أزمة خور عبد الله تكشف عن تاريخ طويل من الخلافات بين الجارتين العربيتين

ما بين خبرات قديمة سيئة وبيئة إقليمية متوترة.. مخاوف من عودة التوتر بين الكويت والعراق

تسبب حكم المحكمة العراقية الفيدرالية العليا بإبطال اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله مع الكويت في إثارة المخاوف الإقليمية والدولية من عودة التوتر وتجدد الخلافات بين الشقيقتين العربيتين والجارتين الخليجيتين، خاصة وأن الحكم يأتي بعد فترة من الهدوء النسبي في العلاقات الثنائية وفي ظل محاولات رأب الصدع بين الطرفين وإزالة ما أحدثه الغزو العراقي للكويت من آثار عميقة وجروح في الجسد العربي لم تندمل بعد. يعود هذا الموضوع إلى قرار أصدره مجلس الأمن عام 1993 وصادقت عليه العراق والكويت عام 2013 ويرجع من جديد ليتصدر الأحداث العربية اليوم ويشعل خلافا حدوديا بين البلدين بعد أن خرجت المحكمة الفيدرالية العليا بالعراق بإصدار الحكم بعدم دستورية قانون تصديق الملاحة البحرية في الخور محل النزاع.

يقع الخور بين جزيرتي بوبيان ووربة الكويتين وشبه جزيرة الفاو العراقية، وهو ممر ملاحي يعد الوحيد من وإلى البصرة ويتصل بالساحل العراقي عبر خور الزبير ويقع على ضفتيه أهم موانئ البلدين وهما ميناء الفاو العراقي وميناء مبارك الكبير الكويتي. وتثور نقطة الخلاف الكبير بين الطرفين حول المنطقة الواقعة بعد العلامة 162 لاسيما بعد الخلاف العلني حول منطقة فشت العيج التي تقول الكويت أنها تقع داخل مياهها الإقليمية بينما يرى العراق أنها موجودة على حدود بحرية لم يتم الإتفاق على تبعيتها  بعد. وفي أغسطس عام 2019 وجه العراق شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة اعترض فيها على إنشاء الكويت منصة بحرية في فشت العيج وهي مساحة من الأرض تقع بعد النقطة 162، ثم عاد الخلاف مجددا في سبتمبر 2020 مع تقدم 100 نائب في البرلمان العراقي بطلب إلى الحكومة بإلغاء الاتفاقية مع الكويت قائلين أنها تؤثر على مشروع ميناء الفاو الكبير الذي يسعى العراق لإنشائه بسبب ضيق القناة المائية الخاصة بالجانب العراقي في خور عبد الله. وتعد المنطقة البحرية الموجودة بعد النقطة 162 بحرا إقليميا لاتزال غير مرسمة بين العراق والكويت حتى الآن.

تاريخ الخلافات الحدودية بين العراق والكويت

بسبب الخلافات الحدودية، مرت العلاقات الكويتية العراقية بالعديد من المواقف والمحطات التاريخية المفصلية وشابها في أحيان كثيرة توترات وخلافات خطيرة انتهت بصدامات أشعلت حروبا كارثية بالمنطقة، كان الشعبان العراقي والكويتي هما الخاسر الأكبر فيها.

