الاقتصاد العالمي يواجه ضعف الاستثمارات وكثرة القيود ومفاجآت ترامب

 سيدني . جاد الحاج

 في الأشهر المقبلة يكافح اقتصاد العالم من أجل تأمين الانتعاش الثابت والصعود بمستوى نموه من المراتب المتدنية، الأمر الذي يعني أن الانخفاض في معدلات النمو السنوي سوف يستمر وقتا غير قصير. فالنمو غير النشيط هو الوضع الطبيعي الجديد بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي . معنى هذا ببساطة أن الناتج العالمي عند قياسه بأسعار القطع المتداولة في السوق سوف يحرز زيادة تقل نسبتها عن 3% في العام الطالع، وذلك للعام السادس على التوالي. يعمل هذا الوضع على إطالة عمر الفترة الأطول من النمو الضعيف في ما يزيد على نصف قرن. فالانتعاش السريع والقوي، الذي كان الخبراء والمحللون والسياسيون توقعوا حدوثه بعد تبدد حال الانكماش والهبوط على الصعيد الدولي في 2008 لم يتحقق ولن نراه يحصل في العام الجديد.

ليس مستبعدا او مستغربا أن تلحق سياسات الرئيس دونالد ترامب المناهضة للتجارة الدولية الأذى والضرر باقتصاد العالم في حال مباشرة اعتمادها، علما أن ضررها لن يكون ملحوظا بشكل لافت خلال العام الطالع إلا إذا قرر ترامب إشعال حرب التعرفات الجمركية مع الصين. أما المشكلة الكبرى الحقيقية في الاشهر المقبلة، فسوف تتمثل عمليا في ضعف الطلب وعدم القوة والعافية في نمو الإنتاجية. والمؤسف أن تكون النماذج المثلى على تفعيل كفاية الإنتاجية ورفع مستواها حول العالم قد عرفت التراجع، إن لم تكن تضررت كثيرا على غير صعيد وبأكثر من شكل وصورة، من جراء الأزمة المالية الاقتصادية التي تعرض لها العالم منذ 2008 فصاعدا، علما أن العالم لم يعرف النهاية الجدية الكاملة لهذه الأزمة ولوطأتها ولآثارها المتفاوتة. فالنمو في نمور آسيا يختبر انحسارا ملحوظا، وبخاصة في كوريا الجنوبية التي تعتبر أهم هذه النمور وأوسعها مصالح تجارية وصناعية خارج حدودها، بما في ذلك مبادلاتها التجارية واستثماراتها الإنمائية الكبيرة في روسيا، ، علما أن معدل النمو السنوي المتوقع للعام الجديد في كوريا الجنوبية والعلاقات الاقتصادية مع سلطات سيول لا يتجاوز نسبة 2 6%. وتحافظ

محطة نووية في الهند
محطة نووية في الهند

سنغافورة على مستوى متدن في معدل النمو لا يتجاوز 2 7%، بينما تنجح تايوان بالتعافي ولكن بشكل محدود إذ تساوي نسبة النمو في ناتجها المحلي العام 1 7%. وعلى الرغم من انفتاحها على البر الصيني وتوفيرها الخدمات التجارية والخدمات الأخرى لأثرياء أكبر دول العالم المتزايدين دين فإن معدل النمو فيها لن يتخطى 1 9%، مما يجعل هذه البلدان التي طالما كانت منذ أواخر السبعينات وحتى في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية في الثلث الأخير من التسعينات، وإلى ما بعد أزمة 2008 مضرب المثال على قوة التوسع والنمو وسرعتهما، وذلك بدليل أحجام اقتصاداتها وقدراتها الفنية والإنتاجية وتعاظم مصالحها الخارجية في محيطها المباشر وحول العالم.

