لبنان والسلام خطّان لا يلتقيان

محمد علي فرحات

الصراع الداخلي والإقليمي والدولي في لبنان هذه الأيام، محطة جديدة من أزمات يمرّ بها وطن الأرز بحيث تبدو فترات السلام مجرد هدنات لاستعادة الأنفاس، فلبنان والسلام خطان متوازيان لا يلتقيان، لذلك يعجب المراقبون كيف أنّ الإنتماء اللبناني يستمر رغم الإقامة الصعبة والآفاق المسدودة.

لقد تشكّل الكيان اللبناني الحديث من خلال حربين أهليتين في جبل لبنان أدّتا في البداية إلى نظام القائمقاميتين الدرزية والمارونية عام 1843، ثم إلى نظام المتصرفيّة الذي رعته دول أوروبيّة واستمر من 1864 إلى بداية الحرب العالمية الأولى، وتمثّلت في مجلس إدارة المتصرفيّة الطوائف اللبنانيّة كلّها بحسب النسبة العدديّة. وبعد إنتصار الحلفاء تشكّل لبنان الكبير ضامّا أيضا البقاع كلّه والأجزاء الباقية من الشمال والجنوب، وذلك بإشراف الإنتداب الفرنسي وبإدارة وطنيّة تضم رئيس جمهوريّة، ورئيس حكومة ومجلساً للنوّاب منتخباً. لكن السلام لم يستتب في ظل الإنتداب مع استجابة لبنانيين، خصوصاً في الجنوب والبقاع، للثورة السوريّة على الحكم الفرنسي التي أعلنها سلطان باشا الأطرش، وتعدّى تأثيرها الصدام المسلّح إلى نوع من الدفع الشعبي نحو التحرّر من الإنتداب وإعلان الإستقلال الذي أتمّه اللبنانيون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1943 خلال الحرب العالمية الثانية.

ولم تمضِ خمس سنوات على الإستقلال حتى أعلنت الحركة الصهيونية دولة إسرائيل على جزء من ارض فلسطين المجاورة، في أيّار (مايو) 1948، فبدأ التحدّي الكبير للبنان القائم على التعدّد الديني والطائفي، من دولة مهاجرين قائمة على دين واحد، وإن تأجّل إعلانها دولة يهودية عشرات السنين استطاعت خلالها تأكيد دورها المفترض كممثلة قويّة لحضارة الغرب في المشرق العربي.

وبعد عشر سنوات من تأسيس إسرائيل اهتز المجتمع اللبناني بإعلان الوحدة بين مصر وسورية، في شباط (فبراير) 1958 بقيادة جمال عبد الناصر الذي تكرّست زعامته الكاريزميّة حتى في لبنان. هذا الإهتزاز تمّ احتواؤه على رغم تمرد أعلنه مؤيدون للوحدة في بيروت وطرابلس وصيدا مستندين إلى معارضتهم سياسة رئيس الجمهورية كميل شمعون الموالية للغرب بحسب رأيهم، إذ استطاع قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب بالتعاون مع الرئيس جمال عبد الناصر تسوية العلاقة بين لبنان ودولة الوحدة، بحيث تؤيد بيروت سياسة القاهرة الإقليميّة ويبقى الشأن الداخلي للبنانيين.

بعد تسع سنوات من تلك التهدئة حدثت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 إذ احتلت إسرائيل دفعة واحدة غزة وسيناء من مصر، والقدس الشرقية والضفة الغربية من الأردن، وهضبة الجولان من سورية. كانت الهزيمة علامة لإنهيار الدولة العربية الحديثة، خصوصاً لجهة سيطرة العسكريين على الحكم وتغييب الديمقراطية والحد من حقوق الإنسان ومنع تداول المعلومات بل تزويرها في كثير من الأحيان. ولا تزال آثار ذلك ماثلةَ على رغم تمردات هنا وهناك وصلت إلى الفشل. ولم يستطع لبنان النجاة التي ظنّ أنه حقّقها في حزيران المشؤوم، إذ تسلّل مسلحون فلسطينيون مباشرة بعد الهزيمة واتخذوا من أراضٍ لبنانية عند حدود إسرائيل مقراً لهم، وما لبث رفاقهم في الأردن أن اصطدموا بالدولة هناك عام 1970 فتلقوا منها ضربات قاسية دفعت قياداتهم ومعظم مسلحيهم للتوجّه نحو لبنان حيث شكّلوا وجودا ملحوظا في معظم المناطق وصولاً إلى العاصمة بيروت. وبذلك تمهّدت الطريق إلى حرب لبنانية أهلية استمرت من 1975 إلى 1982 فهدمت معالم الحياة السياسية والإجتماعية والإدارية في لبنان، وقسمت اللبنانيين اقساماً عدةً، معظمها ذو شكل طائفي، وتسبّبت بخراب في المساكن والنفوس وبهجرة كثيفة إلى خارج الحدود. وقد حلّ الجيش الإسرائيلي محل الوجود العسكري الفلسطيني منذ العام 1982 ووصل إلى بيروت، ثاني عاصمة عربيّة يحتلها بعد القدس (العاصمة المفترضة لفلسطين).

وأجمعت الدول العربيّة عبر مبادرة قادتها المملكة العربيّة السعوديّة بتأييد دولي لإعادة تكوين الدولة اللبنانيّة، من خلال اتفاق عُقد في مدينة الطائف عام 1990، بعدما كان الجيش السوري حلّ مع جيوش عربيّة أخرى (ما لبثت أن انسحبت) محل الجيش الإسرائيلي الذي تقلّص وجوده حتى جنوب الليطاني لينسحب عام 2000  منهيا احتلاله الصعب بفعل ضربات المقاومة والصمود السياسي للدولة اللبنانية.

لكنّ اتفاق الطائف لم يُنفذ بكامله، واستطاع زعماء الطوائف التحايل ليستمرّ تحكّمهم ويمنعوا قيام مجلس نواب مدني وحصر التمثيل الطائفي بمجلس الشيوخ، وفق نطاق محدود يحفظ وجود الطوائف.

بعد الطائف حصل تعارض بين المقاومة والدولة خصوصاً في أعقاب إنسحاب الجيش الإسرائيلي، وانصراف مسلحي المقاومة المنتمين إلى “حزب الله” لتأدية مهام عسكرية في سورية وغزّة وأحياناً في العراق واليمن، ما جعل لبنان مهدداً بالخضوع إلى هيمنة إيران التي تموّل “حزب الله” ، وهذا الأمر يتعارض مع تاريخ لبنان المستمر سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بالإستناد إلى ريادة عربية وإلى موقع المحاور بين الداخل العربي وأوروبا.

هل يجد لبنان نفسه مدفوعاً إلى حروب أهلية متجددة نتيجة الصراع على أرضه وفي مجتمعه؟ كثيرون يتخوّفون من ذلك، خصوصاً مع تفاقم المجاعة المقنّعة التي تطبق على غالبية اللبنانيين ومع إصرار الزعامات الطائفية على تسلّطها رغم فشلها الذي يشهده اللبنانيون والعرب والعالم، ومع يأس الدول النافذة من إمكانية إصلاح الطبقة الطائفية الحاكمة في لبنان سياسياً وأخلاقياً.

العدد 119 / اب 2021