لسنا في قرن الأديان

الدكتور نسيم الخوري

وصلت باريس في ال 1972 طالباً للدكتوراه في مفاهيم الحداثة ومظاهرها الفكرية والتغيرية في الوطن العربي. وقع هذا التاريخ في عزّ مواسم القطاف لثمار ثورة السربون وقد عوقبت بتشظيتها وتفريعها، بعدما أسقطت الجنرال شارل ديغول وشرّعت أبواب فرنسا والعالم على اليقظة الدائمة بحثاً عن الحريّة الكشف والتغيير.

بعد خمسين عاماً، عثرت بين أوراقي، في “سجني” السكني المسكون برُهاب الكورونا، على مقابلة للمفكّر الفرنسي الملحد أندره مارلو (1901-1976) الذي جذبنا شباباً ودمغ الأجيال والأذهان ب “جرثومة” التغيير، وخصوصاً عندما كان وزيراً للثقافة في فرنسا لسنواتٍ عشر من ال 1959 حتّى ال 1969 فاعتُبر مع جان بول سارتر في أساس الفكر التغييري.

“القرن الواحد والعشرين هو قرن الأديان” عنوان مقابلته في مجلّة “لو بوان” الفرنسية سنة 1955، أي قبل نصف قرنٍ من ال 21 وفيها:

“لا أستبعد إمكانية حدوث يقظة دينية لا على مستوى البلاد الإسلامية وحسب، بل على مستوى الكرة الأرضية… سيكون القرن الواحد والعشرين قرن الأديان والصراعات الدينية… وأقصد بالأديان بصفاتها أقنعة سياسية متنوعة وضرورية لحروب الدول والأنظمة المتشبّثة بمصالحها في مناطق العالم المسيطرة عليها. وسيستخدم الغرب الترسانات الأيديولوجية أسلحة فعّالة بين يديه لاحقاً، خصوصاً في الدول الإسلامية، الفقيرة منها والغنية، إذ لكل بلد هويّة وفقاً لظروفه أو تناقضاته السوسيولوجية وتكويناته الدينية والإثنية”.

كان من الطبيعي إذن، أن يتّجه الفكر ببعديه العربي والإسلامي وفقاً لمحاور أو مواقف ثلاثية التوجه:

