في العراق.. صراع المصالح بعيدا عن آمال الناس

د.ماجد السامرائي

تقاس الحكومات في العالم الحديث والقديم بمدى انجازاتها لشعوبها سواء في تحرير الأرض من الغزاة أو في الخدمات الانسانية. وإذا ما حاولنا وضع هذا المقياس الانساني والسياسي على الوضع العراقي بعد عام 2003 فلا نجد دليلا واحدا يؤكد هذه الحقيقة.

فالأحزاب السياسية الطائفية التي كانت معارضة لنظام صدام حسين قد تعاونت مع الأمريكان قبل غزوهم للعراق حين دعمت مشروعهم الخبيث بالحصار الذي دام لإثنتي عشرة سنة وتوّج بالاحتلال العسكري اللئيم حيث خدموه لوجستيا وسياسيا مقابل إهدائهم السلطة والجاه.

وكان الأجدر بهم رغم هذه اللوثة التاريخية في التعاون مع الاحتلال أن يقدموا للشعب العراقي ما يمكن أن ينسيه فعلتهم غير الوطنية تلك، لكنهم انهمكوا منذ الأيام الأولى لمجلس الحكم عام 2003 و2004 بكيفية تقاسم السلطة وفق المحاصصة الطائفية تحت رعاية الحاكم الأمريكي )بول بريمر ( الذي كشفهم وهزأ بهم انتهاء عمله في العراق في كتابه ) عام قضيته في العراق ( وكان الهدف التدريجي لتلك الأحزاب الطائفية هو إحكام الهيمنة السياسية عبر وصفة الانتخابات البرلمانية التي قدمها لهم الأمريكان في الدستور والتي لم تتضمن إقامة جمهورية اسلامية مثلما حصل في طهران عام 1979 بل إن دستور العراق لم يوزع الثروة والسلطة على أساس مكوناتي طائفي مثلما تم تطبيقه، تم استثمار المشاعر العاطفية للجمهورالشيعي ومخادعته بأن أعداءهم ) العرب السنة ( يحاولون سرقة السلطة منهم وتم استغلال دعم مرجعية ) السيستاني ( بالنجف لتمرير القوائم الموحدة للأحزاب الشيعية الرئيسية تحت عنوان »الائتلاف الموحد« منذ عام 2006 ولكن هذه الوحدة كانت شكلية فمنذ وقت مبّكر دبّت الخلافات المركبة ما بين المصالح النفعية وصراع المرجعيات المذهبية العربية والايرانية والتنافس على المراتب العليا في القيادة والتفرد كما فتح باب الاحتراب الطائفي على مصراعيه أعقاب تفجير مرقد الأمامين العسكريين في سامراء عام 2006 ووجد المالكي نفسه من خلال رئاسته للوزارة مهيئا لتعميق الكراهية بين أبناء العراق الواحد بعد أن ضمن قيادته السياسية كونه رئيس حزب الدعوة الذي توفرت له فرصة قيادة الحكم والامساك بجميع المؤسسات العسكرية والأمنية فيما أعطيت الفرص للمليشيات المسلحة لكي تهيمن على الشارع وفعلت ما فعلته بحق المواطنين الأبرياء من قتل وتشريد وإشاعة الفوضى الأمنية في أنحاء العراق وفي العاصمة بغداد.

وعبّر المالكي في عز سطوته على الحكم عام 2008 عن خصومته وكرهه لمقتدى الصدر معتقدا إنه يقع في دائرة المنافسة الخطيرة لحكمه فشن عليه عملية عسكرية سماها »صولة الفرسان« استهدفت )جيش المهدي ( في مدينة البصرة، معتقدا إنه بذلك ينهي صراعات النفوذ هناك وما يتعلق بها من استحواذ على ثروات البصرة النفطية وايرادات المنافذ الحدودية والموانئ وكذلك لإضعاف سطوة ) عائلة الحكيم وحزب الفضيلة ( قد كان مقتدى الصدر هو الزعيم المشاكس لقادة العملية السياسية رغم إنه من بينهم، لكنه قاطع الحكم أكثر من مرة رافعا شعارات الاصلاح السياسي والاقتصادي وداعيا الى محاسبة الفاسدين الذين هيمنوا على الوضع الحكومي العراقي خصوصا بعد تولي ) نوري المالكي ( السلطة لثماني سنوات.

