نظرية اللعبة والصراع الدولي

ا.د. مازن الرمضاني *

 منذ زمان تنتشر بين أصحاب الاختصاص العلمي المعروف عالميا بالصراع الدولي مقاربة علمية تتميز بتعدد مستويات تحليلها، ومن ثم تركيزها على دور كل من صانع القرار، والدولة، والنظام السياسي الدولي في اندلاع الصراعات الدولية وفضها. ولتفسير العلاقة بين صناع القرار خلال زمان الصراع الدائر بين دولتيهما، تم طرح مقاربة مهمة ذات مضامين رياضية بالآساس, هي نظرية اللعبة (Game Theory)

لغويا، يفيد مفهوم اللُعبة Game)) بكل ما يُلعب به مثل الشطرنج والنرد لأغراض التسلية أو اللهو أو الترفيه. ولا يتماهى هذا المفهوم اللغوي مع مفهوم نظرية اللعُبة, أو نظرية المباراة كما تسمى أيضا, سيما وإنها تنصرف الى دراسة حالة التفاعل الإستراتيجي بين لاعبين اثنين وأساسين في الاقل، يسعي كل منهما إلى تحقيق أعلى مردود ممكن لهما في بيئة تتميز بمعطيات الصراع، أو الصراع والتعاون، وذلك عبر توظيف كل منهما لإستراتيجية محددة حيال الثاني وبحصيلة نهائية لا يحددها مخرجاتها سلوك أحد اللاعبين فقط وإنما أنماط سلوكهم جميعا معا.

وبهذا، تهدف هذه النظرية، بالحصيلة، إلى وصف الكيفية، التي يتبناها كل لاعب لاختيار ذلك البديل، من بين مجموعة بدائل متاحة، ولاسيما الذي يحدد نمط سلوكه حيال سواه والذي يحقق له اعلى ربح ممكن واقل خسارة محتملة. ومن هنا تفترض هذه النظرية أن العقلانية هي التي تتحكم في هذا الاختيار والسلوك. وتبني خاصية العقلانية مرده أنها تمثل النموذج، الذي يجعلها أصلح للتوظيف العملي. وفضلا عما تقدم تنطوي هذه النظرية على بيان تلك العملية الذهنية، التي يفضي استخدامها إلى تحديد السلوك الأفضل حيال اللاعب الآخر (أي الخصم)، إضافة إلى استشراف سلوكه المحتمل سواء أثناء عملية التفاعل أو في المستقبل. وفي ضوء ما سبق، تجمع نظرية اللعُبة بين مضامين عملية تحديد البدائل واختيار أحدها وبين استشراف المستقبلات، ولاسيما على صعيد المستقبل القريب.

وتفيد آراء أن لهذه النظرية جذور تمتد إلى زمان طويل سابق على طرحها علميا ولأول مرة في عام 1944 من قبل عالم الرياضيات جون فون نويمان John von Neumann)) وعالم الاقتصاد اوسكار موركن شتيرن (Oskar Morgen Stern)، وذلك من خلال كتابهما المسمى بنظرية اللعبة والسلوك الاقتصادي                            .(Game Theory and   Economic Behaviour)   .وقد ساهم لأحقا عدد من العلماء في تطوير هذه النظرية، ومثالهم جون ناش John Nash)) الذي أدخل عليها ما عرف بتوازن ناش، وكذلك كان لتوماس شيلنك        (Thomas Schelling) تأثيره الملموس فيها عبر كتابه المهم والموسوم بإستراتيجية الصراع.

ومنذ تبنيها، وهذه النظرية تجد تطبيقا لها في حقول معرفية عديدة، منها مثلا علوم الاقتصاد، والفلسفة، والاحياء، والاجتماع، والعلاقات الدولية، وكذلك من قبل بعض القوات المسلحة.  ففي حقل السياسة (العلاقات) الدولية، مثلا، بدء توظيفها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي سبيلا لاستشراف مستقبلات التفاعلات الامريكية- السوفيتية خلال الحرب الباردة، وكذلك أضحت هذه اللعبة إحدى المقاربات المستخدمة لدراسة ظاهرة الصراع الدولي، ولاسيما من قبل دعاة النظرية الواقعية.

