ملامح المشروع الأمريكي الجديد في العراق

د. ماجد السامرائي

لم تعد قصة الاحتلال الأمريكي للعراق بكل فصوله السياسية والعسكرية بحاجة الى براهين ووثائق جديدة.فنتائج هذا الاحتلال على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانساني أكدت ان الأهداف الاستراتيجية لم تكن لتخليص الانسان العراقي من الظلم والاستبداد والدكتاتورية واشاعة الحرية والديمقراطية. وليس صحيحا ما يقوله الأمريكان بأنهم ينقلون جيوشهم الى بقاع العالم ومن بينها منطقتنا العربية استجابة لنداءات الاستغائة.الحقائق دللت على ان دوائر لوبي اليمين المتطرف في واشنطن التي تغلغلت داخل قيادات الحزب الجمهوري وإدارتي بوش الأب والإبن وجدت من العراق نقطة الإنطلاق الحيوية لمشروعهم في المنطقة.أركان المجموعة المتطرفة أصحاب استراتيجية »الفوضى الخلاقة« هم الذين خططوا لاحتلال العراق في مقدمتهم )ديك تشيني.بول ووليفتز.جيمس ويلزي. اليوت كوهين.دوجلاس فيث( وكانت نظريتهم تقول »بأن الاسلام هو الخطر الداهم على البشرية ويجب القضاء على جميع الدول الراعية للإرهاب« هؤلاء اشتغلوا في الإعداد لحرب العراق برعاية )بوش الإبن( صاحب عقيدة »الحروب الاستبقاقية« حيث رأى بأن »أمريكا هي القوة العليا على الكوكب ولها السلطة ومن حقها رسم خارطة العالم« لقد كان بوش من أشد المؤمنين بالخرافات الدينية والوثنية البالية وهو مهووس في قراءة الكتب اللاهوتية والتوراة ويميل الى استخدام العبارات الغريبة »القضاء على محور الشر وبؤر الكراهية وقوى الظلام وظهور المسيح الدجال وشعب الله المختار« ويرى إنه يتلقى رسائل مشفرة يبعثها اليه الرب عن طريق الايحاءات الروحية والأحلام الليلية. ويدعي في مكالمة هاتفية له مع الرئيس الفرنسي الأسبق )شيراك( حين دعاه للانضمام الى الحرب على العراق مبررا ذلك بتدمير آخر أوكار الشر )ياجوج وماجوج( اللذين يسعيان الى تشكيل جيش إسلامي من المتطرفين في الشرق الأوسط لتدمير إسرائيل والغرب وبأنه تلقى وحيا من السماء لإعلان الحرب على العراق »ووفق نظرية« الفوضى الخلاقة »يقول أصحابها بأن الجيوش الأمريكية بفروعها القتالية والاستخبارية ذات القوة الكبرى في العالم هي أداة وأذرع تنفيذية لتحقيق تلك الأهداف. لقد نجحت الى حد بعيد نظرية »الصدمة والرعب« التي نفذها نائب الرئيس الأمريكي الأسبق )ديك تشيني( ومساعده وزير الدفاع )رامسفيلد( كأبرز قادة اليمين الأمريكي في تدمير قوة العراق العسكرية والأمنية ومن ثم قواعد البنى

 الجنرال ماتيس وزير الدفاع الأميركي... استراتيجية العودة العسكرية إلى العراق
الجنرال ماتيس وزير الدفاع الأميركي… استراتيجية العودة العسكرية إلى العراق