ثم استعاد نشاطاته السياسية بعد اعتزاله عام 2014 احتجاجا على ما اسماه »بهيمنة الفاسدين وبائعي أرض العراق«. لقد تنامى الفساد وامبراطوريته في ظل حكم المالكي وتمكن »داعش« من اجتياح الموصل واحتلال ثلث الأراضي العراقية، وقيل ما قيل حول قدرات عصابات تعدادها بالمئات من هزيمة جيش قوامه ثلاث فرق عسكرية. لقد حصل هذا التنظيم الارهابي على الدعم والعون ثم المحاربة من جهات محلية واقليمية ودولية عديدة في ظل اللعبة التي تستهدف شعب العراق وشعوب المنطقة العربية وتمت هزيمته في العاشر من ديسمبر 2017 بدماء شباب العراق، وتحمل أهل هذه المدن الممحتلة منه ما تحملوه من مآسي القتل والتشريد من بيوتهم التي دمرت غالبيتها، ثم ما واجهوه من اضطهاد ومطاردة من قبل قيادات »الحشد الشعبي« لحد الآن.

وفي ظل تنامي دوافع الثأر والكراهية وانعدام الخدمات حاول المالكي التجديد لولاية ثالثة عام 2014 لكنه لم يتمكن من ذلك بايحاء من مرجعية النجف وصمت طهران.كانت سياسة افتعال الأزمات الداخلية الطائفية غطاء للهروب من المسؤولية الوطنية أمام الشعب العراقي الفاقد للخدمات الانسانية بعدم توفير الكهرباء والصحة والتعليم والماء الصالح للشرب الذي كشفت جزءا منه فضيحة ماء البصرة، وكذلك انعدام الأمن وانتشار السلاح خارج الدولة. رغم الموارد التي تجاوزت الـ»ألف مليار« دولار منذ عام 2003.

وبعد استنفاذ مشروع التخريب الطائفي أغراضه وفشله في تحقيق الأهداف السياسية من فرقة عرب العراق الشيعة والسنة كان لا بد من تغيير الزعامات السياسية التي تدعي تمثليها للطائفة العربية السنية، واستبدال بعض الوجوه الشيعية في الحكومة بعد عجز حزب الدعوة من مواجهة أنصاره ومؤيديه حتى وصل الحال الى انسحاب هذا الحزب من الحكم المباشر لكن زعاماته ظلت تقاوم من اجل الحفاظ على مكاسب السلطة في ظل تصاعد الأزمات السياسية داخل »البيت الشيعي« ليس من أجل خدمة المواطنين والتنافس على تقديمها ولكن في اطار صراع المصالح والنفوذ للاستحواذ على المواقع الحكومية التي تدر الأموال لتلك الأحزاب وقد كشفت انتخابات مايو 2018 عن مدى عزوف المواطنين عن الانتخابات بنسبة تصل الى 80 وتسّرب الكثير من النواب الجدد الذين تحوم حولهم شبهات الفساد الى داخل البرلمان، وحصل تطور مهم بفوز قائمة ) مقتدى الصدر ( بالنسبة العددية الأكبر) 54 ( مقعدا دون أن تحقق ما أطلق عليه »الكتلة الأكبر« بعد تحالفها في كتلة »الاصلاح« تجاه الكتلة الائتلافية الثانية »البناء« بزعامة ) هادي العامري( وأصبح لكتلة »سائرون ومن تحالف معها صوت مسموع في مسرح العملية السياسية«، وهذا التطور قد فضح الدوافع التي تمت من خلالها صفقات تعيين رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة إلا أن النزاعات استمرت لمدة شهرين حول بعض المناصب الوزارية كالداخلية والدفاع في في ظاهرة تكشف سذاجة المخادعة للجمهور العراقي بأنهم تجاوزوا المحاصصة الحزبية.

