التفكير الفلسفي في المستقبل

أ. د. مازن الرمضاني*

لقد سبق القول أن التفكير في المستقبل ظاهرة إنسانية قديمة جدأ.  بيد أن تعاقب إنتقال الإنسان من موجة حضارية إلى أخرى ادى إلى أن يتميز هذا التفكير بتحولات متعاقبة. وقد عبر كل منها عن إنتشار نمط محدد منه في المكان والزمان. ويعد التفكير الفلسفي في المستقبل أحد الانماط القديمة والمستمرة إلى الوقت الراهن. ولآهمية دوره في تأسيس الارضية، التي دفعت بإتجاه التفكير العلمي في المستقبل، سيصار إلى تناوله في أدناه.

التفكير الفلسفي في المستقبل ظاهرة قديمة وعابرة للمكان. ويكاد الرأي يتفق على أن هذا التفكير نشأ في اليونان حوالي القرن السادس ق. م.. وكذلك أزدهر فيها ولاسيما في أزمنة سقراط وافلاطون وارسطو. وقد أدت مجموعة عوامل متفاعلة إلى أن تكون الفلسفة اليونانية، بالمحصلة، أكثر عمقأ، واوسع موضوعأ، وأحسن تنظيمأ وترتيبأ.من سواها.

وتفيد تجربة عموم التفكير الفلسفي، عبر الزمان، إنه اقترن بسؤال يختلف عن السؤال، الذي يطرحه عادة التفكير العلمي. فعلى خلاف السؤال العلمي الذي هو في العلم، والذي يتخذ من معطيات الواقع سبيلآ للإجابة عنه الآمر الذي يجعله بالتالي علميأ وواقعيأ، يكون السؤال الفلسفي، الذي هو عن العلم، سؤالآ تصوريأ )Conceptual( لا يأخذ بالمقاربات المنهجية المستخدمة في حقول المعرفة العلمية سبيلآ للآجابة عنه.

ولآن السؤال الفلسفي إستمر تصوريأ، فأنه دار، مثلآ، حول الوجود ومأله، والحياة وما بعدها، وجعل من الآدراك الحسي، أو التأمل العقلي، سبيلآ لتحديد الخطأ والصواب وصولا إلى المعرفة أو الحقيقة، وذلك عبر رد الآشياء أو الظواهر إلى العلة أو العلل الكامنة فيها. ومن هنا كانت الفلسفة عبارة عن بحث دائم ولا ينتهي عن الحقيقة.

 وقد مرعموم التفكير الفلسفي عبر الزمان، بأربعة أطوار أساسية:

فأما عن الطور الآول، فقد تميز بمناهضته لتلك الرؤى الغيبية التي حملها الإنسان القديم عن أدوار الآلهة، بأنواعها، في تحديد مصيره سواء في الحاضر أو في المستقبل. وقد كان فلاسفة اليونان، وخصوصا سقراط وافلاطون وارسطو الآسبق زمانا من حيث التشكيك بمصداقية هذه الرؤى.

وبالقدر الذي يتعلق بموضوعنا، أخذ عموم فلاسفة اليونان بمفهوم للزمان قوامه الدوران. فهولاء قالوا أن: »… الوجود لا بداية له ولا نهاية. ولكن العوالم )أوالآكوان( تتوالى تباعأ، أو على فترات متقطعة، فما أن يتكون أحدهما حتى يأخذ في التداعي، وما يلبث أن ينهار أخر الآمر لكي يتلوه عالم أخر يقوم على أنقاضه. وهكذا تستمر مسيرة الوجود على هذا المنوال إلى ما لا نهاية. فالمستقبل ينجم عن الماضي ) ومن هنا (… لا يختلف المستقبل عن الماضي إختلافا كبيرا. فمن طبيعة الدوران… أن البداية والنهاية فيه سيان«.

وقد أتفق ارسطو مع سواه من فلاسفة اليونان القدامى بشأن مفهوم الدوران بحد ذاته، بيد أنه أختلف وإياهم في نقطتين أساسيتين ذات علاقة بهذا المفهوم. فأما عن الآولى فهي تجسد رايه في أن مفهوم الدوران يقتصر على عالم الاجرام السماوية التي تدور في افلاكها من البداية إلى النهاية. وأما عن الثانية فهي تفيد برفضه لفكرة تعدد العوالم أو الآكوان وتاكيده على أن الكون واحد لا بداية له ولا نهاية.

وبالإضافة إلى مفهوم الدوران عند فلاسفة اليونان، طرح فلاسفة قدامى أخرون رؤى لكيفية تحقيق المستقبل تميزت أما بماضوية أو خيالية المضامين. ففي الصين القديمة مثلا دعا، لاوتان، مؤسس الفلسفة الطاوية في حدود 600 ق. م، إلى جعل الماضي المجيد، الذي رأى إنه كان متحققأ في المجتمع الفطري أساسأ، سبيلآ لبناء المستقبل المنشود.

وبالمقابل نجد الرؤية الخيالية المثالية عند افلاطون )347-427 ق. م(، ومن بعده عند الفارابي) 870-950 م(. فافلاطون دعا في جمهوريته إلى بناء مجتمع مستقبلي يتميز بالحكمة والفضيلة ويجعل من العدل أساسأ له. وإلى الشيء ذاته ذهب الفارابي تقريبأ. ففي مدينته الفاضلة راى أن إنتشار المعرفة والفضيلة فيها سيحقق للإنسان السعادة الحقيقية.