التحتية وهي ليست بجميع الأحوال ملكاً )لصدام حسين( ونظامه بل للعراق الوطن. كما وضح بأن المحتلين الأمريكان كانت معلوماتهم »سياحية« عن العراق الهدف. ووجدوا ببعض قوى المعارضة العراقية الخارجية الوسيلة السهلة لإعانتهم على تنفيذ مشروعهم الحيوي. وكانت صفقة »المقايضة« بين منح السلطة لهم عبر أقبح مشروع للمحاصصة السياسية الطائفية. وخلال ثماني سنوات من الاحتلال العسكري تمكنت الأدوات الأمريكية من اختراق القيم الرصينة للانسان العراقي وتفتيتها بأدوات محلية عراقية. على المستوى العسكري تمكن قادة من الجيش الأمريكي من نقل خبراتهم التقنية وتراث المؤسسة الاستخبارية في حروب بلدان أمريكا اللاتينية القذرة والحرب على العراق أمثال )جيمس ماتيس وجون كيلي وهربرت ماكماستر ومايكل فلين وبترايوس( وأصبحوا في ما بعد خبراء حين الطلب تراجعت فعالياتهم اللوجستية خلال فترة إدارة )أوباما( صاحب نظرية عدم الصدام العسكري والانسحاب التدريجي من نقاط الالتهاب التي اشتعلت في كل من إفغانستان والعراق بعد الحادي عشر من أيلول )سبتمبر( 2001 والانكفاء للداخل الأمريكي. وتنفيذ نظرية الحرب بالوكالة بالمنطقة. مما أتاح المجال الحيوي لقوى أخرى حالمة بالتمدد مثل )إيران( لتأخذ فرصتها الاستراتيجية. عارض الجنرالات الكبار قرار الانسحاب الأمريكي من العراق. لكن معارضتهم تلك لم تغيّر من فرضيات وسياقات النظام المؤسساتي الأمريكي.والتطور المفاجئ الذي حصل في منطقة الأزمات )العراق وسوريا( هو الظهور القوي لتنظيم )القاعدة( ومن ثم )داعش( لكي تصبح قضية محاربة الإرهاب المحورالاستراتيجي العالمي والمحلي الجديد الذي تنتطم فيه الاصطفافات السياسية والأمنية الكبرى والصغرى. وتراجعت بقوة معايير الصداقات والعداوات القديمة. ولتستثمر هذه المسألة الكبيرة للإغراض المصلحية للدول كبيرها وصغيرها. تراجعت مفاهيم الوطنية ومحاربة القوى الخارجية عبر المقاومة المسلحة الى الخيار الجديد مع  الإرهاب أو ضده. ولأن المعركة ضد )الإرهاب الداعشي( عالمية فلم تعد هناك مكانة لقياسات النظم الحاكمة في المنطقة والعراق وسوريا بشكل خاص الى ما تقدمه تلك النظم من إنجازات لحماية المواطنين وحقوقهم في مختلف جوانب الحياة. لم تعد هناك مكانة لمطالب الحرية والديمقراطية أمام هيمنة الإيفاء بمتطلبات الحرب على داعش. وانتهت دورة الحكم )الأوبامي( دون إنجاز يذكر حتى على صعيد تنفيذ مشروع الحزب الديمقراطي الأمريكي في السياسة الخارجية. ولعوامل واستحقاقات داخلية أمريكية فقد هذا الحزب في انتخابات فرصته في الحكم أواخر عام 2016 ليتفاجأ الشعب الأمريكي والعالم باقتحام رجل الأعمال )دونالد ترامب( البيت الأبيض عبر مشروعه الانتخابي الاقتحامي الغامض والمحيّر للسياسيين الأمريكيين وسياسي العالم. كانت الومضة الكبيرة لتلك السياسة هي رفضه القطعي لكل الموروثات السياسية في التعاطي مع القضايا المحلية الأمريكية والسياسات الخارجية. ومنذ أسبوعه الأول في البيت الأبيض إتخذ إجراءات حادة على صعيد منظومة الأمن الأمريكي قوبلت بالرفض من المؤسسات القضائية مثل قضية منع مواطني دول )العراق سوريا. ليبيا الصومال. السودان.إيران. اليمن( من الدخول للولايات المتحدة. وتشابك الملف العراقي لدى ترامب بمسألة حملته ضد )إيران( ليبعث من جديد شعارات الحزب الجمهوري الاعلامية في مواجهة »محور الشر« الذي تشكل إيران أحد أعمدته. لكنه وجد نفسه أمام مأزق سياسي في التصادم ما بين حربه على »داعش« في العراق وحاجته الى مساندة ودعم حكومة العبادي الحالية حيث أطلق )ترامب( الكثير من الشعارات والعناوين المطمئنة لتمرير برنامج القضاء على داعش رغم ما يكتنفه ذلك من غموض للمشروع السياسي والعسكري الأمريكي في العراق لما بعد داعش. وكانت أنظار السياسيين العراقيين والمتابعين للشأن العراقي تتجه نحو كابينة البيت الأبيض الجدد وهم أولئك الصقور الأشداء الذين رافقوا حملة الاحتلال العسكري في إفغانسان والعراق. وتحّول الجنرالات العساكر الى قادة سياسيين وأمنيين يعبرون في تصريحاتهم ولقاءاتهم ومؤتمراتهم عن تفصيلات أولية للمشروع الأمريكي الجديد في العراق والمنطقة. في مقدمتهم الجنرال )ماتيس( الذي شارك في الحرب على العراق عام 2003 ومعارك الفلوجة. وجنرالات آخرين مثل )جون كيلي وهربرت ماكماستر ومايكل فلين الذي لم يصمد لأيام في منصبه كمستشار للأمن القومي الأمريكي(. هؤلاء المسؤولون الجدد هم أركان ترامب. وجميعهم لديهم مواقف واضحة ضد )الارهاب والاسلام السياسي( وضد إيران ومشروعها في المنطقة. وأخذوا ينشطون لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة والأهم من ذلك مشروع العودة للعراق بقوة لما بعد داعش.  وذلك عبر خطوات ذات طابع لوجستي عسكري مثل تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في العراق وزيادة أعداد قوات »النخبة« والتي تقدر أعدادها حاليا بـ»ستة آلاف« مقاتل أمريكي. وتقول التسريبات الكثيرة عن بناء قواعد عسكرية استراتيجية في منطقة )الرطبة العراقية( وعلى أطراف )الأنبار( إضافة الى ما تمتلكه الولايات المتحدة من قواعد في منطقة كردستان. ونقلت مصادر عن ضباط ومحللين قولهم أن وزير الدفاع الجنرال )ماتيس( سيبرر هذه الزيادة بضرورة تحريك استراتيجية بلاده العسكرية في العراق بعد الانتصار المتوقع الذي ستحققه القوات العراقية على تنظيم »داعش« في الموصل، ونظرا لاحتمال بروز تهديدات ومخاطر أمنية جديدة في العراق سواء من قبل هذا التنظيم نفسه او من قبل تنظيمات متفرعة عنه قد تنشأ بعد هزيمة التنظيم الأم، أو حتى من جماعات إرهابية أخرى. لقد سبق أن وقع العراق والولايات المتحدة نهاية أكتوبر/تشرين الثاني 2008، اتفاقية تعاون سميت بـ«اتفاقية الإطار الستراتيجي« إضافة إلى اتفاقية أمنية نصّت على وجوب انسحاب قوات الولايات المتحدة من جميع الأراضي والمياه والأجواء العراقية، في موعد لا يتعدى )الـ31 من كانون الأول 2011(، الأمر الذي تم بالفعل، لكن يبدو أن واشنطن باتت مقتنعة بأن خروجها من العراق في تلك الفترة وبشكل غير مدروس كان سببا في جعل العراق لقمة سائغة للإرهاب كما مكن ايران من احكام سيطرتها على مختلف مفاصل دولتها بوساطة أحزاب وتشكيلات أمنية تدين بالولاء الكامل لها.