  • سواء أكان مارلو قد عنون القرن ال 21 سلفاً بالصراع الديني أو المذهبي ومخاطره، لكن جملته مثُلت أمامي لوحةً دماءٍ في تاريخ العرب والمسلمين ودول أخرى من العالم كما في أذهان النخب العربيّة منذ كارثة ال 1948 في فلسطين، لتنمو وتتكدّس نتائجها العسكرية والدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتجارية دامغةً بلادنا وأجيالنا وأفكارنا ونصوصنا. وأراها عادت لتعمّق دمغتها في عمق حاضرنا بعد فكرة “صدام الحضارات” لصموئيل هنتغتون الذي رأى في محاضراته الجامعية ومقالته التي فصّلها في كتابه بالاسم عينه، أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون قومية أو إيديولوجية بقدر ما ستكون دينية وثقافية بين الحضارات الكبرى في العالم التي عدّدها غربيّة كاثوليكية بروتستانية وأميركية لاتينية ويابانية وصينية وهندية وإسلامية وأرتوذكسية وأفريقية وبوذية.
  • اعتبار الصراع الديني والمذهبي قائم وناشط أصلاً منذ أزمنة غابرة تُرجعنا إلى الحروب الصليبيّة وسيستمرّ إلى الأجيال المُقبلة. يتجدّد الصراع رابطاً بين هويّات الأحداث الكبرى منذ اجتياح الروس لأفغانستان (27/12/1979) الذي أيقظ المسلمين، وسقوط الشاه وعودة الخميني من النوفل لو شاتو في ضواحي باريس بالثورة الإسلامية الى طهران (1/2/1979) التي أيقظت بقوّة الصراع بين السنة والشيعة، إلى حرب العشر سنوات الإيرانية العراقية (22/9/1980) وإذكاء الصراع عبر تمرير “إسرائيل” خلسةً أسلحة الى إيران في ما عرف بفضيحة “إيران غيت”، ثمّ غزو صدّام حسين للكويت (8/2/1990) وعاصفة الصحراء (16/1/1991)، وصولاً الى ربط البشرية بفاتحة القرن الأضخم الذي هزّ العالم أعني سقوط البرجين (11/9/2002) وما تلاه من أحداث جاءت بموجب القرار الدولي 1337 قضى بمكافحة الإرهاب عنواناً مرفوعاً بالحرب الأميركية في أفغانستان أو الحرب الأفغانية أو الحرب الإنكليزية الأفغانية الرابعة والتي سُمّيت حركيّاً بين ال2001 وال 2014 عملية الحرب الباقية، وعُرفت من 2015 حتّى قبل أمس بعملية حارس الحريّة عقب غزو الولايات المتحدة الأميركية لأفغانستان في 7/9/2001 وتحطيم العراق منذ ال 2003. ما أن تقول الإرهاب اليوم إذن، حتّى يدرك السامع بأنّ المقصود بذلك المسلمون والاسلام وقد صار حلماً مزعجاً مقيماً في العقل الغربي.
  • اختلّت العلاقات الدولية، وصارت مبعث توجّس ورعب بعدما نظر العالم الى المسلمين بعين حمراء لا تنام بعد سقوط البرجين، وبسبب ما خلّفه هذا المناخ من كوارث ودماء في بلاد الشرق الأوسط بشكلٍ ضاعف القول والقناعات المُستعادة بالمؤامرة. الغريب في هذا التوجّه الثالث قسّم الجميع وأجهض القوميات في مواقد الصراعات الدينية والمذهبية ولم تصمد في الاعتبار مسؤوليات لما يمكن أن تولّده تلك الأحداث وما يليها من تداعيات وكوارث قادمة. وقد يكون الاعتبار الثالث الأكثر دقّةً والأدنى وعياً في هذه الصراعات الدينية والمذهبية التي خلطت الآمال الكبرى بالسجّادات الحمراء التي رفعت الأغطية السميكة الكثيرة عن بعض الأنظمة عبر فصول الربيع العربي الدامية لتعيد تشكيل المنطقة المعقّد وفقاً لنظام عالمي جديد في عصر الانفتاح والتواصل وخرق الحجب والانقلابات والصراعات الحزبية والشعبية المذهبية.

لا يمكن الجزم بمدى إدراك العرب والمسلمين لمعاني إيقاظ النعرات الدينية والمذهبية وأبعادها الذي حلّ عاملاً هائلاً مساعداً في التغيير. يبدو وكأنّهم غافلين عن متابعة استراتيجيات مستمرّة في الغرب وفي رأسها أميركا جوزيف بايدن الديمقراطي الساحب بقايا جيوشه من أفغانستان والعراق لا ليتراجع إلى الخلف نحو شعار دونالد ترامب المشهور:” أميركا أوّلاً” بالمعنى القومي للدولة العظمى، بقدر ما هو للتأهب مستقبلاً نحو الصين والشرق الأقصى في صعود الدول العظمى الحافل بالصراعات والتفاهمات تنقيباً عن ثروات القطب المتجمّد الشمالي بنسف ما تبقّى من جليده، وفتحه لممرات تسهّل بإيصالها جنوباً نحو الغرب عبر الدانمارك وغيرها من الدول. باقية الشهوات الاستثمارية هناك بهدف خلخلة الأنظمة الشمولية ونسفها من داخل، في بلاد الإسلام والعالم. يُفترض الإقرار، بأنّ الأزمات التي حلّت بالعديد من الأنظمة، لم تحصل منذ سقوط جدار برلين (9/10/1989) كما يشاع، بل قبل أكثر من ربع قرنٍ مع انهيارات العديد من الحكومات والأنظمة المستبدّة في جنوبي أوروبا وأميركا اللاتينية وشرقي آسيا وأفريقيا.

لسنا في قرن الأديان بمعانيه وأبعاده وقيمه المتعدّدة الشائعة الوافدة إلينا، بل نحن في عصرٍ يسخّر فيه الدين ويتشوّه عبر أجيال المتدينين المستعارين أو المستوردين التكفيريين والذين لا أوطان لهم سوى الإستمرار في تعبيد طرق الأمم الكبرى لامتصاص الخيرات الباقية واقتسامها في الأرض والمياه.

العدد 120 / ايلول 2021