في دراسة تاريخية للأكاديمي العراقي الدكتور حسن جريو اتضح أن قضية ترسيم الحدود بين الكويت والعراق ذات بعد تاريخي يرجع إلى بدايات القرن الماضي عندما تم أول ترسيم للحدود بين الكويت والدولة العثمانية عام 1913 بموجب المعاهدة البريطانية -العثمانية التي نصت المادة السابعة منها على أن يبدأ خط إشارات الحدود من مدخل خور الزبير في الشمال ويمر مباشرة إلى جنوب أم قصر وصفوان وجبل سنام حتى وادي الباطن وأن تكون تبعية جزر بوبيان ووربة وفيلكا وقاروه ومسكان للكويت. وبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى احتلت بريطانيا الأراضي العثمانية في العراق. وفي نيسان عام 1923 طالب أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح بأن تكون حدود الكويت هي ذاتها التي كانت في عهد العثمانيين وجاء رد المندوب السامي بالعراق السير بيرسي كوكس باعتراف الحكومة البريطانية بهذه الحدود. ويقول الأكاديمي العراقي أن بريطانيا تعمدت تصغير ميناء العراق على الخليج آنذاك لكي لا تهدد أي حكومة عراقية مستقبلية نفوذها وسيطرتها على الخليج. وفي عام 1932 اعترف رئيس وزراء العراق نوري سعيد بالحدود بين الكويت والعراق، إلا أن الأخيرة عادت وطالبت بضم الكويت عام 1939 في عهد الملك غازي، وهو ما لم تسمح به بريطانيا حيث كانت الكويت تحت حمايتها. وعندما أعلنت بريطانيا عن نيتها منح الكويت صفة الدولة المستقلة عام 1961، تجدد طلب العراق في عهد رئيس وزرائها عبد الكريم قاسم بضم الكويت باعتبارها تابعة لمحافظة البصرة ضمن تشكيلات العراق الإدارية زمن الحقبة العثمانية، وهو ما عارضته ورفضته كل من بريطانيا وجامعة الدول العربية. وعندما تولى حزب البعث الحكم عام 1963 اعترف العراق بالكويت التي حاولت كثيرا مع الحكومات العراقية المتعاقبة خلال عقد الستينيات من القرن الماضي ترسيم الحدود مع جارتها، لكن دون جدوى بسبب اضطراب الأوضاع السياسية في العراق. وعلى الرغم من حالة الاستقرار النسبي التي سادت في علاقة البلدين حتى عام 1990 إلا أنه كانت هناك أزمات تخللت تلك الفترة خاصة في مارس عام 1973 عندما قامت القوات العراقية بالهجوم على مركز الصامتة الحدودي التابع للكويت وتوغلها لمسافة ثلاثة كيلو مترات داخل الأراضي الكويتية.

ويقول جريو أن الكويت حاولت استغلال أزمة العراق الاقتصادية بعد حربها مع إيران، للضغط على العراقيين لترسيم الحدود أسوة بما فعلوه مع السعودية والأردن، لكن المحاولات فشلت برفض العراق مما دفع الكويت لاستخدام الأسلحة الاقتصادية والمطالبة بالديون لتحقيق مزيد من الضغط. وفي تلك الأثناء وقعت الطامة الكبرى التي شهدها عام 1990 وهي قيام صدام حسين باحتلال الكويت وهوالأمر الذي تسبب في حدوث شرخ كبير في الكيان العربي ووقوع تغييرات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط في ظل الهيمنة الامريكية وظهور نظام دولي جديد.

في عام 1991 شن الحلفاء حربا لتحرير الكويت، وهو ما أعقبه تشكيل مجلس الأمن الدولي لجنة لترسيم الحدود بين البلدين وموافقة العراق على الالتزام بقرارات تلك اللجنة. وفي عام 1993 صدر قرار مجلس الأمن رقم ( 833 ) الذي نص على ترسيم الحدود بين العراق والكويت. وكانت اتفاقية خور عبد الله لتنظيم الملاحة بالمنطقة نتيجة لهذا الاتفاق، والتي تم التصديق عليها في العراق عام 2013. وقد جاءت الاتفاقية بعد سنوات طويلة من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين حتى سقوط نظام صدام حسين نتيجة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث سعى البلدان إلى تجاوز المرحلة السابقة ومعالجة الملفات المشتركة وكان على رأسها ملف الحدود البحرية.

التطورات الأخيرة وصولا لحكم المحكمة العراقية!

في خطوة مفاجئة أثارت الدهشة والقلق، أصدرت المحكمة الإتحادية العراقية العليا خلال شهر سبتمبر الماضي، حكما قضائيا يقضي بعدم دستورية قانون التصديق على اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية وذلك بعد مرور عشر سنوات على توقيعها. واستند حكم المحكمة إلى وجود مخالفة لأحكام المادة (61) من الدستور العراقي التي تشترط الموافقة بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب كي تتم المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية وهو ما لم يحدث وقتها حيث تمت الموافقة بأغلبية الحضور.

ولا شك أن بروز هذه القضية على السطح من جديد يثير مخاوف وقلق الطرف الكويتي على الحقوق المائية المرتبطة باستخدام هذا الممر المائي الصغير، والمترتبة على تلك الاتفاقية محل الجدل القانوني حاليا. كما يثور القلق من توابع اشتعال الخلافات من جديد بين دولتين قامت بينهما حرب بسبب محاولة أحدهما الاستيلاء على الأخرى، مما يجعل هناك حساسية شديدة بين الطرفين في حالة حدوث تغييرات مرتبطة بمسالة الحدود وترسيمها، ويهدد الاستقرار بالمنطقة.

