نظرة أنطولوجية على الفلاكة والمفلوكين

د. حسين رشيد الطائي

المفلوك هو غير المحظوظ المهمل من الناس بسبب فقره وإملاقه، وربما كانت هذه اللفظة مأخوذة من الفلك الذي هو جسم محيط بالعالم، فكأنما الفلك يعارض غير المحظوظ في مراده؛ على استناد ان السعود والنحوس مرتبطة بأفلاك السماء كما يعتقد البعض. ورغم أن هذه اللفظة غير عربية، إلا ان صاحب كتاب (الفلاكة والمفلوكون) جوّز أن يكون جمعها جمع مذكر سالم (مفلوكون) و(مفلوكين) في بحث عقده بمقدمة كتابه وخلص في الأخير الى ذلك. علما أن القاعدة تذهب إلى ان تكون جمع تكسير (مفاليك).

ولكون الفلاكة غطاء وسترا على المحاسن تجد الشهرة والصيت والسمعة تقع في غير موقعها غالبا؛ فربّ شخص مشهور بالعلم أو بالصلاح وليس هناك من ذلك شيء، وربّ شخص قعدت عنه الشهرة وهو أحقّ بها.

والشهرة إنما تقع في غير موقعها من جهة ما يطرق الأخبار من التزلّف والثناء الكاذب أو ما يطرق الأحوال من الخفاء وعدم تطبيقها على الواقع لخفائها بالتلبيس والتصنّع فتنتشرعلى خلاف ما هي عليه.

لذلك فالفلاكة مهما استولت على عالم أو فاضل أو نبيه لزمه بسببها آلام نفسية. لذلك يكون المفلوك متحملا لمشاق كبيرة خوفا من العتب والتوبيخ والملامة والتقريع.

ومن بديه القول ان الفلاكة والإهمال ألصق بأهل العلم وألزم لهم من غيرهم لوقوعهم في الفاقة والإملاق بسبب أنفهم واستنكافهم عن ممارسة مهن أخرى مربحة كالتجارة والزراعة والصنائع. لذلك يستلزم أن تكون العلوم والكمالات صنعة من الصنائع وحرفة من الحرف حتى لا تجعل أصحابها فقراء مملقين. لكننا وصلنا لحال تباع فيه المناصب والوظائف بل وحتى الدرجات العلمية وسائر منازل الحياة. وهذا كله يخلق مفلوكين من أفضل وأكمل العلماء والأدباء والشعراء وكذا في سائر العلوم؛ فلا عجب إذا سمعنا بمفلوك من العلماء الأكابر ينام في الطرقات ويتصدّق عليه الناس ورغم ذلك كله لا يعرفون قدره ولا منزلته.

وقد أتحفتنا كتب التاريخ بقصص لكثير من المفلوكين من العلماء والأدباء والشعراء والمشهورين منهم القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي الذي عاش ببغداد وكان لسان أصحاب (القياس)، فلما ضربه الإملاق والفقر خلع أهلها وودع ماءها وظلالها وكان يقول (لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية). وفي ذلك يقول:

سـلام عـلى بـغـداد فـي كـل موطنٍ

وحــقّ لهــا مــنــي سـلامٌ مـضـاعـف

فوالله ما فارقتها عن قلىً لها

وإنـي بـشـطـّي جـانـبـيـهـا لعـارف

ولكــنــهــا ضـاقـت عـليّ بـأسـرهـا

ولم تـكـن الأرزاق فـيـهـا تـساعف

وكــانــت كــخــلٍ كــنــت أهـوى دنـوّه

وأخــلاقــه تــنــأى بــه وتــخــالف

ثم توجّه الى مصر فحمل لواءها وملأ أرضها وسماءها وتناهت اليه الغرائب وانثالت عليه الرغائب فمات في أول ما وصلها من أكلة اشتهاها، فزعموا أنه قال وهو يتقلّب ونفسه تصّعّد (لا اله إلا الله لما عشنا متنا).

وروي أيضا أن الترمذي العالم المعروف الذي لم يكن للشافعية في وقته أرأس منه ولا أورع كان من المفلوكين وقد اشتهر بالتقلل من الدنيا؛ أخبر انه تقوّت في سبعة عشر يوما بخمس حبات وثلاث حبات فقيل له كيف عملت ذلك، قال لم يكن عندي غيرها فاشتريت بها لفتا فكنت آكل منه كل يوم واحدة.

ومهما يكن من أمر، فان الفلاكة في حقيقتها تجسد معنى عميقا من معاني الإنطولوجيا، فالعلماء والأدباء والمبدعون بما يحملون من معاني سامية جسدوها في حياتهم المادية فانعكست عليهم، فأصبحوا مغايرين لواقعهم مختلفين عنه لا لسبب مادي، بل بسبب نظرتهم الروحية الانطولوجية التي هي نفحة من نفحات الإبداع. لم لا وأن لكل شيء في عالمنا طبيعتين مادية ومعنوية روحية. وفي النتيجة أصبح لدينا مفهومان في الحياة الواقعية.

ومن أشهر ما نقل عن المفلوكين في هذا المقام يحيى بن علي أبو زكريا الخطيب التبريزي الشيباني إمام اللغة والنحو، تخرّج على يديه خلق كثير. شرح (الحماسة) و(المتنبي) و(المعلقات)، وقد حصلت له نسخة من (التهذيب في اللغة) للأزهري في عدّة مجلدات لطاف فأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن عالم باللغة فدّل على أبي العلاء المعرّي فجعل الكتاب في مخلاة (كيس يعلَّق على رقبة الدَّابّة يُوضع فيه عَلَفُها) وحملها على كتفه من تبريز الى المعرّة ولم يكن له ما يستأجر بها مركوبا فنفذ العرق من ظهره إليها فأثّر فيها البلل وهي ببعض الوقوف ببغداد وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب.

وكذلك كان الأبيوري الشاعر الفصيح المعروف كما ينقل عنه الخطيب البغدادي؛ الذي قال عنه انه مكث سنتين لا يقدر على شراء جبّة يلبسها في الشتاء وكان يقول لأصحابه (بي علة تمنعني من لبس المحشو).

والفلاكة كموضوع من موضوعات الحياة إنما هي ثورة حقيقية على الواقع الذي اتسم بالظلم والفقر والفاقة، إضافة الى الحظ السيئ. وهي بالضبط تصوّر حقيقة الصراع القائم ما بين المادة والمعنى؛ الأمر الذي يوضح شدة التضاد ما بين الواقعية والمثالية. وإعلان انتصار الأولى على الثانية.

يجب علينا أن نعترف بأن مجتمعنا مادي، تعزب عنه المثاليات وتبقى فيه المبادئ كلمات لا يمكن تطبيقها. فلا عجب إن رأينا من يهتم بالمعنى والمثال أن ينزوي عن المجتمع ويعتزله؛ وهو ما يعبر عنه بـ(الحظ السيئ). بل يمكن أن نقول ان المجتمع الذي يحمل صفة الأفراد هو الذي انزوى عنه بما أنه مادي واقعي وليس مثاليا.

ومما نقل في باب المفلوكين وحيد دهره وفريد عصره العالم اللغوي الكبير  الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام النحو وواضع علم العروض أستاذ سيبويه وغيره، كان متقللا عن الدنيا صبورا على العيش الخشن الضيّق. وكان يقول (لا يجاوز همّي ما وراء بابي). كان له عطاء على سلمان بن حبيب بن المهلّب أبي صفرة الأزدي وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليل جوابه:

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ

وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً

يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ

وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَةً

مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالي

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ

وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ

فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤّالِ

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ

وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم

كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالي

كُلُّ اِمرِىءِ بِسَبيلِ المَوتِ مُرتَهِنٌ

فَاِعمَل لِنَفسِكَ إِنّي شاغِلٌ بالي

فقطع سليمان عطاءه فأنشد بيتين في ذلك فأعاده عليه.

يقول تلميذه النضر بن شميل: اقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال.

ومن أعجب المفلوكين العالم النحوي أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني البصري إمام عصره في النحو والأدب وكان في غاية الورع.  روى المبرّد العالم المعروف أن بعض أهل الذمّة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه، فامتنع أبو عثمان من ذلك. فقال له المبرّد: أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة ضائقتك، فقال إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله، ولست أرى أن أمكّن ذميّا منها غيرة على الله تعالى.

وفي الحقيقة إننا لو قرأنا مقدمة ابن خلدون لوجدناها زاخرة بمفاهيم الظلم والحرمان والفاقة التي كان المجتمع يئن منها في ذلك الحين. والمفلوكون في حقيقتهم إنما يثورون على تهميشهم عن طريق توجيه التهم الى المجتمع وإلقاء اللوم عليه.

ورغم أن هذه الحالة غير محبذة في الواقع وتثير الشفقة والأسف على أصحابها، إلّا ان القصص المنقولة عنهم يمكن أن تعدّ من المنوعات الأدبية اللطيفة، التي تشتمل إضافة الى القصة، على العبرة والوعظ وأن لا غنى عنها.

ومن القصص اللطيفة المنقولة في هذا الباب قصة العالم المعروف الفارابي محمد أبو نصر بن محمد، كان إماماً فاضلاً وفيلسوفاً كاملا برع في الفلسفة وأتقنها وأظهر محاسنها وتفنن في فن الموسيقى واخترع فيه ما لم يسبق إليه. شرح كتب الأوائل. وكان في أول الأمر قاضياً ببلاده (فاراب) فأودع عنده رجل من التجار جملة من كتب ارسطاطاليس فنظر فيها فصادفت منه قبولا فترك القضاء وتجرد وسافر إلى بغداد وأقام بها وقرأ بها المنطق على يوحنا بن حبلان، كما قرأ النحو على أبي بكر بن السراج ثم سافر إلى مصر ثم رجع إلى دمشق وأقام بها إلى أن مات. قال عنه الآمدي انه كان مقتنعاً باليسير من الرزق، وكان في أول أمره يعمل ببستان بدمشق وهو في مثل هذه الحالة ملازم للاشتغال ليله ونهاره، وكان في أكثر لياليه يستضيء على المطالعة بقنديل الحارس، ولم يزل كذلك حتى ظهر فضله وكثر تلامذته واجتمع به الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله الثعلبي فأكرمه وأوسع عليه، فلم يقبل منه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يصرفها في الضروري من عيشه. وقد ورد أنه قال في شعر له:

بزجاجتين قطعت عمري  وعليهما عولت أمري

فزجاجة ملئت بحبر       وزجاجة ملئت بخمر

فبذي أدوّن حكمتي   وبذي أزيل هموم صدري

ولا ننسى النواوي يحيى بن شرف بن مري؛ فمع أنه كان لا يأكل إلا أكلة بعد العشاء الأخير ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء المبرّد ولا يأكل من فاكهة دمشق، معللا ذلك بأن الأوقاف والأملاك للمحاجير فيها كثيرة، والتصرف لهم، ولا يجوز إلا على وجه الغبطة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء للمماليك، وكان لا يدخل الحمام ولم يتزوج ولم يشرب الفقاع، ومأكله كعك يابس وتين حوران يأتيه به أبوه، وملبسه الثياب المرقعة وقد توفي سنة 676هـ.

أما الشاعر مروان بن أبي حفصة فكان يمدح الخلفاء والبرامكة ومعن بن زائدة، وكان يحصل له من الأموال شيء كثير جدا، وكان مع ذلك من أبخل الناس لا يكاد يأكل من اللحم من بخله ولا يشعل في بيته سراجا ولا يلبس من الثياب إلا الكرابيس والفرو الغليظ. خرج يوما إلى الخليفة المهدي فقالت امرأة من أهله: أن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا. فقال: إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم، فأعطاه ستين ألف درهم فأعطاها أربعة دوانق.

ولم تكن الفلاكة حكرا على القدماء، فقد كان للمتأخرين نصيب منها. ومن أندر ما نقل في صالونات الأدب حديثا قصص للشاعر المفلوك عبد الحميد الديب المولود عام 1889م الذي كان يلقب بالشاعر الصعلوك. وكان مشهورا بسوء الحظ والنحس. إلا ان من أغرب القصص المنقولة عنه أنه ذهب لمقهى وطالبه صاحبه بثمن الطعام والمشروبات لكنه لم يكن يمتلك المال فطرده، ثم وجده شاعر كبير واستضافه في منزله فأقرضه (شلن) فذهب لنفس المقهى في اليوم التالي ودفع المال بعدما حصل على ما يريد من مشروبات أخرى فتفاجأ بأن الشلن مزوّر، ما حدا بصاحب المقهى أن انهال عليه.

ومن المهم جدا أن نذكر في هذا الباب شيخ الصعاليك الشاعر العراقي الشريد عبد الأمير الحصيري الذي عرف بافتراشه الطرقات وبملابسه الرثة البالية، والذي تميز بشعره البليغ وصوره الرائعة. ولد سنة 1942 وتوفي بأحد فنادق بغداد المتواضعة سنة 1978 بعجز في القلب. ومع أن هناك الكثير من الدراسات والأطروحات التي كتبت عنه في مختلف اللغات إلا انه كان شريدا. أصدر عدة دواوين منها (معلقة بغداد) وفيه مطولة شعرية زادت أبياتها على 281 بيتا منها قوله:

بـَـغـدَادُ قـَـلـبـِي فـِـي يَــدَيـكِ فـَـعـَذبـِي

إنْ شِئْتِ  أو إنْ شِئْتِ شُلَّ العَاطِبُ

إمـَّـا صَـبَـبْـتُ سَـعِـيـرَ عُـتـبي لمْ أكـُنْ

لـِسِـوَى تـَضَـاريـم ِ الفـُؤادِ أعَـاتِـبُ

وَأنـَا ابـنـُكِ المِـغـوَارُ مـَـسْـقـَط دِجـلـَةٍ

ذا القلبُ والسَّعـَفُ الإهَابُ الشَّاحِبُ

بـِالرُّغـم ِ مِـن أنَّ الـغـَريَّ بـِأضـلـُعِـي

لـَـهـَـبٌ وَلـِي حَـتـَّى رُبَـاهُ حَـبَـائِـبُ

ورغم ندرة ولطافة وفكاهة هذه القصص المنقولة في كتب الأدب عن المفلوكين. إلّا ان أصحابها من الفضلاء والعلماء والأدباء الذين عاشوا حياة الضيق والفقر لم يكونوا يستأهلون ما لاقوه مع ما لهم من المقام والرفعة، وأن هذا لعمري من مفارقات الدهر المتقلّب.