كذلك ليس مستبعدا أن تختبر الصين تراجعا في معدل النمو المتوقع أن يبلغ 6% في العام الطالع، علما أن من الجائز اعتبارها قاطرة اقتصادات الدول النامية أو مجموعة ال77 التي تضم في الواقع أكثر من 120 دولة. أما اليابان، فلا تزال تشكو من ضعف النمو بعد أن عانت طويلا انعدامه على مدى أعوام متتالية. من ناحيتها، ليست الاقتصادات الصناعية الغنية في الغرب ذ وبخاصة في أوروبا وأميركا الشمالية — قادرة على اختبار معدلات نمو كبيرة وسريعة، كما يتبين عن طريق إلقاء نظرة سريعة على مستوى النمو المسجل فيها حتى نهاية العام المنصرم. فإذا اعتبرنا ألمانيا قاطرة منطقة اليورو، فإنها لن تستطيع الاستمرار في الدفع قدما بسبب ضعف إنتاجيتها. ولذا لن تختبر توسعا يفوق المعدل الذي تختبره البلدان الأخرى، مما يجعل معدل نموها السنوي المتوقع للعام الجديد 1 3%. وينكمش معدل النمو في فرنسا المعتبرة ثاني أكبر اقتصادات منطقة اليورو الى 1 1%؛ وهذه نسبة تقل كثيرا عن معدلات النمو في غالبية الدول الأعضاء في منطقة اليورو. والأخطر أن معدل النمو المتوقع في إيطاليا ثالث أكبر اقتصاد في المنطقة يساوي 0 9%. وهذا يؤشر إلى استمرار ضعف الإنتاجية في منطقة تشكل نسبة مئوية هامة من الناتج المحلي العالمي.

في العادة، يختبر الاقتصاد العالمي المتين والمندفع بقوة معدل نمو يناهز نسبة 4% تقريبا عند قياسه بالأسعار المتداولة في السوق، »علما أنه المعدل المعتمد لدى المستثمرين من أجل تحريك العملة عبر الحدود ومن قبل الأعمال والشركات بهدف إعادة توطين الأرباح. أما النمو بمعدل سنوي تبلغ نسبته 3%، فهو أقرب إلى القياس الطبيعي المعتاد، وهو ما كان العالم قد اختبره كمعدل وسطي على مدى الأعوام العشرين المنقضية حتى نهاية 2005. في جميع الحالات، كان الاقتصاد قد أفلح بصورة منتظمة في تحقيق طفرة قصيرة من النمو السريع. إلا أن الوضع لم يعد كذلك. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن وحدة الاستقصاء في مجلة الإكونومست ذكرت تكرارا أنها تتوقع للناتج المحلي العام العالمي أن يتوسع بمعدل تبلغ نسبته 2 5% فقط خلال العام الجديد، علما أنه لن يفلح في إحراز نتائج أفضل، ولن يبلي بصورة أحسن في الأعوام القليلة التالية، وفق التقديرات المستندة إلى تجارب الماضي غير البعيد.

الثابت أن الضعف ينتشر في كل مكان. فمعدل النمو في منطقة اليورو لم يتجاوز نسبة 2% سنويا على مدى الأعوام الستة الماضية المتتالية. كذلك لم تستطع الولايات المتحدة أن تنطلق في حال نمو يتميز بمعدل وسطي مائل إلى الارتفاع لفترة تعد بحدوث انتعاش، إذ لم تختبر أكثر من فصلين أو ربعين متتاليين من النمو القوي طوال ما يزيد على عقد من السنين، وهي أغلب الظن لا يرجح أن تعرف أداء أكثر جودة وأحسن مستوى في العام الأول من رئاسة ترامب. في المقابل، يكافح الاقتصاد الياباني جاهدا من أجل تحقيق التوسع ولو بنسبة 1% سنويا. وهذا وضع غير مريح بالنسبة إلى الوهن الذي يشكو منه الاقتصادان الأول والثالث في العالم من حيث الحجم والمتساويان تقريبا في مستوى التطور التكنولوجي في مختلف قطاعاتهما الإنتاجية.