وعندنا تتأسس نظرية اللعُبة على أربع افتراضات أساسية:

  • فأما عن الافتراض الأول، فهو أن مخرجات هذه اللعُبة، ومن ثم حصيلتها النهائية، لا تتحدد على وفق مخرجات سلوك أحد اللاعبين فقط وإنما أيضا على وفق مخرجات سلوك اللاعب الآخر. ومن هنا تفترض هذه النظرية أن كل من اللاعبين يعمد إلى استشراف سلوك الطرف الآخر قبل إقدامه على الاخذ بفعل محدد حياله.
  • وأما الافتراض الثاني، فهو يكمن في العقلانية. أي أن سلوك أحد اللاعبين لا يُعد استجابة انفعاليه لسلوك الطرف الآخر، وإنما هي تعبير عن سلوك قائم على حساب الأرباح والخسائر لكافة البدائل المتاحة وترجيح البديل الملائم منها.
  • وأما الافتراض الثالث، فهو أن اللاعبين يتوافرون على المعلومات، التي تتيح لهم تحديد إستراتيجياتهم، ومن ثم تبني الموقف الملائم من اللاعب الخصم وتداعيات اللعبة.
  • وآما الافتراض الرابع، فهو أن كل لاعب من اللاعبين يتصرف إستراتيجيا على ذلك النحو الذي يحقق له أفضل مردود ممكن وأقل خسارة محتملة. ومن هنا تعتبر المنفعة هي المنطلق لهذه اللعُبة وغايتها النهائية.

وتتعدد الأمثلة التي يتم استخدامها للدلالة على نظرية اللعُبة. وتُعد معضلة السجناء Prisoners Dilemma) (من بين أكثرها استخداما وانتشارا. إذ تتأسس هذه المعضلة الافتراضية على ما يفيد أن شخصين قد تم اعتقالهما جراء قيامهما بجريمة السطو على أحد البنوك، وكذلك تم عزلهما عن بعض للحيلولة دون تواصلهما المباشر والتنسيق فيما بينهما. ولآن الشرطة لا تتوافر على أدلة كافية لمعاقبتهما، عمد المحقق معهما إلى طرح صفقة عليهما تتكون من ثلاثة بدائل، وأن كل من هذين  الشخصين  يتعين عليه اختيار أحد هذه البدائل, وأن نوعية  هذا الاختيار هي التي ستحدد نمط تعامل الشرطة معهم. والبدائل هي:

  • أولا، إن إقدام أحد السجناء فقط على الاعتراف بالجريمة سيؤدي إلى إطلاق سراحه. أما السجين الثاني فيصار إلى إيداعه السجن ولمدة أربع سنوات.
  • ثانيا، إن رفض كل من السجينين التعاون مع الشرطة، ومن ثم عدم الاعتراف بالجريمة. وفي هذه الحالة سيتم معاقبة كل منهما بالسجن لمدة سنتين أو إطلاق سراحهما معا.
  • ثالثا، إن قبول كل من السجينين التعاون مع الشرطة، ومن ثم الاعتراف بالجريمة، سيفضي إلى معاقبتهما بالسجن لمدة ثلاث سنوات لكل منهما.

وتفترض معضلة السجين ان البديل الثالث هو البديل الآمثل. وقد يصار إلى التساؤل: لماذا تم اختيار البديل الثالث، وليس الثاني، سيما وأن مدة العقوبة تجعل من هذا البديل هو الأفضل؟ ويكمن الجواب في أن عدم التواصل بين السجناء، ومن ثم عدم معرفة أحدهما بنوايا الآخر وما قد يقدم عليه، هي التي جعلت من اعتراف كل من السجينين هو البديل الامثل.

 لقد أدى نمو الاهتمام بنظرية اللعبُة إلى أن يتم ابتكار أنواع متعددة منها. ولأغراض التصنيف يتم الانطلاق من معايير متعددة. فمن حيث عدد اللاعبين، فهي تتم أما بين طرفين أو عدة أطراف. وأما من حيث الإستراتيجية المعتمدة، فاللعبة قد تكون ذات إستراتيجية نقيه أو مختلطة.  وأما من حيث طبيعة هذه الإستراتيجية، فاللعبة قد تكون ذات إستراتيجية محددة أو غير محددة. أما من حيث نوعية التعاون بين اللاعبين، فهي قد تكون لعُبة تعاونية أو لا تكون. وأما من حيث حصيلتها النهائية، فاللعُبة قد تكون صفرية أو لا صفرية. وعندنا يُعد هذا النوع الاخير من اللعُب أبرزها.

أولا، اللعُبة الصفرية

تُعبر اللعُبة الصفرية Zero-Sum-Game)) عن حالة خاصة من الألعاب تتميز بتزامن سعي أحد أطرافها إلى جعل أرباحه في حدها الأعلى الممكن مع سعي الطرف الآخر إلى جعل خسارته المحتملة في حدها الأدنى الممكن. بيد أن حصيلة مخرجات هذا السعي هي التي تفضي إلى أن تكون الأرباح التي يحققها أحد الأطراف لذاته مساوية للخسائر التي يتكبدها الطرف الآخر. أي، بعبارة اخرى، أن الربح يساوي الخسارة، ومن ثم تكون النتيجة النهائية صفر لذا يطلق عليها في إحيان بالمباراة ذات المجموع الصفري. ويمكن التعبير عن هذه اللعُبة رياضيا بالآتي (+1/ -1). ومثالها لعُب الشطرنج والبوكر.

