أسئلة التفكيك بين عهدين

* الدكتور نسيم الخوري

وماذا يتوقّع الغرب عموماً، من زلاّت ألسنته المتعددة في الإسلام والمسلمين واستفزازهم في مقدساتهم سوى نشر الكراهية والبغضاء والأحقاد والمزيد من التعصّب والتطرّف وما نشهده من أفعال وردود أفعال تثير عداء المسلمين وتهدّد المسيحيين المشرقيين وتجذّر الحميّة الثقافية في معاداة الغرب وفي بذر الفتن الطائفية وإذكاء الإرهاب؟

مناسبة السؤآل إعلان فرنسا رسميّاً عن حريّة  »حق التجريح« الذي يتجاوز حق الحريّة والتعبير، بعد خمس سنوات من الهجوم الإرهابي على مجلة شارلي إيبدو في باريس(7 يناير 2015) من قبل 14 شخصاً أودوا يومها بحياة 12 قتيلاً و11 جريحاً من صحافيين ورسّامين وفرنسيين، وبالتزامن مع مباشرة محاكمة المهاجمين أعادت شارلي إيبدو نشر دزينة الصور عينها على غلافها وعنونت:  »وجه محمّد« ولربّما كان ذلك السبب المباشر للهجوم؟.

ما معنى أن يبقى الآخرون محاور شرور في عين الغرب إذا كان دين الأولين من بيت الله نبع الشر والقتل؟

لنتذكّر مثلاً، ولنتذكّر زلة الرئيس الأميركي جورج بوش في بالحروب الصليبية نحو العراق 2003، ومثلها الصور الكاريكاتورية الدانمركية والنروجية والفرنسية البشعة، في الـ2005 والـ2006 والنتيجة حرق الكنائس والقنصليات والسفارات في دمشق وبيروت، ولنتذكّر الرسوم المسيئة للنبي محمد في خطاب البابا بندكتوس الذي خلّف أرواحاً أزهقت وكنائس دُمّرت وطائرة خطفت وكلها مسائل لم يكن لها من مبرّرٍ لزمانها أو مكانها أو إنسانها.

ليست هذه الإستعادات، سوى التذكير بما لا علاقة له بالزلاّت Lapsus تمّ الإعتذار عنها كلّها وهي لم تحقق لهذا اليم الشاسع المتنامي من المؤمنين ثوراتهم الفكرية المطلوبة اقتداءً بالغرب بقدر ما تجعل المسائل أكثر تعقيداً وخطورة فتورث الإنفجارات والدماء والإنقسامات في الكرة وخصوصاً في ملاعب الشرق الأوسط وتسقط هياكل الحكمة.

أذهب أكثر عمقاً لأسأل: ما الروابط بل الملاط الهشّ بين صور الخلق الوارد في العهد القديم تظهره  »اسرائيل« نواميس حافلة بالدم والتدمير وقتل الأبرياء وتأديبهم، وصورة الرب العذب المسامح في العهد الجديد؟

كان أبناء الرأي المستقيم، وما زالوا ينتظرون، في الواقع، من روما بعقلها النقدي المزدان بالفلسفة الإلمانية اليوم، البحث في إمكانية تفكيك اللحمة التاريخية بين العهدين. الحقيقة أنّ النضج الزمني أو الفكري قد يدفع الناس وهم في خريف أعمارهم إلى قراءة إيمانية لكنها نقدية للنصوص المقدّسة التي يرتكز اليها قاطنو الكوكب الأرضي فينبسط أمامهم السؤال:

أليس من قبيل الإنصاف السياسي أن نفكّ ما بين الكتابين؟

سواء كان بنو  »اسرائيل« قد تربوا على نصوص دينية حافلة بـ »المنتقم« الذي أرسى في نفوسهم مشاعر التعذيب والقهر والندم وعقدة الذنوب التي لا تغتفر، أو كوّن لديهم لاوعياً مسكوناً بالهواجس والأساطير والعدائية والتحريض الخارق للشعوب الأخرى، فإن مفارقة غريبة تبدو منذ الزمن القديم قوامها أن شعوب العالم قد تحبّ اليهود في اعتدادهم وتعطف عليهم أوتخافهم وتتوجس منهم وتتودد اليهم وتساعدهم بما لا يقدّر في الوقت الذي يكرهون هم فيه الشعوب الأخرى كلّها فيدبرون لها المكائد والمخططات ويضمرون لها كل أصناف الشرور التي يصادفها قاريء العهد القديم. هم يحققون ربّهم الأرضي الذي اختارهم وكلّم نبيهم في العلّيقة والمسيحيون يحققون ربهم السماوي في بيت لحم ليعقد المسلمون سبحاتهم تصالحاً بين الأرض والسماء وتقفل باب النبوآت.

