لبنان الانتخابات النيابية… خائن من يترشح خائن من يصوت (2 من 2)

في أزمنة مضت شعر اللبنانيون إنهم على وشك أن يكونوا قريبين من دولة. حدث ذلك في عهد الرئيس كميل شمعون، وعهد الرئيس فؤاد شهاب. هذا واقع اختبره الكبار في السن، وجعل من لبنان بلداً مزدهراً على شواطئ المتوسط. هناك من اللبنانيين والعرب من يحّنون إلى تلك الفترة، لكن الحقيقة أنه حتى لو استمرت الفترة الشمعونية والفترة الشهابية سنوات أطول، ما كان بالإمكان ابدأ أن تقوم في لبنان دولة حقيقية، لأن المسألة مسالة نظام قبل أي شيء آخر، لا مسألة شخص أو رئيس، مهما كانت أهلية هذا الرئيس، وكان ذكاؤه وكانت مناقبه!  حين قرأ الدكتور في الطب، الصديق أنطوان قطار مقالتي التي نشرتها “النهار” يوم 23 آذار الماضي، تحت عنوان “هل تحكم إسرائيل لبنان القبائل؟” كتب إلي يقول “ما كان اللبناني يوماً على مستوى الهبة الإلهية التي منحها الله له. حتى الطبيعة ومعالم الجمال شوهها. هو فردي، أناني، “مصلحجي”، متمرد على القانون، وتاجر ما إلو رب”. وافقت الصديق الدكتور رأيه بتحفظ، وزدت بأن قلت له إن اللبناني بالرغم من هذه العاهات، إنسان كريم، شخصيته رائعة وذكاؤه حاد، لكن نظام بلده سبب نشوزه وعقوقه، فقد ولد في وطن هو أقرب إلى المزرعة منه إلى الدولة، ووضعه كوضع طفل لم يرسله أبواه إلى مدرسة نظامية، فنشأ فردياً ومتمرداّ. اللبناني إنسان مطواع، يتكيف مع المناخات، وكثيراً ما سمعنا ورأينا كيف أن اللبناني المغترب، يمتثل لقوانين الدول الراقية التي يعيش فيها، أو يزورها للسياحة، حتى إذا ما رجع إلى بلده، ووطأت قدماه أرض المطار، عاد إلى “لبنانيته”، أو إلى أصله، كما تقول العامة. هذا يعني أن العّلة ليست في هذا المواطن، بل في الدولة التي يعيش فيها، فإن كانت راقية، كان أداء هذا المواطن راقياً، وليس هناك دولة راقية بالمعنى الصحيح، إلا الدولة المدنية العلمانية، فهذه تفرض احترامها وهيبتها على مطلق انسان، مقيماً كان أم زائراً. هي الرئيس والوزير والنائب وناظر المدرسة والمعلم، وهي الحارس والشرطي ورجل القانون، هي إله العصر الحديث كما قال الفيلسوف الألماني جورج فردريك هيغل… فأين نحن وأين لبنان من هذا كله؟

في كتابه “فلسفة التاريخ” يقول هيغل إن في المجتمع الشرقي شخصاً واحداً يتمتع بالحرية هو الحاكم، اما الآخرون فجميعهم يفتقرون إلى الحرية، ويخضعون إرادتهم للبطريرك، أو اللاما، أو الإمبراطور، أو الفرعون، أياً يكن اللقب الذي يُطلق على الحاكم المستبد. وكما سبق القول في مقدمة هذا المقال فإن النظام اللبناني مشوب بالعيوب، وعيوبه مغلفة بأكسية وأصباغ خادعة براقة. من هذا الخداع أن في لبنان من الديموقراطية قدراً ليس متوافراً في أي بلد عربي آخر. كلام يصح نسبياً، لكنه لا يستقيم على العموم، ويجعلنا نتساءل: كيف يمكن للمواطن اللبناني أن يتمتع بالحرية والديموقراطية وهو يعيش في بلد تحكمه عصابات سياسية ومالية تفرض عليه ساعة يريد ان يدلي بصوته في مصير بلده أن ينتخب نواب طوائف، لا نواب وطن؟! الخدعة الأخرى، أن مساحة “الحرية اللبنانية” مقتصرة على العاصمة بيروت، وما ينشر فيها ويذاع من كلام، لكن هيهات أن ينتشر نسيمها في عموم مناطق البلاد، ما يدعونا أيضاً إلى التساؤل: هل بمقدور كاتب لبناني يسكن في الضاحية الجنوبية من بيروت أن ينتقد سيدها ويبقى في قيد الحياة، أو يسكن النبطية وجوارها وينتقد “أستاذها” من دون أن تناله لكمة أو لكمتان، أو يقطن جبل الشوف وينتقد “سيد المختارة “ويبقى بمأمن من خطر، أو يسكن في بلدة “معراب” الشمالية، وينتقد “الزعيم الحكيم” من غير أن يلحق به أذى، او ينال الجبران الباسل بكلمة في المناطق التي يسيطر  أزلامه عليها من دون أن يمسه سوء؟!