كذلك يشمل الوهن وشبه الجمود الاقتصادات الأخرى حول العالم، ولا سيما تلك المرتبطة مباشرة بالاقتصادين الأميركي والياباني. فغالبية الاقتصادات الصاعدة اختبرت توقف حال الغليان والفوران لجهة النمو قبل عشر سنوات تقريباً، الأمر الذي يتجلى بصورة لافتة خاصة في اقتصادات منطقة آسيا ذ المحيط الهادىء، ولا سيما تلك التي تحتفظ بروابط وصلات تجارية مع الصين، التي أمست ثاني أكبر اقتصاد في العالم. إلا أن الصين في الوقت الحاضر تبدو مرهقة بثقل ديونها المتراكمة . لذا من الواقعي والمنطقي أن ينتظر العالم أن تدفع مستوى النمو فيها إلى نسبة 6% في العام الطالع، ولو أن الكثير من الخبراء والمحللين يرون أن ذلك المعدل سوف ينهار وينخفض مجددا إلى ما يقارب نسبة 4% في العام المقبل، وهذا معدل نمو شديد الانخفاض على نحو لافت بل ومذهل وفقا للمعايير التي طالما عرفتها وتمتعت بها أكبر بلدان العالم على مدى العقود الأربعة الماضية.

عليه، تبدو الهند وحدها بين اقتصادات العالم الكبرى في حال عوم نسبيا، وبخاصة أن من المتوقع لها حسب المعطيات شبه المؤكدة أن تتقدم بقفزة مثيرة، إذ سوف تحرز نموا سنويا يبلغ معدله 7 5% في العام الجديد. غير أن الهند لا تزال كما يبدو بأمس الحاجة إلى أن تطور علاقاتها التجارية مع مختلف دول العالم، ولا سيما تلك المحتمل أن تشكل مصدرا لتزويدها بالمواد الأولية، وبخاصة ما تحتاج إليه من النفط الخام والغاز الطبيعي. وتلتزم الهند تطبيق برنامج الاعتماد على الطاقة النووية للأغراض والأنشطة السلمية، اضافة الى امتلاكها أسلحة نووية. ولعلها

البنك المركزي البريطاني
البنك المركزي البريطاني

تحاول محاكاة التجربة الفرنسية القاضية باستعمال المحطات العاملة بالطاقة النووية لتوليد التيار الكهربائي بحيث يقل اعتمادها على النفط والغاز لتأمين وقود مصانعها ومعاملها ومشاغلها ومراكزها التجارية ومدنها كثيفة السكان. وكانت الهند قد تزودت بمفاعلاتها النووية الأساسية من كندا في المرحلة الأولى، ثم الاتحاد السوفياتي، وربما من الأرجنتين بعد ذلك ولاحقا من كوريا الجنوبية، الأمر الذي قد يوحي بطبيعة العلاقات والروابط التجارية والمبادلات المتنوعة من جهة، والملتزمة بالقوى الصناعية المتوسطة، حتى ولو كانت كندا مدرجة ضمن مجموعة الاقتصادات الصناعية السبعة الكبرى في العالم. ولعل من الضروري بل والملح جدا للهند أن تطور روابطها على صعيد التعاون الاقتصادي والفني والمبادلات التجارية بصورة أوسع وأشمل مع البلدان النامية، الأمر الذي يحتمل أن يستدعي منها تمتينا لِروابطها وتنويعا لِمبادلاتها بنسب مئوية متزايدة؛ وهذا قد يصح على علاقتها بالدول العربية وبلدان آسيا الوسطى والعديد من الدول الأفريقية.

من جهة أخرى، يفترض بالنمو البطيء أن يبقي بنوك العالم المركزية المحاصرة في دائرة الضوء. في هذا السياق يشعر الاحتياط الفدرالي )البنك المركزي الأميركي( بالرضى عن حقيقة اقتراب سوق الوظائف والعمل من الوضع الطبيعي بينما يطلق الإشارات والتلميحات إلى احتمال رفع مستوى أسعار الفائدة، وذلك على الرغم من أن الصدمة الفورية لرئاسة ترامب قد تكف يده أو توقفها عن تعديل سعر الفائدة. في الحد الأقصى سوف يعمد إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي مرة واحدة فقط في العام الطالع بما يعادل ربع نقطة مئوية. إلا أن الاقتصاد الأميركي أو حتى العالمي لن يستطيع أن يتحمل شيئا أكثر من ذلك. من المنتظر في الوقت نفسه أن نجد كلا من البنك المركزي الأوروبي ونظيره الياباني، ثم البنك المركزي البريطاني )بنك أوف إنجلاند( بعد خروج بلاده من عضوية الاتحاد الأوروبي في وضع متشابه بالنسبة إلى العمل الذي تقوم به هذه المؤسسات. فهي في الواقع تنخرط مجتمعة ومنفردة في عملية بحث عن المزيد من الطرق لتحفيز اقتصادات بلدانها أو كتلها الاقتصادية التي تشكو من الوهن. وهذا من الضرورات الأولية الملحة بالنسبة إلى إدارات تلك البنوك.

