عهد التميمي.. رمز للثورة الفلسطينية التي لاتنطفئ

الثورات أيضا مراحل وحقب تتلاحق وتتطور بالأجيال الصاعدة

آن للأجيال الجديدة أن تقتحم ميادين المعركة وترفع رايات المستقبل

لندن أمين الغفاري

عهد التميمي الشابة الفلسطينية أبنة السابعة عشر.. هي رمز أكثر منه انسانا، ومعنى أعمق منه موقف، وثورة تتجدد، وليست مجرد انتفاضة تتكرر. عهد التميمي.. اعلان مبكر عن ثورة جديدة ومجيدة تتكون وتتشكل على الأرض المقدسة، أكثر اقتحاما وأشد شراسة تتألف وتتجمع وتعد نفسها لأنطلاقة أخرى للثورة الفلسطينية الخلاقة، تتخطى بها مرحلة تاريخية، لتبدأ مرحلة أخرى لأسترداد الأرض، وأستعادة الحق. ليت جولدا مائير رئيسة الوزراء ألأسرائيلية كانت على قيد الحياة لترى بعينها كذب مقولتها الشهيرة )ليست هناك قضية فلسطينية فالكبار يموتون والصغار ينسون(. الصغار لم ينسوا، ليس لأنهم عانوا فقط وليس لأنهم شاهدوا فحسب، ولكن لأنهم عايشوا يوما بعد يوم الأستبداد والغطرسة، والسلب والنهب، وأغتصاب الأرض، والتهجير من المساكن، واتلاف الزرع وتخريب الحقول. عايشوا اقتحام الجنود بالسلاح، وانتهاك حرمة البيوت، واستخدام العنف في أقسى صوره، وأبلغ معانيه. هكذا تفتحت عيون الأطفال على الحياة، جنود يحملون الأسلحة، ومستوطنون أيضا يحملون الأسلحة. الملابس العسكرية والملابس المدنية على التوالي، لافرق فكلهم مدججون سواء بالأسلحة النارية، أوبالأسلحة البيضاء، والهدف واحد هو اغتيال الفلسطيني وهدر دمه رجلا كان أو امرأة أو حتى طفلا. هكذا الأحتلال الأستيطاني العنصري. عهد التميمي ليست أسطورة للجرأة، وليست عنوانا للتضحية وأنكار الذات، حتى وان كان ذلك هو أحد سماتها ومفتاح شخصيتها، ولكنها في المقام الأول بنت التجربة الحية، والمأساة العالمية لسرقة الأوطان، والحرمان من أبسط حقوق الحياة، وهي الأمن والطمأنينة. عهد التميمي لم تولد من رحم امرأة بقدر ماولدت من رحم تجربة مرة، وسنوات عجاف، وآمال تتبدد، ويأس من تجار المساومات. عهد التميمي شابة في ربيع العمر بقياس عدد سنوات الميلاد، ولكنها شابة عجوز بفعل سنوات القهر للفلسطينيين وعذابات المخيمات، والمذابح الجماعية. عهد التميمي تنتمي لأجيال جديدة أدركت كذب الوعود، وعبثية المفاوضات، ومساومات السياسيين، وسرقة الزمن، وانهيارات الثقة في ما تحمله الأيام. عهد التميمي ابنة شرعية لنكبة فلسطين، نشأت وترعرعت على جمر النار، واكتوت بحرائق الأرض، وضباب المستقبل. عهد التميمي يجري في عروقها دم ينصهر من نار الثأر، ويحترق بوجع الوطن. والصفعة التي حاولت طبعها على وجه الجندي الأسرائيلي ليست سوى انذار تدق به أجراس الغضب، وياويل من يتصدى لبراكين الغضب حين تنفجر بعد عقود من الغليان.

