قصة  298 راكب في ذمة شركة الطيران الماليزية 

ماريان فان فلزين تروي حكايات المسافرين لقضاء العطلة … الضائعة! 

  ثمة فريق من البشر يتجنب  السفر الجوّي. بعضهم يلجأ الى مراكب البحر وآخر  الى آليات البرّ،   كالقطارات والباصات — او السيارات إن لم تكن رحلتهم  معقدة. مع ذلك تبقى الطائرة رأس الحربة نسبة الى المرتبطين بالوظائف والمهمات على انواعها، إضافة الى المتشوقين لبلدانهم واهلهم ووسائد  مناماتهم.  باختصار:   اصبحت الطائرة رسولة العائدين والمغادرين ولم يعد في الإمكان التخلي عن خدماتها  السريعة، ناهيك باستمرار تطوير أدائها وتحصين هياكلها. وفي الواقع المكشوف: لقد بات لكل دولة اسطولها الجوي إضافة الى شركات مستقلة  تجهد للبقاء في “المعمعة” ولا تنكفىء عن تقديم خدمات إضافية ورحلات مبتكرة خصوصاً خلال العطل وفي مواسم الأعياد.

لهذا  كله نلحظ نوعاً من الحذر في تغطية حوادث الطائرات.  فبعد تحطم طائرة مليئة بالركاب  لا بد من تعويضات باهظة تتناول كل راكب على حدة، مما يتطلب  عمليات استقصاء بالغة الدقة قد تستغرق سنوات خصوصاً لو تدخل القضاء  وادركت الدعاوى عقبات عويصة. من  هنا قاربت الصحافية الناشطة ماريان فان فلزين حادث اسقاط MH17   الماليزية المتوجهة  من امستردام الى كوالا لومبور سنة 2014.   سقطت تلك الطائرة فوق الاراضي الأوكرانية وقتل كل ركابها بمن فيهم فريق العمل والخدمات. يومها نقل الإعلام العالمي أمرين : اصابة الطائرة بصاروخ ارض- جو وسيطرة القوات الأوكرانية الموالية لروسيا على موقع تحطمها  وتطويقهم   خمسين متراً  مربعاً منعاً لأي تدخل خارجي، وقد بقيت القوى المسلحة  على الأرض   الى ان تشكل فريق اختصاصي للإستطلاع وتدوين مقاربة مهنية صالحة  للبحث والمثول امام القضاء اذا لزم الأمر.

الا ان ماريان بدأت تدخل الى المأساة من باب  الواقعية العارية. رأت ان 298 مسافراً على متن تلك الطائرة يشكلون عدداً يتطلب عشرة  محققين  على الأقل ، وقد يستحيل الإكتفاء بهم لو ارادت الغوص الى عمق حياة  وأبعاد احلام  وأهمية مشاريع اولئك الذين ماتوا قبل ان تتحقق آمالهم في رحلة السابع عشر من تموز سنة  2014  … حاصله ان الإكتفاء بما قلً ودلَ   لم يكن وارداً في مخيلة ماريان حتى اوصلتها التجارب الى جدار مسدود، فأخذت لائحة المسافرين المفقودين  وقررت اختيار اليافعين والأقارب والمتأهلين منذ فترة وجيزة  للبحث عمّن يعرفهم ويستطيع  نقل صورتهم وسيرتهم اليها ، وإذا بالأكثرية، خصوصاً صغار السن  وغالبيتهم اصدقاء ورفاق درب وجيران ، كانوا في مسارالعودة  الى بيوتهم وحاراتهم حيث ترعرعوا وعرفوا حرية العيش،  الى حدّ تجاهلهم واقع الحرب الدائرة تحتهم وهم يعبرون الحدود المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا.

