قرارات

قرارات…

سهير آل ابراهيم

مع بداية عام جديد، يتخذ بعض الناس، و ربما الكثير منهم، قرارات تتعلق بتغيير أمور مختلفة في حياتهم املا منهم بجعلها أفضل؛ و خير مثال على ذلك تصاعد اهتمام البعض في زيادة لياقتهم البدنية، و السعي للحصول على وزن مثالي. نتيجة لذلك يزداد الإقبال على صالات الرياضة و مراكز الحمية و أنظمة التغذية الصحية. هنالك من يفكر بتغيير وظيفته، أو تعلم هواية جديدة، و ربما حتى تغيير السكن أو الهجرة إلى بلد جديد. تلك الثانية من الزمن التي تمثل عتبة العبور من عام راحل إلى آخر جديد قادم، تمثل بالنسبة إلى بعض الأشخاص نقطة تحول في حياتهم، و قد تنطفيء جذوة ذلك الحماس و الرغبة في التغيير مع مرور الأيام، فتعود الحياة إلى ما كانت عليه سابقاً.

معظم التغييرات التي سمعت عنها من الأشخاص المحيطين بي، سواء في مجال العمل أو الحياة الخاصة، هي تغييرات تتعلق بالمظهر الخارجي أو بالجانب المهني، أو غيرها من التغييرات المادية، و لكن يا ترى ما نسبة الأشخاص الذين يتخذون قرارات تهدف إلى تحسين و ربما تغيير ما هو أبعد من ذلك؟ ما نسبة الذين يُشخصون ما قد يكون سلبيا في سلوكهم مثلا، فيعملون على تعديله أو تغييره و جعله أكثر إيجابية؟ ما عدد الأفراد الذين يراجعون أنفسهم و صفاتهم الشخصية بصدق، فيحددون مثالبها و يعملون على تصحيحها؟ اعتقد ان قرارات من هذا النوع هي الأكبر، و قد تكون الأصعب، و لكن لنتائجها، و بلا شك، تأثير على حياة الفرد نفسه و على المحيطين به كذلك. اذا كنّا نستطيع السيطرة على اجسادنا، إلى حد ما، فهل نمتلك نفس المقدرة في السيطرة على عقولنا و ما يدور بداخلها من أفكار و عواطف، و التي غالبا ما تشكل القاعدة و الأساس لردود افعالنا حيال مختلف الأمور؟

يشرح البروفيسور الإنكليزي ستيف بيترس، المختص في مجال الطب النفسي، الكيفية التي يعمل بها العقل البشري، في كتاب شيق عنوانه )The Chimp Paradox( أي مفارقة الشمبانزي. يفترض بيترس ان العقل البشري يتألف من ثلاثة اجزاء، و هذه بالتأكيد فرضية الهدف منها تسهيل إيصال الفكرة للقارىء العادي، لان العقل البشري، و كما يؤكد البروفيسور، اعقد من ذلك بكثير.

أعطى بيترس اسماءً تصف تلك الاجزاء الثلاثة؛ أولها الجزء المسؤول عن التفكير المنطقي و وضع الأمور في نصابها الصحيح، و قد أطلق على ذلك الجزء اسم الانسان. الجزء الثاني هو العاطفة، و التي يشبهها بيترس بالشمبانزي؛ ذلك الحيوان المندفع الأهوج و الذي يصاب بالذعر بسهولة. اما الجزء الثالث فقد اسماه )الكمبيوتر(، و هو الجزء الذي يعمل وفقا لما خُزن به من أفكار و سلوكيات، و التي عادة ما تحدد ردود افعالنا حيال المواقف المختلفة.

يقول بيترس عندما يحتاج الانسان إلى اتخاذ قرار ما، يدور في رأسه صراع بينه و بين الشمبانزي؛ أو كما يقال صراع بين العقل و العاطفة. و لأجل ان يصبح الانسان كما يود ان يكون، فعليه ان يفهم مشاعره و أفكاره و ان يديرها بالشكل الصحيح.

تولد العاطفة مع الانسان، و هي ضرورية للحفاظ على البقاء، فلها قوة تعادل خمسة أضعاف قوة جزء العقل المسؤول عن التفكير و المنطق. يصف بيترس العاطفة على انها ماكنة تفكير تعمل بشكل مستقل عن التفكير العقلاني و المنطقي. كلاهما يفسران تجاربنا الحياتية بطريقة خاصة، و على الأغلب تكون لأحدهما الغلبة على الاخر.