ومرد خصوصية هذه اللعبُة يكمن في إنها من نمط اللعُب غير التعاونية (Non-Cooperative Game)، التي تنجم عن تناقض مصالح وأهداف اللاعبين، فضلا نقص المعلومات عن نواياهم ومحدودية الثقة المتبادلة فيما بينهم. لذا وعلى العكس، من اللعُبة التعاونية (Cooperative Game)، التي تتميز بخاصية أساسية مفادها التفاعل الإيجابي بين أطرافها تحقيقا لمصالح مشتركة، تتسم اللعبة الصفرية بعدم التواصل والتعاون بين اللاعبين، من ثم تصرف كل منهم بمعزل عن الآخر انطلاقا من إستراتيجيته الخاصة والهادفة إلى أما  تعظيم (Maximin) العائد النهائي المنشود جراء هذه اللعبُة, أو الى تقليل  (Minimax) هذا العائد إلى  حده الممكن ، علما أن في اللعُبة الصفرية يتم التمييز بين كيفية تحديد كل من هذين العائدين:

 فأما عن العائد الآول فيتم تحديده كالاتي:

  • تحديد أدنى (Min) الأرباح الناجمة عن كل من البدائل المتاحة.
  • اختيار أعلى (Max) ربح من بين أدنى الأرباح التي تفرزها الخطوة الأولى.
  • تحديد الإستراتيجية، التي تتماهى مع البديل الأعلى الأرباح، ومن ثم اتخاذها كأساس للتعامل مع اللاعب الآخر.

وعليه، تعني إستراتيجية (Maximin) تحديد أعلى الأرباح في سلم أدنى الأرباح للبدائل المتاحة. ومن هذه الإستراتيجية قد تتفرع إستراتيجية اخرى قوامها سعي أحد اللاعبين إلى تحقيق (Maximax)، أي اختيار البديل الذي يفضي إلى تحقيق الحد الأعلى من العائد له وبغض النظر عن الكلفة، وبضمنه تقليص العائد الأعلى للخصم.

وأما عن الثاني (Minimax)، فهو يفيد بالسلوك الرامي إلى تقليص الحد الأعلى من الخسارة المحتملة .ويتم تحديد هذا السلوك كالآتي:

  • تحديد أعلى Max)) الخسائر الناجمة عن كل من البدائل المتاحة.
  • اختيار أقلMin)) الخسائر من حيث القيمة من بين البدائل أعلاه.
  • تحديد الإستراتيجية التي تحقق الخسارة الاقل، ومن ثم اعتمادها سبيلا للتعامل مع اللاعب الآخر

وعلى العكس من نمط السلوك الأول أعلاه، يُقصد ب (Minimax) السعي الرامي إلى تحديد أقل الخسائر الممكنة.

وعادة تكون اللعُبة الصفرية، على صعيد السياسة الدولية، لصيقة بواقع الصراع بين دولتين. وتفيد تجارب الصراع الدولي عبر الزمان أن العديد منها كان قد أقترن بها. ولنتذكر مثلا حصيلة الصراعات/ الحروب/ الإسرائيلية- العربية.

ثانيا، اللعبُة غير الصفرية

تكون اللعُبة غير صفرية Non-Zero-Sum-Game)) عندما لا يعني الربح، الذي يحققه أحد اللاعبين لذاته، بالضرورة الخسارة الصافية لثمة لاعب آخر، وإنما الكل يربح ويخسر في أن واحد، ولكن بنسب مختلفة كآن يربح أحدهم ما يساوي 75% والآخر ما يساوي 25%. وكما أن الواقع الإنساني ينطوي على أمثلة تؤكد هذه اللعُبة، كذلك هي لصيقة أيضا بواقع والتعاون، والصراع، بين ثمة دولتين، ومن ثم تُعد من اللعُب التعاونية التي يؤدي إدراك اللاعبون أن عدم تعاونهم يفضي إلى خسارتهم جميعا. وتعبر معضلة الدجاجة (Chicken Dilemma)، أو إشكالية الجبان كما تسمى أيضا، عن مضمون هذا النوع من اللعُب.