يضاف إلى ذلك أن التطورات الأخيرة تثير التساؤلات حول سبب إثارة القضية واللجوء لاستصدار حكم من المحكمة الفيدرالية العليا بالعراق لإلغاء الاتفاقية في هذا التوقيت بالذات وبعد مرور عشر سنوات على تنفيذها؟!

على الرغم من تحلي الطرف الكويتي بالعقلانية في مواجهة الحكم العراقي، واتباع الطرق القانونية والدبلوماسية في التعامل مع الأزمة، إلا أن خبراء ومحللين وبرلمانيين كويتيين أعربوا عن غضبهم واستيائهم من هذا الحكم، خاصة وأنه يأتي في أعقاب أحداث توترات متكررة منها سابقة اضطرت وزارة الداخلية في الكويت بتوجيه تعليمات أمنية مباشرة إلى كبار قيادات وزارة الداخلية في البلاد برفع مستوى جاهزية خفر السواحل للدرجة القصوى وذلك في مايو 2022 بعد دخول عدد من الزوارق العراقية المياه الإقليمية الكويتية، الأمر الذي تزامن مع وجود مطالبات من بعض الشخصيات العراقية آنذاك ومنهم عضو البرلمان العراقي عن محافظة البصرة النائب علاء الحيدري بنشر قوات من الحشد الشعبي في خور عبد الله ، بحسب ما ذكر الموقع الرسمي لمركز الفكر الاستراتيجي، ولم يصدر أي موقف رسمي عراقي تجاه هذه التصريحات. وفي دراسة تحديد موقف للمركز كشفت عن أن الخلاف الكويتي العراقي حول الحدود البحرية ظل مستمرا حتى بعد توقيع اتفاقية الخور والتي لم تنفذ بشكل جدي وفقا للدراسة المذكورة. فقد تقدمت كل من الدولتين العربيتين بشكاوى بشكل متقطع إلى الأمم المتحدة تتعلق بقضية حدودهما البحرية منها شكوى عام 2019 وأخرى عام 2020.

تدخلات إيرانية

ولايزال ملف الحدود البحرية الشائك بين العراق والكويت مثيرا للخلافات، خاصة مع تداخل المياه الإقليمية للدول المتشاطئة شمال الخليج العربي والذي أدى إلى زيادة عقبات ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، سيما مع إصرار العراق على ضمان منفذ مائي على ساحل الخليج العربي يتناسب مع حاجاته الاقتصادية والاستثمارية، وهو المنفذ المتصل بشكل أساسي بالمياه الإقليمية للدول المتشاطئة.

كما تزداد المسألة تعقيدا بسبب تشابك الملف الشائك مع مصالح جيوستراتيجية في منطقة الخليج العربي أدت إلى تدخل أطراف أخرى غير عربية بالموضوع ومنها إيران التي بدا تأثيرها الكبير في القرار السياسي العراقي بما في ذلك ما يتعلق بالخلاف الأخير مع الكويت. ويؤكد هذا الكلام عضو مجلس الأمة الكويتي السابق ناصر الدويلة المحامي لدى المحكمة الدستورية والتمييز بالكويت والذي قال في مداخلة خاصة للحصاد: إن الذي يحرك مسألة الخور حاليا المخابرات الإيرانية وهي التي تدور في فلكها وذلك للضغط على الكويت في مسألة حقل الدرة. وحول آثار هذاالخلاف على علاقة البلدين أكد الدويلة أنها على المدى الطويل لن تؤثر في العلاقات الكويتية العراقية لكنها ستجعل الكويت أكثر حذرا في العلاقة والاستثمار، أما على المدى القصير فيرى أن هناك أسبابا لتصعيد الأزمه وكلها خارجية لا علاقة لها بالكويت ولا العراق. وأضاف البرلماني الكويتي السابق للحصاد: أن الاتفاقية الخاصة بمنطقة خور عبد الله تستند إلى قرار دولي صادر من مجلس الأمن أي أنها ذات مرجعية دولية، وفيما يتعلق بالملاحة في هذا المرفق الحيوي فهي مستمرة منذ إنشاء ميناء أم قصر نهاية الخمسينيات ولم تتأثر أو تتعطل كما أنها لم تكن محل ضغط أو ابتزاز من أحد.

