لبنان يبقى واللبنانيون يتغيرون

30 في المئة من اللبنانيين المقيمين يستطيعون العيش في جحيم وطنهم، وهم يستندون الى دعم مالي من قيادات الميليشيات التي ينتمون اليها أو الى تحويلات اقربائهم المقيمين في اوروبا وشمال اميركا واستراليا.

أما ال70 في المئة فيعيشون الفقر أو أدنى درجاته، يصلون شيئاً فشيئاً الى حافة الجوع بل الى الجوع نفسه، والدليل هو حالات الانتحار التي تتزايد وأمراض الصمت أمام الحوار الدموي بين قادة الطوائف، ورسائل اليأس التي يقدمها الموقع الجغرافي الحرج بين سورية المرتبكة التي تصدر أزماتها الى الجوار واسرائيل الخاضعة لحكم متطرفين يمكن القول انهم دواعش اليهود.

هذه الخريطة ليست رثاء للبنان الذي اعتاد منذ أواسط القرن التاسع عشر أن يعبر محطات حروب طائفية ويدفع بجماعات من سكانه الى المهاجر البعيدة، كما اعتاد على مصالحات وطنية سطحية استجابة لتدخلات دول قريبة وبعيدة تريد للوطن الصغير سلاماً أهلياً، على رغم معرفتها انه سلام عابر بين حرب وحرب.

لبنان باق بالتأكيد لكن الخطر سيصيب اللبنانيين: فمن اللافت هذه الأيام وجود حشود من المواطنين يقفون في خط الانتظار بدءاً من الفجر الى بعد الظهر المتأخر لتقديم طلبات للحصول على جوازات السفر تمهيداً للمغادرة الى أي مكان في العالم يسمح باستقبالهم. لبنان باق بالتأكيد ولكن بأقلية لبنانية وبغالبية سورية تحتاج عقوداً من السنين لتأنس الى وطنها الجديد الذي تغيره أكثر مما يغيرها.

كل الأفكار اليوم في خدمة قادة الميليشيات، وضعوا في مستودعاتهم مدافع وأساطير ومأثورات شعبية من أيام الخوف، ووضعوا أيضاً كتباً أجنبية وطموحات مكسورة. كل الأفكار في خدمتهم، لكن ذيول اللعبة أقوى من اللعبة ذاتها. ويبدو القادة كأجسام خفيفة طائرة، ولكن، مربوطة بالسطح الثقيل للماضي. وكلما اقترب الناس من التشابه يأتي من ينبه الى المغايرة المفترضة. يصاب الناس بالرعب من التشابه. يتبادلون الحديث الصاخب أمام مرآة كبيرة جداً. كلّ منهم يضرب الآخر بقبضته فيسيل الدم علامة على التفرقة الحمراء. وكلما ازداد خطر التشابه يزداد العنف. هكذا يبدو دعاة التوحيد أمام نار تتأئج وفواصل توضح بين الجماعات وأحياناً بين الأفراد.

يلعب قادة الميليشيات في ملعب الناس ويدربونهم على أصول لعبة التفريق. يستنهضون في الناس أعز ما لديهم ليشاركوا في اللعبة: وجدانهم. تاريخهم الشفوي، عناصر ثقافتهم اليومية، وذاكرتهم الجمعية. وحين يشارك الناس، ولنقل القسم الكبير منهم، في لعبة القادة، تحدث اللعبة فيهم شروخاً. ينسدل ستار أسود بين الجماعة والجماعة. وفجأة، بين مساء وصباح، يستيقظ في نفوسهم تاريخ من النفرة، وتذهب عواطفهم الى جهات شتى. يطرحون سؤال المستقبل بعيداً عن الاقامة المتنوعة ومشاعر المواطنة الجامعة، فيصبح الفرد جهاز استقبال صالحاً لتقبل كلام التعصب للذات المفترضة والتحامل على الآخر المفترض هو أيضاً.

من يعرف من؟ نحن أمام كلام الواجب الطالع من الشرذمة، وملفات تاريخ التجاهل والتجهيل. كل ذلك ينتشر في الجرائد والتلفزيونات والمواقع الالكترونية كما في الاعلام الشفوي الأهلي. لا يعرف الناس بعضهم بعضاً. يتحدث الجار عن جاره كمن يتحدث عن قبيلة في أدغال الأمازون. وينسج الناس عن الناس أساطير بعيدة عن السؤال والتحقيق. وتراهم يرسمون الستار الأسود كناية عن مسافات التباعد في الزمان وفي المكان وفي لغة التعبير.

يستجيب المواطن لقائد الميليشيا ويعتبر نفسه حالة من حالات الانفراط البشري. يشعر في البداية انه استثناء أو حالة مرضية، لكنه يجد اثناء اختلاطه بأهله وجماعته الاقربين ان أفراداً آخرين مثله ينكفئون أيضاً ويعيشون سلام التراب. وأن نفوسهم هامدة كحال انسان مغمى عليه. ويرى المواطن مفارقة غريبة هي ان الاجتماع البشري غادر أجساد البشر ليصبح اجتماعاً لأفكار البشر، ويرى ان هذا الاجتماع الطائر يشبه مركبة فضائية تحلق فوق الرؤوس وتستعلي على الانسان والحيوان والنبات، حاجبة في الوقت نفسه نور الشمس ودورة الرياح الواسعة. وقال المواطن ان افكار البشر تقتل البشر، وانها تنتظم في صياغة معدنية معلقة فوق الرؤوس ومهيأة لسحقها في أي لحظة.

ونظر المواطن الى مكان الانفراط البشري المدعوّ لبنان، فاذا هو مجرد ممر، وأرضه مشرعة أبوابها على المراكب والخيل، على الأفكار التي تنمو بطريقة غير طبيعية بفعل المارة المتنوعين، وبفعل الأحلام السرية التي تبرز بجرأة حتى تصير نظاماً، كما بفعل النظام الذي يتقزّم فجأة حتى يصير هامشاً. ولاحظ المواطن ان الانفراط لا يمكنه ان يجمع حتى المنفرطين. كل واحد وله عالمه وحالته الخاصة. وأي صعلوك يمكن أن يطلع عليه صبح فاذا هو أعتى الجبابرة، وأن ساعة نحس قد تأتي على الجبار فيتحول الى صعلوك.

وفكر المواطن ان سكان الممر المنفرطين يمكن لهم في يوم ما ان يوقعوا على اعلان مشترك يتضمن شيئاً من التفاؤل للبنان ومن يبقى فيه من أهله بعد العذاب، وجاء في الاعلان:

“ان سكان الممر يعبرون عن استيائهم الشديد من قسوة أحذية المارة ومن ثقل ظلهم، ويريدون تذكيرهم ان هذا المكان وإن كان ممراً فهو مرصود لحكمة قديمة، بأن للقوي قوياً آخر يجبره على افساح الممر فيفسح ويرحل. وان سكان الممر يعون جيداً أزمة مكانهم، لذلك يطلبون من المارة الا ينسوا أنهم مارة فلا يطلبون الاقامة. وان سكان الممر سيظلون مقيمين صابرين، وإن قلّ عددهم، حتى يأنس الناس جميعاً الى أماكنهم فيعود الممر بيتاً وحول البيت حديقة وسياج من ورد وشوك”.