وعلى هذا الأساس تبني واشنطن استراتيجيتها للعودة العسكرية إلى العراق وبقوة من أجل استدراك حالة ضعف موقفها هناك الذي خلفه انسحابها غير المدروس على حد وصف العديد من القادة العسكريين الاميركيين، في أكثر من مرة.

من دون شك هناك تحولات جدية في العراق والمنطقة ستعزز إدارة )نرامب( من خلالها الوجود العسكري المنتقى بعناية في العراق وسوريا لكي تهيئ المسرح السياسي للانتقال الى مرحلة تقاسم النفوذ. وبحصة أمريكية قوية. وقد انتهت مرحلة )أوباما( وبدأت مرحلة )ترامب( المؤمن بضرورة استعادة أمريكا لمكانتها في المنطقة وفي المقدمة العراق. وستعود نظرية تعزيز أدوات القوة لخدمة السياسة الأمريكية. لكن لا يتوقع أن يعيد ذلك مناخات نظرية »الفوضى الخلاقة« وإنما القوة »النظيفة« وذلك عبر مكافحة جدّية للتطرف السياسي ودحر وانحسار قوى مشروع »الاسلام السياسي« وتقليم أظافره في السلطات المحلية وخصوصا في العراق. ويتوقع أن تأخذ قوى المشروع الوطني العراقي الليبرالي مكانتها السياسية المرتقبة.