وفي المقابل يرى العراقيون أنهم يتصرفون وفقا لحقوقهم القانونية وأن الكلمة العليا للأحكام الدستورية في بلادهم، ومن هذا المنطلق يقول الدكتور حيدر الجشمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد، في مداخلة خاصة للحصاد: أرى ان قرار المحكمة الاتحادية العراقية بشان قضية خور عبد الله كان دستوريا بمعنى أن المحكمة رأت أن قانون التصديق على الاتفاقية مخالف لأحكام المادة 61 / رابعاً من دستور جمهورية العراق لعام 2005، وبالتالي هي التي قضت بعدم دستورية قانون التصديق على الاتفاقية، وذلك دون أن تخوض في المجال الفني لهذه الاتفاقية وأن الدافع الرئيسي للحكم بعدم الدستورية تنفيذا لما أوجبه البند الرابع من تنظيم لعملية المصادقة على الاتفاقيات الدولية بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب. وحول سبب صدور مثل هذا الحكم بشكل مفاجئ بعد سنوات من تنفيذ الاتفاقية المطعون عليها، أكد أن المحكمة الاتحادية العليا لا تبت بقرار إلا في حال الطعن فيه ولم يطعن قبل ذلك بالاتفاقية. وأضاف الجشمي أن قرار المحكمة بخصوص اتفاقية خور عبد الله سوف تكون له تأثيراته بشكل أو بآخر على العلاقات الكويتية العراقية لكنه لن يكون مباشر إنما ينعكس في المستقبل.

خبرات قديمة سيئة وبيئة متوترة

حول الملابسات التي تحيط بالتحولات الأخيرة في الموقف العراقي من اتفاقية خور عبد الله وسبب إثارة القضية من جديد في هذا التوقيت ترى الدكتورة نيفين مسعد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن تلك الأحداث تأتى فى ظل بيئة قلقة تتسم بها منطقتنا العربية بحكم تماسها مع الشرق الأوسط بتعقيداته المختلفة وتروج فيها الشائعات التي تعكر الصفو وتبث التوتر. وقالت “مسعد” في مداخلة خاصة للحصاد أن الموضوع ليس فقط “عراق وكويت” وإنما يرتبط بما يحدث من انتشار للشائعات ومحاولة تسخين العراق على جيرانه لدرجة اتهامه بالتفريط في جزء من أرضه للكويت وكذلك بجزء من أرضه لإيران. وكلتا الدولتين الكويت وإيران توجد حساسية شديدة لهما لدى الشعب العراقي نتيجة الخبرات القديمة السيئة والتي تتمثل في وجود حرب مع كل منهما. ولاشك أن هناك خلفيات وأساس لإثارة هذا الموضوع في الوقت الحالي وأهمها المناخ العام سواء الداخلي أو الإقليمي والدولي. فقد انتشرت ظاهرة ترويج الشائعات بشكل خطير في العراق كما حدث عند الزعم بأن الخارجية العراقية تنازَلَت عن مدينة أم قصر للكويت، استنادا إلى توجيه وزير خارجية الكويت الشكر لنظيره العراقى على تعاونه فى إزالة منازل العراقيين المقيمين فى أم قصر، في حين كانت الحقيقة أن الإخلاء تم فقط من المنطقة الحدودية التى تفصل بين الدولتين وفقا لقرار مجلس الأمن رقم ٨٣٣ الصادر فى ١٩٩٣، بموافقة مجلس قيادة الثورة العراقى فى ١٩٩٤. وسرعان ما تم استغلال هذه الشائعة في الدعوة لمراجعة ترسيم الحدود البرية بين الدولتين على أساس أن قرار الترسيم تمّ فى ظروف كان العراق فيها فى موقف ضعف ولا يملك قراره ويبدو المشهد كأن هناك رغبة كامنة وتصميم على تفجير الموقف بين الجارتين في مثل هذا التوقيت الحرج ومن ثم تتجدد الخلافات وتشتعل الأمور. وتختم الدكتورة نيفين مسعد بالتحذير من خطورة الخلافات والصدامات خاصة في مثل هذا الوقت والتأكيد على ضرورة معالجة الموقف بالحكمة والعقلانية الرشيدة بعيدا عن نبرات الغضب الحادة في كلا الطرفين واللجوء للدبلوماسية الهادئة ضمانا لاستقرار المنطقة وحفاظا على مصالح الشعبين.