لا ينتهي الحب فالرؤيا لها عبق، والأمس يصرخ باقٍ فيك لو سبقوا

قِراءة في ديوان »حُبٌّ وحُبّ« للشاعر طارق ناصر الدين.

نسرين الرجب ـ لبنان

 »والحُب في النّاس أشكالٌ وأكثرها / كالعشب لا زهرٌ ولا ثمرُ«، بهذا البيت من قصيدة المواكب لجبران خليل جبران، يخطّ المؤلف غلاف ديوانه »حُب وحُب«، الصادر عن دار عالم الفكر في  طبعته الأولى 2017.

  الحب في هذا الديوان هو حُبٌ للآخر الإنسان الصديق والرفيق، للدين،  حب للوطن،  للعروبة التي يفخر الشاعر بالإنتماء إليها عقيدةً وشِيَمًا، أمّا الحُب للمرأة فنجد ذكرٌ منه على استيحاء،يضيء الشاعر زيت ديوانه بقنديل الثالوث المقدّس، الحب والجمال والشعر، فيشّع  في مناسبات شاء لها الحدث أن تكون، وهي قصائد على تنوّعها أظهرت مقدرة الشاعر على نظم أفكاره بالإضافة إلى نظم إيقاع قصيدته، والإنفلات من قبضة الزمن الحدث، ليشحنها بالفكر العروبي، ويؤكد مرة بعد مرة نهج مسلكه واختياره المتجانس مع رجال فكر وأدب وسياسة ومنتديات، كان لهم في شعره حيزًا كريمًا.

  يقع الديوان في سبعة أقسام، وهي: »عروبيات، أحباب، خالدون، وفلسطين، وحب، من مجموعة نرفانا، معلقات عى جدار القلب«، وزّعها قصائده، على مدى 217 صفحة، لم يتوان فيها الشاعر في أية مناسَبة عن التعريج إلى الحال السياسي الحَال على رداءة الواقع البائس، فينتقل من الداعي إلى التداعي في استجلّاب لتأمُّلات ورؤية تبتعد بالحدث عن الموقف الراهن، فلا يقتصر شعره على المديح، أو الرثاء، أو التمجيد، بل هو قفزٌ وتوارد أفكار.

يُدخر الشاعر لعروبيَاته، حبٌّ، وهذا الحُب داء لا يشفيه سوى الموت، » ولن أشفى فموتي في شفائي«، هو حب  للأرض الراحلين والباقين، وينبري في كل مناسبة ليؤكّد فخر انتمائه للعروبة مهما تكالبت حوله الظروف »أحب عروبتي وحيًا ونصّا«، »يتكالبون لينهشوا بعروبتي/ وعروبتي من كل طهرٍ أطهرُ«.

فالشاعر الذي يربو على السّبعين  يُهدّد الموت بفنّه  وحبيبته العروبة  » أنا إن فقدت جوارحي/ شعري يخوض الحرب عني!«،  و يبعث رسالة حب إلى كل العواصم ، لمصر النيل، لبغداد، لدمشق، للشام، لبيروت، لتونس وغيرها، ويُشيد بـأهل الجهاد »الماء طهر والتراب مقدس«، »وحرب رجال الحق كرٌ بلا فر«، وهو يوجه نداءه لرئيس مصر  جمال عبد الناصر والّذي كان له موقفه من العروبه التي تقوم عنده على مقاومة الإستعمار ودحض الاحتلال،  فيسأله لما جاء بطيئًا ورحل سريعًا، »لو تدري يا عبد الناصر«،  فالشاعر يرى في مصر الأم الحامية  ويسألها أن تستعيد دورها في ذلك »يا مصر عودي أن عودك أحمد/ والأمُ تجمع والبنون تبعثروا«

يحلق بعيدًا عن الحدث ليوجّه الأفق نحو رؤية أشمل،  ففي »خمسون واثنان« ذكرى تأسيس قوى الشعب العامل، »هي العروبة آختنا على قسم/ ورثته من أبي إرثًا لأولادي،« يتحدّث عن سكين داعش، يُقلّب في أوجه التاريخ   ليُبرِئه من همجيّة القِوى المُتطرّفة: »فلا علي  بنا يرضى ولا عمر/ سيفان للحق ما كانا بأضداد« »ولا خلافة هولاكو خلافتنا/ ولا الشعوبيّة الرعناء إسنادي« ينادي بالوحدة ، شعره صلاة النصر، »أواه يا أمتي أواه يا وطني/ حكامك السود كم جاروا وكم ظلموا«، وهو ما زال يعايِش حلم العروبة الآفل  ففي قوله: »ناديتنا لا في الجزيرة فيصلُ/ لا الشام تزأر، لا العراق يهابُ« »والمغرب العربي يقتل نفسه/ والأرض تُحرق.. والحياة خرابُ«.