وتم إلهاء الشارع العراقي بافتعال الخلافات حول ما سميت بالكتلتين الكبيرتين ) سائرون الصدر والفتح العامري ( وتبادل الاتهامات حول الخروج عن ضوابط التعهدات والتوافقات على مواصفات الكابينة الحكومية التي تشترط حسب تلك الاتفاقات عدم استيزار النائب الحالي أو الوزير السابق، وهو ما تعهد بتطبيقه ) عادل عبد المهدي ( قبل تعيينه رئيسا للحكومة والذي تلكأ كثيرا في اتخاذ القرارات الحاسمة وظلت قصة تعيين وزير الداخلية تدور داخل كواليس الصراع المصلحي لشهرين في تسريبات أكدت إن إيران فرضت هذا الإسم لاعتبارات مهمة في سياق نفوذها داخل العراق.

لقد برز خلال هذه الأزمة المفتعلة عمق التنافس والاختلاف ما بين الاتجاهين العراقي والايراني داخل البيت الشيعي في تراجع واضح للإرادة السياسية العراقية المستقلة، وزيادة كره العراقيين لنظام ولاية الفقيه في طهران. ولكن مع ذلك لم تحدث الكوارث التي حصلت للعراقيين الصدمة في رؤوس قادة الأحزاب. كان طبيعيا أن تنتقل الأزمات الحياتية المغطاة طائفيا من العرب السنة وباقي الأقليات الى الشيعة المحرومين من الخدمات، سقوط »داعش« بدماء العراقيين الأبطال الذين تصدوا لمشروعه التخريبي قد عطّل الذرائع الطائفية الخادمة لمشاريع الأحزاب الحاكمة، فبماذا يصف قادة هذه الأحزاب أبناء البصرة وكربلاء والعمارة والناصرية ومواصلة إهانة كرامات الناس وحقوقهم، لم يجدوا صفات يلصقونها بهم سوى إنهم أبناء بعثيين أو ملبين لأجندات خارجية لأنهم تظاهروا في مدن الجنوب من أجل العيش، مع إنهم عبروا عن مشاعر الشيعة وباقي العراقيين الحقيقية في التشبث بوطنيتهم ورفضهم التدخل الايراني المضر بهم عبرت عن ذلك انتفاضة شباب البصرة الأبطال مما عزز زخم التوجهات الاصلاحية والوطنية لبعض رموز وقادة الشيعة مثل ) مقتدى الصدر ( الى جانب الكتل العراقية الأخرى الداعية للاصلاح التي فازت بانتخابات 2018.

زادت الكراهية ضد مقتدى الصدر لأنه الى جانب مطالباته بعزل الفاسدين وعدم دخولهم مجددا في الحكومة مواقفه العروبية ودعواته الانفتاح على بلدان الخليج والسعودية، ولم يتركوا له فعلته بزيارة الرياض تمر دون عقاب، لقد تجدد الصراع داخل البيت الشيعي الآن ليس على مصالح المواطنين وحقوقهم ولكن حول الاستحواذ على النفوذ وتأمين مسارات الفساد في الحكومة الجديدة لعادل عبد المهدي.ولأن طهران قد انتقلت الى مرحلة جديدة من وسائل الهيمنة على العراق لا تسمح فيها لذوي الدعوات الوطنية العراقية لأن تكون لديهم كلمة في القرار السياسي العلوي.

العراقيون بحاجة الى رئيس وزراء قوي وحازم ومستقل عن الأحزاب المتورطة بالفساد والفشل، وحكومة قوية بعيدة عن الفساد وتحقق الانجازات للناس. ولكن أزمة العراق الحقيقية هي في نظامه السياسي المستبعد للهوية الوطنية العراقية، والقائم على المحاصصة الطائفية والحزبية المقيتة. لا يهم الناس إن كان رئيس الوزراء شيعيا أم سنيا او كرديا أو تركمانيا أو مسيحيا، ما يهم المواطنين ماذا يقدم وحكومته من خدمات وإشاعة للعدالة والرعاية الاستثنائية للمرأة والطفولة والشباب، وليس التنازع بين هذه الأحزاب حول مصالح النفوذ.

العراقيون يعيشون حالة صبر تعجز عن وصفه آلاف القصائد والمقالات والكتب، وقادة الأحزاب غارقون في الفساد والسرقة وإهانة كرامات أبناء شعب العراق. لا آفاق متفائلة لإحداث التغيير في حياة العراقيين في ظل النظام القائم.