 لعل ما زاد في الطين بلة أن الكابتن “شو”   مال نحو  زيادة مسافة التحليق   لعل رحلته تنأى قدر الإمكان عن زحمة أجنحة   لمئة وخمسين  طائرة شغلت   الفضاء   الممتد من الغرب الأوروبي الى الشرق الآسيوي. في الوقت عينه بدأ طاقم الطائرة توزيع وجبة الغداء بينما ركّز “شو” على اختراق المجال الأوكراني نحو مضيق البنغال وتايلاند تمهيداً لبلوغ كوالا لومبور في اقرب وقت. بدت الأراضي تحت الطائرة خالية من كل شيء، والسماء عميقة الزرقة، والهدوء نذيراً اكثر من كونه تحذيراً . إذذاك لمح شو  نقطة  طفيفة على الشاشة لكنها في  مكان   يشير الى اقتراب بطيء للتغير المناخي بل لعله تغير مفاجىء قد يؤدي الى حتمية التواصل مع المركز القيادي الذي حدد مؤخراً مسافات الإرتفاع والهبوط في تلك المرحلة ، لكن، وقبل ان يباشر شو   طلبه بالإرتفاع الى 350 قدما ً دخلت الرحلة السينغافورية الى الإرتفاع المقصود وأبلغ قبطانها مركز المراقبة  بأنه ارتفع الى  نقطة غير معرضة للخطر ولا داعي للتوتر.

هنا تجدر الإشارة الى ان الطائرات العابرة هذا الممر بالذات تلقت  تنبيهات محددة نسبة الى الإرتفاع  والهبوط من شأنها الثبات في مدار محايد نسبة الى عشوائية التبادل الناري بين الأوكرانيين والروس، مما اصاب شو بتحذير مفاجىء لم يكن يتوقعه، فلم يعد امامه سوى الهبوط الى 26 قدماً بحسب التوجيهات المفروضة على كل العابرين من الغرب الى الشرق.

عند هذه النقطة توقف تسجيل التواصل بين MH17     ومركز متابعة مسارها مما يستدعي الكثير من التساؤلات: هل تجاوز هبوط الطائرة أبعد من المسافة المحددة وصادف ان تلقت طلقة أرض — جو فبعثرتها على اتساع خمسين متر مربع؟ هل احتوى خزان الطائرة قنبلة انفجرت عند ازدياد الضغط الجوي بفعل الهبوط الفجائي؟ هل كان بين الركاب ارهابي انتحاري اودى بحياته وحياة 297 مسافر؟ ام ان الطائرة دخلت في اتون معركة من دون ارادتها واصيبت بطلقة طائشة؟  بالطبع تلك الأسئلة لا تقلل من هول الفاجعة خصوصاً ان الطائرة سقطت في قرية هرابوف التي يبلغ عدد سكانها 740 نسمة معظمهم صغار السن  تحتويهم المدرسة الوحيدة من الصباح الباكر حتى غياب الشمس ، ويبلغ عدد الناطقين باللغة الأوكرانية ثلثي  سكانها، الا ان الخروج من المدرسة لم يكن اليوم مشابهاً لما سبقه، فعوض الهرع نحو اللهو او معاونة  آباء الاسرة وامهاتها في الحقول، سمع الصغار دعوات عالية الى  دخول بيوتهم باسرع ما يمكن والإختباء هناك حتى اشعار آخر،  وذلك في الواقع ما فعلوه .  ما هي سوى دقائق حتى ظهرت في الأفق غيمة قاتمة  سرعان ما ارتفعت أعلى فأعلى الى ان تبيّن انها الـ MH17  تحترق.

   تلك االليلة اقتنع معظم سكان هاربوف بوصول الحرب الى ديارهم. لم يتمكنوا من النوم ولم يتأكدوا  من مصير الـطائرة ولا من مصادر النيران التي لم تعرف الهدوء حتى شروق الشمس. حتئذ كانوا يعتقدون  أن قريتهم الصغيرة ستبقى خارج المعارك، فالإنفصاليون الأوكران باتوا يحكمون المنطقة المجاورة برمتها، ومعظم سكان هاربوف من الأوكران.

الذين خرجوا من مخابئهم اشتمّوا رائحة الحريق ولاحظوا سيطرة السكون على قريتهم والأراضي المجاورة لها، حتى الطيور والعصافير توقفت عن  التغريد. وفي وطأة ذلك السكون تذكر بعضهم اختفاء طائرة    ماليزية اخرى منذ اربعة اشهر رقم رحلتها    370 MH   وما زالت الأساطير تحاك حول مصيرها لكن من دون اثر لوجودها على ارض الواقع.