عهد التميمي.. التمرد المبكر

عهد التميمي نموذج صارخ للجيل الصاعد على الأرض الفلسطينية، وجرأتها بالقياس الى المعاناة الشعبية لاتعد استثناء يستوجب الملاحظة، بل انه التطور الطبيعي للنضال الشعبي عموما، ولحركة الشباب خصوصا. لقد سقطت الرهبة من مواجهة السلاح، وزال الخوف من استخدام العنف، ولم تعد هناك اي حسابات للخسارة في التصدي للأرهاب الصهيوني، فالمواجهة الحقيقية وجها لوجه أصبحت هي القانون الحاكم بل والتصرف الأمثل، ودعونا نشاهد الصبية الصغيرة عهد التميمي حين ظهرت لأول مرة في فيديو أصبح منتشرا الآن، وقبل عدة سنوات وبالتحديد عام 2012 وكانت في الحادية عشر من العمر وهي تتصدى للجنود الصهاينة الذين اعتدوا على والدتها السيدة ناريمان التميمي وكانت بصحبتها في مسيرة سلمية احتجاجا على الأنشطة الأستيطانية في قريتهم »النبي الصالح« في شهر اغسطس عام 2012، ثم أخذت تتوعد هؤلاء الجنود باشارات يديها.

من هي عهد التميمي ؟

عهد من مواليد 30 مارس عام 2001 في قرية النبي الصالح وتقع غرب منطقة )رام الله(. شاركت عهد في المسيرات السلمية مع أسرتها منذ ان كانت في الرابعة من عمرها، ولذلك فهي متمرسة ولها تجربة في تلك المسيرات، وترى ان التواصل فيها هو أبسط السبل، لأنها تسجل المعارضة للسياسات الأسرائيلية وتحفز أبناء شعبها على مواصلة النضال واستمراره، ولاتكتفي عهد بذلك بل تتضامن مع ابناء قريتها في مسيرة تحدد لها يوم الجمعة من كل اسبوع ترفع شعار )أخرجوا من أرضنا.. فهذه الأرض ليست ملكا لكم(. حين نطل على أسرة عهد نرى بوضوح البيئة الحاضنة لهذه الكبرياء الشامخة وذلك التمرد النبيل الذي يقطر عزة وكرامة،

فالأب )باسم التميمي( من مواليد 30 مارس عام 1967 في نفس القرية )النبي الصالح( درس الأقتصاد في جامعة )بير زيت( الشهيرة في رام الله، ثم حصل على الماجستير في القانون الدولي من جامعة برشلونة في اسبانيا، وللأب ماض نضالي بطبيعة الحال فقد سبق ان اعتقلته القوات الأسرائيلية لأول مرة عام 1988 أثناء انتفاضة الأقصى الشهيرة، ثم أعيد اعتقاله للمرة الثانية عام 1993، وتعرض في ذلك الأعتقال الى تعذيب بشع ترك آثاره على الجسد المرهق نتج عنها شلل نصفي في قدمه ويده.

الأم )ناريمان التميمي( من مواليد السعودية عام 1977 حاصلة على شهادة الثانوية العامة من مدينة )رام الله( يلعب الأعتقال دورا في حياتها فقد اعتقلت أكثر من خمس مرات، وتعرضت أيضا للمهانة في سجون الأعتقال على ايدي الصهاينة من خلال الضرب المبرح وذلك ردا على توثيقها بالكاميرا لجرائم الأحتلال في القرية التي يقيمون فيها

وللأسرة ثلاثة ابناء ذكور هم وعد وحمد وسلام وابنة واحدة هي )عهد(.

يجدر بنا ان نسجل أن الأب والأم عضوان عاملان في )لجنة المقاومة الشعبية ضد الجداروالأستيطان( وهي جمعية قد تأسست عام )2009( لتنظيم أنشطة وفعاليات ضد ألأحتلال الأسرائيلي ونشاطاته في القرية محل اقامتهم.

الـمحــاكــمـــة

اعتقلت القوات الأسرائلية عهد التميمي فجر يوم الثلاثاء 19 ديسمبر الماضي بعد ان تم انتشار شريط الفيديو الذي تقوم فيه بطرد جنديين اسرائيليين من ساحة منزلهم في قرية النبي صالح، وتشاهد فيه تركل احد الجنود بقدمها ثم لاتكتفي بذلك بل تحاول صفع وجهه من دون أن تصله، مما أثار غضب المتطرفين في اسرائيل، واعتبروها اهانة لجيشهم الذي تعودوا على وصفه بأنه )الجيش الذي لايقهر(

وقفت ابنة السابعة عشر في قاعة المحكمة العسكرية وقد قُيّدت يداها بالسلاسل، وان كانت كل خلجاتها تنبض بالحرية، فالنفس تمتلئ كبرياء يحرر وطنا، حتى وان كان الجسد تلفه الأغلال. وبالرغم من المناخ العسكري الذي يلف المكان فالقضاة باللباس العسكري والحراس بطبيعة الحال بلباس الشرطة

