حالات انزياح وتناص، كما  في قصيدة  »سبع حجارات« يقول:  »كل عام أبي يدور حول منزلنا سبعة أشواط/ ويرمي على صورة الرئيس المعلقة…/ سبع حجارات…«ثم يقول :  »أمي كانت تضحك وهي تقص شعر أبي…وكنا نضح../ لذلك كانوا يدفعون بنا سريع الى الحروب« هي قيَم تنسحب على جميع أمور حياتنا، يتماهى الشاعر معها، راصدًا أبعادها التي لا تعني الحجر بما هو عليه من مادة أو البيت بما هو عليه من مكان، والشيطان الذي قد يتخذ من الظلم على أشكاله صورة له، ويكون رجمه نوع من التكفير عن الخطايا وإتمام الفروض.

وأيضًا، يقول في مقطع من قصيدة في الغرفة الصغيرة:  »مثل جندي لا يمتلك ثمن العودة إلى البيت/ فيدفع الله له أجرة الطريق« تتقاطع مع آية 19 من سورة الحديد :  »والشُّهداء عند ربّهم لهُم  أجرهُم..«.

في قصيدة  »في غرفة الضيوف« قد تجد نفسك في نص يتحدث عن تفاصيل يوم الأب، الخروج كل صباح للتجوّل في السوق، شرب الشاي والتبغ..التوقّف قرب نصب الحرية، وفي الليل يعود ولكن إلى أين :  »إلى صورته المعلقة في غرفة الضيوف/ فلا قبر لديه/ لقد تركوه هناك وحيدا في نهر جاسم..« تبدأ القصيدة من نهايتها، روح الميت تحلق في الأماكن ومحبيه يتذكرون تفاصيله، وليس هناك قبر له، لقد ضاعت جثته في النهر.. أي قسوة هذه!!

يدخل الشاعر عالم الغرابة والدهشة، يستخدم المصادفة ويلجأ إلى عالم الأشباح في مقطع من قصيدة  »ساق واحدة« يقول  »..كان أخي يمتلك حذاءً ركض به في ثلاث حروب/ فجأة تظهر ساق وحيدة في الغرفة/ أدفعها خارج النص/ ثم اغلق الباب/ وافتح النافذة على بنت الجيران…« تتّسع الصوَر المشهديّة في النص بغرابة ثقيلة، هي لحظة غشيان الذاكرة، على ما يحيله المشهد من رعب وهذيان، تدفعه ليفتح النافذة التي تنفذ به نحو عالم الأنوثة نحو الحب كخلاص.   وفي سياق آخر يبدو أنّ الموت هو الخلاص من كل هذه الذكريات و الجنون الذي يموج ويتحرّك حوله، في قصيدة بعنوان  »المؤذن« يقول:  »لا أعرف لماذا تتحرك صور الموتى في البيت..« إلى أن يقول:   »وأنا أجلس مثل الأحمق  وسط البيت/ منتظرا أن ينادي المؤذن باسمي…«

     يُمعن النبش في المسكوت عنه، يُفكِكُ الصورة /المشهد، ويرسلها للمتلقي، الرسالة غير واضحة في دلالتها التركيبيّة، ولكنها صريحة في قدرتها على إحداث الإنفعال، على إثارة الرعب والتساؤل عن  أبعاد ما يرى، في قصيدة  »أكتب عصفورا وأقصد جثة المنزل« غرابة تامة تسطّر مضمون الأسطر الشعريّة، حتى ترتطم باللافهم، حالة تشظي تجمع بين مدلولات متنافرة في رمزيتها )عصفور، جثة ، منزل، غرفة، دراجة، مسجد، فتاة طويلة، فاكهة، سوق ، وردة( حتى يصل إلى وصف مشهديّة مرعبة في جزئياتها:  »وأنت تقف عاريا/ والحشرات تخرج من جسدك/ لكن رأس يطل من افم يخبرني/ ما رأيك ببعض الشاي الآن…« تداخل بين الحقل الدلالي الأقرب إلى النعومة واللطافة )عصفور، وردة، سوق، فاكهة فتاة، شاي( والحقل الدلالي الأكثر تماثلاً مع العدائيّة والشراسة: )جثة ، تالفة، عري، حشرات، رأس..( يبدو أنّ الشاعر يحاول أن يبدأ برسم معالم الجمال بالانتصار على القبح وعلى الألم،  واقع بلاد ينبئ بالموت، ارادته تحاول الانتصار على وعيه الذي يشده ليواجه عريه في المرآة فيشهد خروج الحشرات منه ورأس يتدلى ليدعوه لشرب الشاي، مهما اجتهد المتلقي لتفسير ما يقرأ هناك غموض هذياني يرتبط بالحالة الشعوريّة التشاؤمية، فالوعي قاهر ومتسلّط واللاوعي يترجم كل هذه المخاوف بالرعب والخوف، ويزاوج بين الجمال والقبح. حتى أنه قد يهدم كل منطق متاح أو مقبول في عالم الشعر، هو يعيش اللحظة الشعريّة ويمنح شعوره للكلمات التي تكتبه ولا يبدو أنه يكتبها فهو ينثرها من دون وزن ولا قافية، ولا حتى موسيقى جامعة تؤالف بين الأجزاء ، وما يربط الجزئيات هو وحدّة الصورة المشهديّة التي يُبدع في بنائها ويغلو في مواقف كثيرة ، حتّى تحسب نفسك تشاهد فيلم رعب، يمعن في إحداث الصدمة المعنوية، كقوله:  »نصف طفل في ثلاجة الموتى/ مع نصف طفل…« تبدو الصور حيّة،كأنها مقتطعة من نشرة الأخبار، وصوت مذيع يردّد بمكر: نعتذر عن نشر الصوّر المؤذية!! ولكنّه لا يقصد اعتذاره بل يقصد إخافتنا تشتيتنا وإثارة حزننا وجنوننا، المشهد هنا  أهوج وشرس.