ألا نرى أفريقيا مثلاً وقد غدت حيال ذلك على قناعةٍ بأن أرضها قادرة على التهام الشمس والقمر يلامسها؟

وألا تبدو آسيا نفسها قارة مهانة تعبت في تاريخها الطويل الدامي، مع العلم أن الأقدار قد منحتها زيت الأرض وزيت السماء أدياناً توحيدية لطالما الزيت يرفع رمز سلام وحوار مقدسين؟

أتبقى القوى العظمى تدفع بسياساتها نحو نفاذ صبر النظام الكوني من روتين الإنتظار بما قد يظهر دولةً نووية مجنونة للحظة فتلتهم الشمس بلقمة واحدة، بينما تتجلّد القارات والشعوب والحكام في ترددهم وترهلهم وضعفهم ولعبهم بمستقبل البشرية؟ ها هم جميعاً يسقطون جميعاً في قبضة جرثومة الكورونا ويخفون ملامحهم النووية الوحشيّة بالكمّامات المرقّطة بأعلامهم التي تحرق في الساحات الضعيفة الترابية؟

تبدو أعصاب العالم الإسلامي بالتالي، مشدودة بالمعنى الديني الى درجة تقلق العالم، ولا ينفك التفكير الأميركي والغربي بشكل عام من وضع الغرب في موقع حضاري معاد للأفكار والحضارات الأخرى وفيها الإسلام. ويصرّ هذا العقل على النظر إلينا بصيغة الكثرة المتشظّية لا بصيغة الوحدة ليصدّق الإجتهاد النظري الخبيث في التفريق بين مؤمنٍ غربي وشرقي كما حصل بالنسبة للكنيسة عندما كانت طرية بعد.

هنا يفترض التنبه الى الهوة المتنامية بين مسلمي العالم ومثقفيهم المنقسمين في مواقفهم، كما يفترض التفربق بين المسلمين وبين أنظمتهم المشاركة بلعبة  »البازل« في جمع الأوطان وطرحها وقسمتها أو اعادة رسمها، والأرجح أنّ حكاماً قد يحرقون أصابعهم في مواقد شعوبهم كما سيحرقونها في اندفاعاتهم العاطفية نحو الآخرين.

ما زالت  »اسرائيل« نقطة التوتر الأساسية بين المسلمين من ناحية، وبينهم وبين العديد من الدول الكبرى من ناحية أخرى. بهذا المعنى، تصل المخاطر الى حدود دفع المسلمين عن طريق قهرهم واضطهادهم واستفزازهم في مقدساتهم الى الخروج يوماً من دائرة:  »الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا اله إلا الله، حي على الصلاة…« بعدما استغرقوا فيها منذ سقوطهم في الأندلس وفي الشرق الى دائرة الإنكباب على القفلة الواحدة الصارخة  »حي على الفلاح« بمعنى النصر بعدما صارت منسية أو مؤجلة فيتّخذ الموت قيمته بالنصر. يخرج المؤمنون اليوم نحو الشهادة أو نحو الإيديولوجيا ليتعزّز الإستشهاد المستورد فيحض على الفلاح والجهاد المثابر الذي هو ثمرة من ثمرات الثقافات الإنتظارية. هكذا يتأسس النصر ويقوى عالميّاً في العقيدة والقول والسلوك، وتبدو القارات مربكة عندما تنبش الأفكار والإجتهادات لتتجاوز الإيمان والطقوس فتنتفض الكرامات لرفع القهر. يصبح الوعد بالجنة، حينذاك، مالئاً للنفوس وتتصاعد حرارتها كما الإشتعالات في يباس القصب. يتساوى الفلاح بالموت كمفهوم إنساني بما يتجاوز ضوابط الإيمان الأرضي وألاعيب الأنظمة والمصالح؟

إن حسابات المؤمنين في الأرض تختلف عن حسابات الدول ونظراتها إلى السماء أو الفضاء. تبقى الأرض أغلى وأكثر أماناَ وعزَة لشاغلي سكان هذه البقعة المشرقية المحشورة بسكّانها من العالم، لكنّ الأرض قد تصبح أرض قتالٍ وموت وعندها تصبح  »اسرائيل« طائراً رأسه في السماء لكنّ قوائمه تتعثر قطعاً في الأرض البشرية. وعلى الرغم من أن أميركا وغيرها تطمح، في حروبها الجاهزة والمتنقلة، للتخلص من الأفواه الزائدة تحقيقاً للمليار الذهبي الذي يحتكر الحياة في الكرة على حساب المليارات البشرية الأخرى، فإنه طموح مستحيل ولو طحن بلاد الآخرين. إنّه طموح يولّد عالميّاً،  »القنابل الحيّة« الباحثة عن كيفية عقد السبحة النهائية بين الأرض والسماء ولو تفنّن العالم والعلماء في نشر الأمراض البيئية والسيدا والسارس وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والكوفيد 19 وغيرها مستعيناً بنصوص مهاجمة البشر بالبعوض والجراد والزلازل والكوارث وغيرها من أدبيّات العهد القديم المستمرّ متلحّفاً بالعهد الجديد.

* كاتب لبناني وأستاذ في المعهد العالي للدكتوراه،

العدد109 /تشرين2020