الحديث عن الأكسية الخافية عيوب النظام اللبناني حديث لا ينتهي، والأمثلة على هذه العيوب كثيرة، فلننتقل منه إلى موضوع آخر، لا بد انه يتبادر إلى ذهن كل من يقرا هذه السطور، ويمكن اختصاره بعبارة موجزة: ما هو الحل، أو ما هي النُّجعة السحرية التي تؤدي إلى بناء نظام جديد عادل، في وطن سيد حر ومستقل؟ الحل الوحيد الذي لا حل غيره، كما سبق وقلنا غير مرة هو الدولة المدنية العلمانية، وواهم من يظن أن هذا الحل سوف ينجزه رعاة النظام القائم، لأن فيه القضاء على مصالحهم. على الشعب نفسه أن ينجزه من خارج النظام والمجلس النيابي الطائفي، باعتماد خطة يشارك فيها الجميع، الطلبة والمثقفون والقيمون على الوسائل الإعلامية، لحث الناس على مقاطعة الانتخابات ترشحاً وتصويتاً، والابتعاد الكامل عن النظام الحالي السيئ، والتظاهر بشكل سلمي، وتوزيع المناشير لتوعية الناس على أهمية فصل الدين عن الدولة، حفاظاً على الدين كفعل إيمان صادق، وعلى العمل السياسي كواجب وطني. كذلك الطلب إلى القيّمين على الشاشات فرض الضغط المعنوي على “الفعاليات”، والتوقف عن استضافة رجال الدين، علماً أن ليس في القرآن والإنجيل دولة دينية من أي نوع، وامتثالاً بقول “مسيح الإيمان” القائل: مملكتي ليست من هذا العالم، واعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. كذلك التوقف عن استضافة أي “زعيم” سياسي والتعتيم الكامل على السياسيين كافة، وفتح المجال أمام الأصوات الوطنية الحرة.

حين يقاطع المواطن هذا النظام الطائفي البغيض، ويقاطع المشاركين فيه، ولا يترّشح فيه ولا يصوّت، يصبح مواطناً صالحاً متصالحاً مع نفسه، يحق له عندئذ الانتقاد والشكوى، بخلاف مواطن آخر يدلي بصوته في الصندوق، أو يبيعه لزعيم جائر، ثم يبدأ يشتكي من سياسة هذا الزعيم أو ذاك، وفي هذا شيء من نفاق هو أقرب إلى نحر الذات. المهمة ليست صعبة، وما كانت المهام يوماً صعبة على شعب يريد الحياة، والغالبية من اللبنانيين تريد الحياة، ولا تريد هذا النظام ولا تريد أسياده، ومتى بدأ كل مواطن بنفسه، عملاً بشعار “كل مواطن خفير”، تضّح الرؤية، ويتحقق الحلم رويداً رويداً وعلى مستوى الجموع، ومهما اشتدت ألسنة النار، بمقدور ملايين الطيور إن هي تعاونت، أن تخمد لهيبها بقطرات من ماء النهر، فتنقذ نفسها وتنقذ الغابة من الفناء.