يعود تميز النمو بالبطء جزئيا إلى تدني مستوى الإنتاجية. فمستوى قدرة الإنتاج بالنسبة إلى العامل الواحد في الولايات المتحدة عرف توسعا يبلغ معدله نسبة 1 9% سنويا على مدى الأعوام 1990 إلى 2005، ولكن هذا المعدل نما بما هو أقل من نصف ذلك في خلال العقد الماضي. بادئ ذي بدء اتسمت منطقة اليورو بأنها أقل إنتاجية من الولايات المتحدة، علما أن المعدل في الأخيرة انهار وتقلص أيضا بمقدار النصف. ونمو الإنتاجية هو عادة أكثر وأعلى في الأسواق الصاعدة، ولكن الوتيرة في الصين عادت وتراجعت منزلقة بدورها. كما لا تبدو الآفاق أكثر إشراقا والاحتمالات أعظم وعدا في العام الجديد مما كانت عليه في السابق. لذا يبدو ضعف الاستثمار وفرط القيود في البلدان الغربية قد استوفى نصيبه وحمل المجتمع والاقتصاد عبء الضريبة المفروضة عليهما.

من الواجب على الجميع تأمل الجانب المشرق الزاهي، علما أن شيئا من هذا لا يساوي أو يعني عاما كئيبا مثيرا للتشاؤم بصورة كاملة. فالمستهلكون الأميركيون من جهتهم ينتظر أن يسترجعوا المزيد من تعاليهم وعجرفتهم. لعل ركود المداخيل وجمودها الذي أسهم بفاعلية في احتمال قلب ضعف الإنفاق: تظهر آخر الأرقام أن قيمة دخل الأسرة المتوسطة عرفت تصاعدا في ما يتعلق بأسرع المعدلات على الأقل منذ العام 1967. من جهتها، سوف تضيف آلة الوظائف داخل الولايات المتحدة مليوني منصب آخر في العام الطالع تماما كما فعلت سنويا على مدار الأعوام الستة الماضية: أما واقع الشك أو عدم اليقين في الأعمال بخصوص بعض سياسات الرئيس ترامب، فيجوز أن يؤمن التعويض بفعل التهليل والاستحسان في مقابل مقدار أقل من القيود وانخفاض في الضرائب.

مما لا شك فيه ضمن هذا الإطار أن يكون تحول الصين إلى اقتصاد يقوده المستهلكون ويوجهونه واقع ينتظر أن يتسارع على الرغم من مستويات دينها الباعث على الدوار: فمجموع الاعتمادات ينمو بسرعة تزيد ثلاثة أضعاف بالمقارنة مع ما يسجله الناتج المحلي . ومع أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجعل أوروبا في مواجهة الأزمة الأخيرة ضمن سلسلة المحن المتدرجة، فإن الضرر الاقتصادي سوف يكون صغيرا بالنسبة إلى معظم الدول والبلدان وسوف يكافح الاقتصاد البريطاني نفسه بواسطة الأسعار المرتفعة والنمو الضعيف عندما يلقي الانسحاب البطيء تبعاته على الاسواق.

بعد عامين من الانكماش والركود، يتوقع الخبراء أن تعرف روسيا مقداراً ضئيلاً من النمو كمعدل سنوي في الأشهر المقبلة. كذلك سوف يعرف الانكماش في البرازيل نهايته أيضا. إلا أن الأوضاع المالية العامة تعتبر في حال من الفوضى والارتباك، بينما لا تزال هذه البلاد على مسافة أعوام عديدة من إحراز انتعاش قوي وفعال. وبالنسبة إلى العدد الكبير من البلدان التي تعتمد على بيع منتجات مناجمها ومحاصيلها الزراعية، ينتظر لأسعار السلع والمواد الخام أن ترتفع في العام الجديد للمرة الأولى منذ خمسة أعوام، علما أنها سوف تتصاعد بما يقرب من نسبة 4% بحسب المعدل السنوي الوسطي.

01

02

the bank of england