، الا ان عهد كانت رابطة الجأش لاتهتز ولاتضطرب، وتقف بكامل براءتها وطهرها لتستمع الى المدعي العسكري الأسرائيلي وهو يقذف باتهاماته )انها فتاة خطيرة ولدينا ملف سرّي لنشاطاتها( وتستقبل عهد الكلمات وابتسامة ساخرة ترتسم على الوجه البرئ، وتلتقي عيناها بعيني الأب الجالس يترقب وينصت، ومشاعرمختلطة تغمر وجدانه بين الفخر والأعتزاز بموقف صغيرته، وبين خوفه عليها واشفاقه من مرارة السجن وسوء المعاملة، وله في ذلك تجارب. يقترب الأب منها ويقول لها في همس )ابتسمي دائما وافردي شعرك فقد كان شعرها ملبدا لم يمشط – كيف لها ان تعثر على مشط ! -.. كوني أنت كما كنت دائما قوية لاتعرف الخوف أو الرهبة.. أنت رمز للجيل الجديد من الفلسطينيين الباحثين على الحرية، ان جيلنا انتهى أمره وأنتم حملة الراية( تتسع ابتسامة عهد قبل ان ينتبه لهما الحراس فينهروهما ويمنعونهما من مواصلة الهمس. الأم لم تحضر للمحكمة لأنه قد تم اعتقالها في اليوم ذاته عندما حاولت ان تزور عهد في موقع الاعتقال، ولمزيد من تعذيب الأسرة فقد تم اعتقال الأم في موقع آخر عن اعتقال الأبنة لأستحالة التواصل بينهما. قاعة المحكمة تعج بالمحامين منهم محامون فلسطينيون من الداخل حملة الهوية الاسرائيلية ومنهم ايضا محامون يهود، ويجدر ان نشير الى ان السيد سامح عاشور )رئيس اتحاد المحامين العرب( قد أصدر تكليفا بقيام لجنة من المحامين باسم )اتحاد المحامين العرب( للدفاع عن عهد التميمي. طلبت المحامية الاسرائيلية )غابي لاسكي( التي تعمل لدى مركز »بتسليم« لحقوق الانسان من القاضية العسكرية ان تفرج فورا عن الطفلة لأن« الأمر معها لايستدعي توجيه قوات كبيرة من الجيش« 20 دورية أمنية » الى بيتها بعد منتصف الليل من أجل اعتقالها، وتضيف ان الامر لم يكن يستدعي كل تلك الاجراءات، كان يسيرا استدعاءها الى مركز الشرطة والتحقيق معها واعادتها مرة اخرى الى البيت وفي حالة وجود ما يستدعي احالتها للقضاء كان يمكن مرة اخرى استدعاؤها الى المحكمة، واذا تمت ادانتها يمكن سجنها، ولكن ماجرى حدوثه فانه يمثل انتهاكا للقانون، اذ جرى اعتقال فتاة قاصر من بيتها وترويعها وترويع اسرتها ثم احتجازها في السجن. اليس ذلك انتهاكا صارخا للقانون. استطردت لاسكي في القول فعددت عشر حالات لفلسطينيين جرت محاكمتهم في نفس الظروف المشابهة، ولكن لم يجر اعتقالهم الا بعد ان قضت المحكمة بسجنهم فعليا، وذكرت اسماء عيسى عمرو من الخليل وفريد الأطرش من بيت لحم ومحمد الخطيب من مخيم قلنديا وغيرذلك من الحالات. لكن المدعي العسكري لايتوقف ولايتفهم الموقف فيقول ان الفتاة الصغيرة شديدة الخطورة ولدينا الملف السري الذي يتناول اعتداءاتها على الجنود، رافضا في الوقت نفسه طلب اطلاق سراحها، وتستجيب القاضية لطلب الادعاء العسكري، وتصدر قرارا بتأجيل البت في طلب المحامية الى موعد آخر.