ولا يغيب عن قصيده أحباب انتقلوا من العين إلى الذاكرة، »لا ينتهي الحب فالرؤيا لها عبق، والأمس يصرخ باقٍ فيك لو سبقوا«،  يُرثي الشاعر نفسه في صديقه، فيقول: »أرثي نفسي فيك لا أرثيك..« ، فالعبرة حاضرة، لا يغفل عن إشارتها :«فالعمر يومان يوم يستضاف به/ أهل الجهاد ويومٌ في الميادين«،  »لا يقهر الموت إلا الله والحلم«، يرثي شعراء ورفاق درب منهم عبد الكريم شمس الدين، فيقول له »نموت لكي يظل الشعر حيًا/ ونولد من صدى كلمٍ حميم«، لا يعلق شعره في الرثاء فهو صادق في تعبيره حيث لا وجود لتعابير جاهزة، فلكل مقام أثر وخصوصيّة ،  حريص على السياسة وعلى حشد العواطف العروبيّة التي تتكرر في أكثر من مكان وداخل القصيدة الواحدة، ويعرج في مضامين قصيده ليحدّثنا عن فلسطين المسبيَّه، يتحدث عن خلافات التاريخ والدين »والدين بين خلافة وإمامة/ جعلوه دين تخلّف وخلاف«، »رفع المصاحف قد أتاك بداعش/ فالحكم للساطور والسيّاف« التاريخ لم ينته بل هو امتداد، مهمة الشاعر الربط والتصوير، فالتاريخ لم يصف لأزلامه وما زال دم المعارك نابضًا.

  يتحدّث الشاعر عن مجموعته نرفانا التي أهرقتها همجيّة الحرب، فهو متحفّظ كلاسيكي في شعوره، وهو عاشق لأحزانه كما يقول، »وجهك أحزاني، في وجهك حزن الأسطورة، في وجهك شيء يسحرني/ شيء أجمل ما فيه حزين«، فما الّذي يُعلّقه الشاعر على  جدار القلب؟! »بعد رحيلي قد يحزن بعض الناس/ ويمضي سرب طيور/ …لكن الشمس ستبقى مشرقة/ وستبقى الأرض تدور..بعد رحيلك يا سيدتي/ لن تتأنث حتى الحور«، كتب في هذه المعلقات مجموعة نصوص نثرية ، تحتفي بالمرأة والحُب ، تحت عناوين: فنجان القهوة، سيدة الحزن الأول، السقوط، رسالة قيس بن الملوّح إلى ديك الجن الحمصي، وهي مفارقة جميلة أقام فيها الشاعر عتابًا بين قيس الشاعر العذري الّذي عاش كنهر لا يتلوّث، الوفي لحبيبته ليلى، وديك الجن الشاعر الحسي الذي قتل حبيبته ورد ظُلمًا لما راوده من شكٍّ في وفائها:«ديك الجن وقيس إسمان: يمتدان وينحسران ويفترقان ويرتحلان وينبعثان / وردك مفخرة للورد ووردي مهزوم وجبان«.

  اقترنت معظم القصائد بمناسبات دينيّة، قوميّة، واحتفائية، ورثاء، الحدث هو الزمن الذي ينضج قصيده، وشعر المناسبات هو شعر له مكاناته وتصنيفه الذي يميزه، ولو أن البعض  عمد إلى الإنتقاص  من قيمته، في هذا الشعر يعطينا الشاعر زبدة خبرته  وفكره في قالب حكمي موزون، كأن يقول:

«إن يفسد المسؤول تلك مصيبة/ أما المشايخ فالمصيبة أكبر«، كذلك: »كل الأفاعي تجيد الّلدغ إن تُركت/ والسّم سمٌ ولو قالوا هو العسل«، فالشاعر يُجيد حبك مقولته الشعريّة ويعطيها وزنًا وقافية، ويخلع عليها طابع الحِكمة حتى لتبدو مستقلة في تكوّنها، جاهزة وغير معقدة في تركيبها، يتفنّن في تركيب المشهديّات حتى لتبدو أليفة وغير مُستحدثة، يستحضرها من الواقع السياسي في الغالب: »خطر هو النووي عند عدوّنا/ لكن سلاح المذهبية أخطر«.

 يتّسم هذا الكتاب بالتنوّع، فالشاعر في الغالب  يلتزم بالوزن والبحر الشعري التقليدي، ونجد له نماذج من شعر التفعيلة، وبعض نصوص كانت عبارة عن نثريات تتخللها استفاضات شعريّة كثيفة الظلال، اللغة فصيحة غنيّة في دلالاتها ، بائنة وغير خفيّة ، لا تتخللها الغرابة في طريقها إلى المُتلقي، والصورة الشعريّة لديه حسيّة سهلة الإدراك، فلا يُخفي  ثقافته التاريخيّة والسياسيّة ليُقحمها في مجالات قوله الشعري، حينما يربط الماضي بالحاضر في مشهديّات يخلق الشاعر بينها وجه شبهٍ بالغ الدلالة، تبدو من خلالها القصيدة تحلق في عالم خاص لا ينحصر في ضيق المسافة بين الحدث والمقول.