تفترض هذه الإشكالية، المستمدة أصلا من لعُبة رياضية كان يمارسها مراهقون أمريكيون في الخمسينيات من القرن الماضي، وجود مباراة بين شخصين يقود كل منهما عربة على طريق يتسع لعربة واحدة فقط، وأن كل منهما يقف على إحدى طرفي هذا الطريق، وكل ما هو مطلوب منهما هو الوصول وبأقصى سرعة ممكنة إلى الطرف الآخر من الطريق. ويترتب عن المطلوب الخيار بين ثلاثة بدائل من قبل كل منهما:

  • الأول هو أن يتراجع أحدهما، ويسمى بالدجاجة آو الجبان، ويكون خاسرا بالحد الأعلى مقابل ربح الثاني وبالحد الأعلى.
  • آما البديل الثاني فهو ان يتراجع كلاهما ويربحان بالحد الأعلى.
  • آما البديل الثالث فهو أن يتقدم كلاهما باتجاه الآخر حيث يتم تصادمهما، ووفاتهما. وفي هذه الحالة تكون خسارتهما معا بحدها الأعلى.

وغني عن القول ان البديل الثاني هو الامثل لآنه يحقق لكل من الطرفين الربح بحده الأعلى.

وتتعدد الأمثلة على هذه المعضلة في السياسة الدولية. ومنها مثلا سباق التسلح بين دولتين حيث يفضي هذا السباق إلى ثلاثة بدائل ذات مخرجات مختلفة : فهما، أولا، قد تسعيان إلى الاستمرار فيه ومن ثم تصعيد صراعهما. وثانيا، قد يتفقان على الحد منه ويمهدان السبيل لفض صراعهما. وثالثا، استمرار إحدى الدولتين في التسلح مقابل امتناع الثانية عنه وبحصيلة تفضي إلى حدوث خلل في توازن القوى بين هاتين الدولتين لصالح الأولى. وغني عن القول إن اختيار أحد هذه البدائل يتوقف على طبيعة علاقة الصراع السائدة بين الدولتين, ومدى استعدادهما لقضه.

وقد تم تطبيق مضمون هذه اللعبُة على الازمة الكوبية عام 1962 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، التي اندلعت جراء زرع صواريخ سوفيتية في كوبا. ففض هذه الازمة كان أنموذجا للعبُة غير الصفرية. فذهاب كل من الدولتين إلى الآخذ بالبديل الثاني (التعاون) رتب ربحهما معا والعالم أجمع. إذ تم تجنب اندلاع حرب نووية بينهما ذات ابعاد عالمية. وكذلك من المحتمل، وبأرجحية عالية. ان تكون اللعبة غير الصفرية , وعبر المفاوضات, هي المدخل المناسب لفض الحرب في أوكرانيا، سيما أن الاخذ بمضمون اللعبة الصفرية لا يخدم المصالح العليا للأطراف الدولية المتحاربة بالوكالة في أوكرانيا. فالولايات المتحدة الأمريكية لن تقبل بالخسارة، لان هذه تعني رفد عملية تأكل قدرتها على قيادة النظام السياسي الدولي بمدخل مهم مضاف. والشيء ذاته ينسحب على روسيا الاتحادية. فقبولها بالخسارة يعني القبول بتعريض الآمن، ومن ثم الكيان، القومي الروسي لتهديد جدي. هذا فضلا عن القبول بتحولها من قوة مؤثرة في حصيلة التفاعلات الدولية إلى مجرد قوة كبرى ذات تأثير محدود.

ولنوعية هذه الخسارة، يضحى التعاون الذي تفيد به مضمون اللعبة غير الصفرية هو المدخل لتحقيق المصالح الامريكية والروسية المنشودة في أوكرانيا وكذلك من خلالها. فإضافة إلى الربح المشترك المتمثل في تجنب تلك التفاعلات التي قد تؤدي إلى الانغماس في صراع مباشر بين الدولتين واحتمالاته السلبية، تفضي هذه اللعبة بالولايات المتحدة الأمريكية ليس فقط ,مثلا ,إلى تأمين انسياق الدول الحليفة لها في اوربا واسيا وراء استراتيجيتها العليا, وإنما أيضا تعطيل عملية تشكل النظام الدولي متعدد الأقطاب لزمان مضاف. أما روسيا الاتحادية، فاللعبة غير الصفرية تتيح لها، مثلا, الغاء الاستنزاف العملي الناجم عن الحرب لقدراتها، فضلا عن التمهيد لتحقيق أهدافها المنشودة حيال دول اوربا الشرقية, ناهيك عن دعم دورها الدولي كأحد القوى المؤهلة لقيادة للنظام الدولي متعدد الأقطاب.

  • أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات