لا تسقط الأقنعة إلاّ في عيد البربارة

بروفسور نسيم الخوري

ما أن أطبقت الصفحة 500 منهياً قراءة الكتاب المعنون:  »ترامب بلا قناع، رحلة من الطموح والغرور والمال والنفوذ«، وقلت لمي زوجتي إلى جانبي:  »وأخيراً إنتهيت وأرحتك وأرحت نفسي منه«، حتّى ظهر أمامي خبر صامت في شريط إحدى الفضائيّات اللبنانية معلناً إصابة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزوجته ميلانيا بكوفيد 19. وصرخت عفويّاً :  »يا للمصادفة الرائعة«. ثم راحوا ينقلون عن التويتر الخاص بالرئيس ترامب أنهما هو وزوجته سيباشران الخضوع للحجر الصحي الذي لم يحدّد مدّته وسيتعافيان على الفور، وسيجتازان هذا الأمر معاً. علّقت مي وهي دكتورة في علم النفس العيادي:  »لا تسقط الأقنعة إلاّ في عيد البربارة«.

طبعاً، لا يمكن أن يتمنّى المرء سوى سلامة ترامب وزوجته والبشرية من هذه الجائحة الكارثيّة، لربّما يلتفت الرجل وأمثاله نحو السماء، خصوصاً بعدما كان ترامب يعد العدّة أو يستعدّ لإعلان إختراق أميركي علاجي كبير، ولربّما أيضاً، كان وعده نوعاً من الوعود الإستعراضية التي لطالما اعتادتها عيون العالم مرسومة وموقّعة بالخط العريض التي تخدم ترامب، باعتبار أن استعراضية الكورونا وشفائه السريع، ربّما جاءت على علاقة بالإنتخابات الرئاسيّة المقبلة يوم الثلاثاء في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 أي بعد صدور هذا العدد من مجلّة  »الحصاد« الغرّاء رقم 110 بيومين . سأنتظر لتنصيب الفائز بالإنتخابات الرئاسية حتّى 20 كانون الثاني/يناير 2020 فهناك حاجة لمقال ثانٍ حول ترامب.

جاء هذا الكتاب الضخم بعنوان: Trump Revealed: An American Journey of Ambition الذي أصدرته  »الواشنطن بوست« مختصراً لآلاف الصفحات والوثائق والأبحاث والمعلومات الهائلة المكدّسة على موقع إلكتروني خاص بالموضوع إذ أوكلت إلى 30 مراسل صحفي و3 محررين تحرّوا على حياة ترامب الخاصة والشخصيّة طيلة 3 أشهر، وأجروا معه 30 مقابلة نشروا منها 30 مقالة ليحرّره  Michael Kranish و Marc Fisher ويصدر بالإنكليزية في الـ 2016. ترجم الكتاب إلى معظم اللغات العالميّة وفيها إلى اللغة العربيّة إذ ترجمته إبتسام بن خضراء وصدر عن دار الساقي لصاحبها الصديق العزيز رياض نجيب الريّس رحمه الله وقد خطفته الكورونا بعدما جمعتنا مجلّة  »المستقبل« في باريس في ال 1975 ثمّ في بيروت الغارقة إلى ما بعد بعد الكورونا بكثير.

ومع أنّ هذا الكتاب قد حقّق جذباً ورواجاً لافتاً للقرّاء، فقد أهملته كليّاً وقد أهدتني إيّاه أندريه أبو رزق قريبةً لي لا تطيقه ولم أستسغ الهديّة. لن أدرج الأسباب لضيق المجال، إلاّ أن الصورة المسبقة السيّئة التي كانت تسبقه ماثلة بل مغروزة في ذهني حول السياسة الأميركية تجاه العرب والعالم بشكلٍ عام ومواقف المرشّح والرئيس ترامب وتصريحاته الغريبة العجيبة وتناوله بل هجومه القبيح والبذيء على أهل الصحافة وعلى المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم ودعوته إلى بناء جدارٍ بين بلاده والمكسيك وفتونه بالصفقات العالمية والفنادق والأبراج والكازينوهات وملكات الجمال وعارضات الأزياء وناطحات السحاب وشركات الطيران وتسويق صورته تلك في الكتب والأفلام والمجموعات الرياضية ومجموعات المصارعة…الخ، كلّ هذا البعض من الصفات، جعلتني أهمل قراءته، وأحكم على مضمونه سلفاً، أوّلاً لأن أطروحات الدكتوراه لطلابي التي كانت جاهزة للمناقشة كانت تتقدّم على معرفة من سيكون الرئيس الأميركي المقبل في البيت الأبيض هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب.

لماذا عدت إلى الكتاب والتهمته بنهم؟

لآنّ الكوفيد 19 جعلتنا أوّلاً، أسرى الكتابة والقراءة وعدم التخالط، ولأنّ كتاباً من هذا النوع عثرت عليه ينتظرني منذ سنوات مهملاً في بيتنا الريفي ووقعت قراءته، كما العادة، في زمن يضيع فيه العرب والمسلمون عند كلّ انتخاباتٍ رئاسيّة أميركية، فيروحون يبصّرون كما الأطفال بلعبة فرط الأزهار قائلين: ترامب أم بايدن؟ أشمس هذا أم قمر؟ مع أنّ في السياسة الأميركية التي حفظناها لا أرى فيها شمساً ولا قمرا.

ولأنني ثانياً، إذ تصفّحته وقرأت صفحاته الأولى عند التعريف به ظهر لي أنّ دونالد ترامب نفسه إعتبره  »كتاباً سخيفاً« على نسقه ومملاّ ونصح القرّاء والناس بقوله:  »لا تشترونه«، مع أنّه لم يكن قد رأى الكتاب بعد، وهو كان وفيّاً، كما يبدو، للوعد الذي قطعه على نفسه بأنّه هو لم ولن يقرأه.

جاء هذا النفي بألاّ نقرأه أو نشتريه بمثابة الطعم الذي قد لا يشعر بطعمه الكثيرون، لكنّه طعم ملعون بقي فوق لسان حشريتي لسنوات أربع. ولأنّني تعلّمت كيفية تفكيك الرأي العام وقولبته والجنوح عبر دراستي علوم العلاقات العامّة في جامعة السربون، ومكّنته بالقراءات ثمّ عبر التعليم الأكاديمي بهدف بناء استراتيجيات صقل الصور وتشويهها أوتحطيمها بل تدميرها كليّاً ورفعها أحياناً إلى قبب المجد ولو عن طريق الإشاعات وصناعات الصور وفرضها بشكلٍ ناعمٍ على الرأي العام والجماهير البسيطة المغشوشة بل المفتونة بالصور والشاشات. هذا الإختصاص لم أمارسه عمليّاً لأكون في صفوف خبراء العلاقات العامّة الذين يعرفون بال Pin Doctors وهم غالباً ما يديرون الحملات الإنتخابيّة في البرلمانات والرئاسات والمرشّحين ويهتمّون برعاية صور المؤسّسات والمصانع والأحزاب حيث تتدفق تحت أرجلهم الثروات وتصغر الطموحات وتلوّن الأكاذيب التي لا يمكن السكوت عنها بألوانٍ زاهية ولو بلغت التضخيمات الإعلامية عبرالتوصيفات والأرقام والنسب والأحجام والصور والألوان والشاشات من الأقزام والفاسدين أبطالاً ومن المحتالين أشباه قدّيسين.

مرّة واحدة لجأت إلى استراتيجيات صناعة الصور وفقاً لعلوم العلاقات العامّة، عندما ترشّحت إلى الإنتخابات البرلمانيّة في العام 1992، عن دائرة بيروت بالتفاهم مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي جمعتني به مجلّة  »المستقبل« و »منشورات العالم العربي« وباريس فبيروت، وكان شعاري الإنتخابي: يا أهلي في بيروت: لا تنتخبوا الدكتور نسيم الخوري.

وكان الصدى الإعلامي للنفي جذّاباً وهائلاً. لكنّ السقوط كان حليفي، والأمر بحاجة لا لمقالٍ قادمٍ وحسب، بل لكتابٍ تافهٍ مثل الذي نحن بصدده. لكنّ هذا النفي أواللقاء غير المقصود هو الذي جعل الكتاب طعماً لذيذاً للإجهاض عليه حتّى حدود التمزيق بل التفتيت، خصوصاً عندما ينقلب المرء على جذوره كليّاً: الرئيس ترامب إبن الـ »خادمة منزلية« الذي أيبس جذوره.

وإلى الجزء الثاني في العدد المقبل.

كاتب وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه

العدد 110 / تشرين الثاني 2020