وكما يحاول السريالي أن يترك بصيص نور وسط زحام الجثث  والكوابيس والحشرات، يجهد الشاعر أن يقول الحب أن يمنح الأمل  »وقبل اللحظة التي تهمسين فيها أحبك/ كانت تطوقنا المدرعات كل ليلة…فقط لأنك ضرخت أيضًا أحبك«.

ورأسي ينزف  الشهداء..

 شهادة لا ترتبط بالمثاليات وقيَم البطولة والفداء، هي ليست شهادة يذهب اليها المرء ليعود عريس الحريّة ويُزف بالورد والرياحين إلى موته المُشتهى!! وهو يُضحّي بحياته عن وعي وإدراك وإيمان،  من أجل حياة أفضل لوطنه وأهله، هنا هي شهادة تختارهم ولا يختارونها، تصطادهم عشوائيّا، وتدفعهم اليها دفعًا، تأخذ الأم والأب والأخ والطفل والشاب والعجوز، هي شهادة تسخر عن حرقة من الطقوس، هي سخرية مُرّة من حالة الحِداد  »حدّاد المدينة« يقول:  »أذكر جيدا حدّاد المدينة/ كانوا يطلبون منه أن يصنع بابا كبيرا حتى لا تدخل منه الحرب«، ولكن يضيف  »لكن ما نفع ذلك الحرب تنزل من الأعلى/ الأحزمة الناسفة سيارات الاسعاف، القبور، بيانات الانتصار….«  وفي صوت أم مفجوعة يصرخ:  »أي حمل ثقيل هذا يا الله/ أن نعطي الحليب/ ولا نأخذ سوى الشهداء.«!!

 » رأيتُ شهيدًا عاد إلى البيت/ قال:/ لقد كذبوا علينا كثيرًا/ لقد كذبوا…« تقوده هذه التخيُّلات إلى العميق المؤذي والموجع في الذات، يتساءل في نهاية قصيدة  » كلمة شهيد«:  »أين هو الآن؟؟« ويقفل نصّه لا ليُغلقه بل ليخنقه:  »فكروا جيّدا بحياة رجل يعيش داخل قبر.« سخرية قاهرة من كل الأيدولوجيات العقيمة التي تُمجّد الموت وتجرّ الرجال إليه حتى يفيض العالم بالجُثث من أجل مصالح الساسة، وليس إصلاح البلاد، يموت الضحايا من الفقراء والوطنيين الذي يدفعون أرواحهم ثمنا.

وهو المتعب من إنسانيته يقول:  »..لقد تعبت كثيرا من هذه المهمة/ كيف لي أن أكون بشريّا طوال الوقت؟« في هذا العالم القاسي الذي يصر على محو إنسانيّة الإنسان ، وعلى الالتذاذ بموته التنازلي.

يترجم  وجعه في قصيدة  »يبدو أن آدم كان يبحث عنك طوال الوقت« ووفي المقطع المرقّم ب 26:  »وقت ينطق أحدهم اسم شهيد/ أحاول أن لا أسقط مجددا في الشارع/..حتى يقول لا أستطيع النوم/ ولا قول صباح الخير/ ولا الضحك من كل قلبي/ لكنني أضحك الآن ولا أعرف لماذا؟« يظهر جليًّا تأثير رمزيّة الكلمة  »شهيد« في حياة الشاعر، شأنه ككل من عايش الحروب والصراعات وشاهد الموت بأم عينه، ورأى الشهداء يساقون الى حتفهم ويختصرون في طقوس تنتهي بعد مدة من موتهم.

هي كتابة تطهيريّة، تسعى إلى الخلاص والتطهّر من المرئيات الفاجعة، يؤدّي فيها النظر كحاسة دورًا بارزًا، العين ترى والروح تلهج بأوجاعها ومخاوفها، هناك تأثيث للفزع ، مشهديات مرعبة تتلاحق وتُلاحق الشاعر في ديوانه ، مرويات شعريّة تتكرر فيها سيّر الأشخاص والموضوعات ) أب، أم، طفل، الشهيد، الذات الراوية..الحرب، القبر، الصورة…(، حضور قويّ وطاغيّ لمعجم الموت، الحرب وعلاماتها، الطفولة المسروقة، وحاجة للتحرُّر من الألم تتخذ من الحب قاربًا للنجاة، ولكن القارب مقلوب في واقع مُجدب، سيطر الإيهام على العبارات وأظهرت حالة التفكّك في السياق التركيبي للجمل رؤيا مشوّشة غير مُتصالحة مع العالم، امتعاض من الحرب، رصد من خلالها الشاعر بؤس الحال وتمثّل صرخة الفرد الضجر من عبثيّة الحرب والموت المجانيّ الذي لا يحسب حسابًا لأحد.

العدد 87 – تشرين الثاني 2018