لابد من الأشارة الى ان المحكمة قد توافد عليها دبلوماسيون وناشطون اسرائيليون مناهضون للأحتلال وممثلون لمراكز حقوق الأنسان مثل » بتسليم« وقد عبر البعض منهم عن استيائه بل ومرارته قائلا )أخجل من نفسي ومن التاريخ لأننل قمنا بوضع طفلة جميلة في قفص وقيدنا رجليها بالحديد.. ان هذه محكمة سياسية.. ومضى قائلا لقد وضع كل من افيجدور وليبرمان ونفتالي بينيت وبنيامين نتانياهو في مواجهة طفلة فلسطينية. عن هذا الحدث يقول الأب )باسم التميمي( ان ابنته طردت الجنود الأسرائليين لأنهم احتلوا البيت ونصبوا مكمنا لشبان في البيت المجاور قبل ايام وأطلق احدهم عيارا معدنيا على الفتى محمد التميمي )15( سنة اصاب وجهه وهو يرقد في غرفة العناية المكثفة في المستشفى الاستشاري في رام الله وحالته بالغة السوء الأمر الذي أثار غضب عهد، ولذلك رفضت السماح لهم باستخدام بيتنا بجعله كمينا لأصطياد مزيد من شباب القرية.

أطفال فلسطين يولدون… شبابا قادرا على اختراق المستحيل

هو واقع الشعب الفلسطيني وقدره أن لايعرف السكون ولا يتذوقه، فهولايعهد ألأرض هادئة، فالعراك والقتال مع المغتصب ليس قائما بفرض الأحتمال وانما هوالمتوقع دائما بمقتضيات الضرورة فالسماء ان لم تكن تلمع بالرصاص فهي تلتهب حتما بالحرائق، وانتفاضات الفلسطينيين ليست هبات تولد لتنطفئ وانما هي ثورات تقوم وتشتعل لتمتد، ولاتهدأ واحدة الا لكونها تسلمها لأخرى. شعب فلسطين هو الشعب الوحيد في العالم الذي عرف الأستعمار المزدوج البريطاني والصهيوني معا على أرضه فالبريطاني كان احتلالا يعمل على تمهيد الأرض ذ وفقا لوعده – للآخر الصهيوني كي يتمكن منها احتلالا استيطانيا، يوظف كخط مواجهة ودفاع للحفاظ على المصالح الأوروبية، والأمريكية ضد أمة بأسرها، كانت خطيئتها ذ وفق مقاييس النهب والأستعباد – هي الموقع المتميز، والثروات من باطن الأرض، ولذلك أحاطتها ونهشتها الذئاب والثعالب على مر العصور. وفي انتفاضات سابقة أتهمت السلطات الأسرائيلية الأمهات الفلسطينيات أنهن يستخدمن أولادهن كدروع بشرية، وتلك تهمة تجافي الحقيقة كما تجافي الطبيعة على السواء، فالأم تفتدي أولادها بنفسها ونفيسها، ولا تلقيهم للضباع في ليال الحزن المقيم، فضلا عن حقيقة أخرى، أن الأطفال الفلسطينيين ليسوا ككل الأطفال، أنهم يولدون في أجواء حرب لاتنتهي، حرب متواصلة يشنها الأحتلال الأستيطاني الذي يؤمن بالنقاء العرقي لليهود، ويعمل بكل طاقته، وبمؤازرة غربية واضحة على فرض أمر واقع يستسلم فيه الفلسطينيون للأستيطان، الذي يفرض من جانبه أيدولوجية متعصبة ترفع الراية الصهيونية. أطفال فلسطين يفتحون عيونهم على المداهمات الليلية التي تعصف بوجود الأسرة من قتل وضرب وطرد. أطفال فلسطين يعرفون اليتم صغارا، ويتحملون المسؤولية شبابا، ولايرون في المستقبل الا سحباً عماماً يحيطها الضباب من كل الجوانب. أطفال فلسطين تعتصرهم التجربة وهم مازالوا في احضان الأسرة يرضعون المرارة في الحياة جنبا الى جنب مع الرضاعة الطبيعية من الأم، لذلك لا يخرجون للحياة اطفالا، وانما بالواقع المر يولدون رجالا يدركون طبيعة الحال في مأساة الوطن، ويدركون واجبهم لصنع حاضر جديد، يعد بمستقبل ترفرف في سمائه أعلام الحرية لفلسطين.

عهد التميمي.. تمرد مبكر ومواجهة جسورة
عهد التميمي.. تمرد مبكر ومواجهة جسورة