العاطفة ليست سيئة أو جيدة، و لكنها مجرد شمبانزي، فهو حيوان قد يسليك و قد يؤذيك، و في الحالتين هو لا يدرك أو لا يقصد ذلك، لانه ببساطة مجرد شمبانزي.

يوجه بيترس كلامه للقارىء قائلا انك لست مسؤولا عن طبيعة الشمبانزي الذي في عقلك، و لكنك بالتأكيد مسؤول عن ادارته و ترويضه. نستطيع ببساطة ان ندرك متى يتغلب الشمبانزي علينا، و ذلك عندما تنتابنا أفكار و هواجس غير مرغوبة، و عندما يصعب علينا ان نحقق ما نصبو اليه و نعيش كما نود و نرغب، عندما نتصرف باندفاع و نقوم بعمل نندم عليه لاحقا، و كذلك عندما نؤجل و نؤخر ما يجب علينا القيام به و لا ننجح في تحقيق قراراتنا التي نريد تنفيذها و تحقيقها.

الأمثلة على ذلك كثيرة جدا؛ طالب يدرس لامتحان يجري في اليوم التالي، و في المساء و عندما يكون لا يزال لديه الكثير للمذاكرة، يتذكر ان التلفزيون سوف يبدأ بعد دقائق ببث برنامجه المفضل. هنا يبدأ الشمبانزي بدفعه للتوقف عن الدراسة و أخذ قسط من الراحة و الاستمتاع بمشاهدة البرنامج، بينما التفكير المنطقي يدفعه للاستمرار بدراسته، و مشاهدة ذلك البرنامج فيما بعد، اذ تتوفر الان الوسائل الكثيرة لذلك! فإذا ترك الطالب دراسته لأجل مشاهدة البرنامج نعلم حينها ان الغلبة كانت للشمبانزي.

ترويض الشمبانزي لا يعني التعامل معه بالقهر و القسوة، معنى ذلك ان محاولة اسكات العاطفة ليست هي الطريقة المثلى لجعل المنطق سيد الموقف، و إنما نحتاج إلى التفكير بما نشعر به و فهمه. غالبا ما تكون ردود افعالنا لمختلف المواقف مبنية على أفكار و معتقدات مخزونة لدينا مسبقا، بعضها منذ الطفولة، و هذه قد لا تكون صحيحة أو مناسبة لمن لم يعد طفلاً. لنأخذ مثلا شخصا يخشى الذهاب إلى طبيب الأسنان، التفكير العاطفي يدفعه لتأمل شدة الالم الذي قد يتعرض له اثناء المعالجة، خصوصا اذا كان قد مر بتجربة مؤلمة عند طبيب الأسنان اثناء الطفولة. تفكيره ذلك يزيد من خوفه و امتناعه عن الذهاب للطبيب. و لكنه لو فكر ان ذلك الالم، ان وجد، لن يدوم الا لبرهة قصيرة تجنبه معاناة آلام الأسنان و التي قد تزداد سوءاً كلما تأخر العلاج، فان ذلك سيخفف كثيرا من مخاوفه.

يقول بيترس اننا نستطيع ان نغير المعتقدات التي تمت برمجتها في اذهاننا، خصوصا تلك التي تعتبر غير واقعية و قاطعة. اذا كان احدنا يعتقد ان الآخرين )يجب( ان يتعاملوا بلطف، فانه سوف يغضب ان لم يتحقق ذلك. لكن ان كانت توقعاته اقل من ذلك أو اكثر واقعية، فانه لن يغضب ان لم يشكره احدهم على فعل ما، لعلمه ان الآخرين ليسوا جميعا على نفس القدر من اللطف و حسن السلوك. استبدال كلمة )يجب( بكلمة )ربما( يساعد كثيرا في ترويض الشمبانزي.

يقال ان الشخص الذي يستطيع المحافظة على هدوء أعصابه، عندما يمر بموقف يدفعه للغضب، لن يكون لديه الكثير مما يندم عليه. و كذلك الحال مع من يستطيع التحكم بانفعالاته العاطفية و ادارتها بشكل صحيح لن يكون لديه الكثير من الندم على قرارات لم يتمكن من تحقيقها..

أرجو ان يكون عامكم الجديد هذا حافلاً بالانجازات و تحقيق ما تودونه من قرارات… كل عام و أنتم بخير.