فأما عن الطور الفلسفي الثاني، فقد أقترن، في العموم، بوظيفة الدفاع عن الدين. وبالقدر الذي يتعلق بالعرب والمسلمين، فقد أدى نزول الإسلام وإنتشار عقيدته إلى أن يبدأ الآهتمام العربي الإسلامي بالفلسفة، وبالتالي إلى أن ترتبط الفلسفة العربية الإسلامية بالدين إرتباطأ وثيقأ. فهي وبدءأ بمدرسة حسن البصري في علم الكلام، عمدت إلى تحكيم العقل والمنطق لتوكيد اصول العقيدة الإسلامية والدفاع عنها، وذهبوا إلى الجمع بين الفلسفة والدين في كل واحد، هو وحدة الكون.

 وعلى الرغم من تعدد الفلاسفة العرب والمسلمين. إلا أن مؤلفات تهافت الفلاسفة لابي حامد الغزالي، وتهافت التهافت لابي الوليد محمد بن رشد، والمقدمة لعبد الرحمن بن خلدون، شكلت نقلات نوعية في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، إلا أن هذه النقلات لم تستمر في العموم. فسقوط الاندلس عام 1212م، وبغداد عام 1258م أدى إلى تعطيل النهوض الحضاري العربي لقرون لاحقة طويلة.

وعلى الرغم من بروز وأنتشار التفكير الفلسفي في مجتمعات القرون القديمة والوسيطة، إلا أن ذلك لم يؤد إلى إحداث تحول جوهري في نوعية رؤية جل هذه المجتمعات للحياة والوجود. فتشبعها بالتعليل الديني، سواء كان وثنيأ أو توحيديأ، لم يساعد التفكير الفلسفي، في أطواره الآولى، على تجاوز الحدود التي رسمها هذاالتعليل. ويصف، ماجد فخري، العلاقة بين الدين وإنسان تلك المجتمعات انذاك بقوله : » كان محور الحياة البشرية حتى أواخر القرون الوسطى )هو( السماء. وكان على المرء أن يصبو إلى اللحاق بها قبل كل شىء، فأذا قيض له ذلك )يكون قد( بلغ نهاية المطاف… )أي( الحياة الآبدية«.

وأما عن الطور الفلسفي الثالث، الذي أقترن بعصر النهظة وإنجازاته العلمية، فقد تميز بذهاب فلاسفة هذا العصر إلى طرح نظريات فلسفية متفائلة وشامله لكافة مجالات الحياة، والتي تم إستنباطها من واقع أنجازات ذلك العصر ونوعية المعرفة التي أتاحتها هذه الإنجازات، هذا فضلا عن إمتداد هذه النظريات على كافة ابعاد الزمان، وبضمنه تطلعها إلى المستقبل. ومما ساعد على هذا الاستنباط أن التغيير الذي أفضى إليه عصر النهظة، وأن كان شاملآ، إلا أن معدل سرعته كان بطيئأ، وهو الآمر الذي أتاح لهولاء الفلاسفة فرصا للتفكير والتحليل والآستنتاج تميزت بالإستقرار النسبي، وبالتالي بناء مثل هذه النظريات.

إن النظريات الفلسفية التي شكلت مضمون هذا الطور الفلسفي الثالث قد عبرت عن تحول نوعي في رؤى الإنسان الذهنية للحياة. فبعد أن كانت السماء هي محور الحياة البشرية، أضحت الارض »ابتداء« منذ القرن السابع عشر، هي البديل في العموم. ومن بين هذه النظريات الآتي على سبيل المثال:

فإضافة إلى الفيلسوف الآلماني ) غوتفريد فيلهلم فون ليبنز، Gottfried Wilhelm von Leibniz   )1646-1716( الذي طرح رؤية تقدمية اكد من خلالها إن الوجود ينبثق دوما عن أشكال جديدة، تبنى الفيلسوف الآلماني )جورج فريدريخ هيجل،  1770-1831، Georg Friedrich Hegal ( رؤية ديالكتيكية- تاريخية قوامها السيرورة، أو التحول الزماني المطلق، الذي رأى فيه أساس الوجود بكافة إشكاله، إبتداء« بالمادة مرورأ بالحياة وانتهاء« بالعقل أو الروح.

وبجانب هذا النمط من الرؤى الفلسفية، التي تضمنت ما يفيد إن التقدم نحو الآحسن والآفضل ليس إلا إحدى سنن الحياة التي لا تقبل التراجع، يقترن نمط أخر منها بفكرة النشوء والإرتقاء )أو التطور( المتواصل للحياة. ومثال ذلك رؤية الفيلسوف الانكليزي ) تشارلز داروين، Charles Robert Darwin )1809-1882 والتي طرحها في كتابه: أصل الآنواع والمنشور في عام 1859، وكذلك رؤية الفيلسوف الانكليزي )هربرت سبنسر Herbert Spencer. 03ـ820ـ19( الذي سحب رؤية تشارلز داروين في التطور البايولوجي على كافة أنماط التطور والإرتقاء الآخرى، ورأى إنها صالحة لتقديم تفسير شامل لكافة الآحداث والظواهر الإنسانية والكونية، وأن تكون، بالتالي، قاعدة داعمة لفكرة التقدم.

وقد إنطوت هذه الفكرة على ما يفيد إن التاريخ يتحرك دوما إلى أمام، وأن البشرية تندرج نحو مستقبل لا بدّ أن يكون أفضل من الماضي. ومن هنا تمتعت هذه الفكرة، خلال القرن السابع عشر عمومأ والقرن الثامن عشر خصوصأ، بتأثير فكري حاسم ولاسيما في توجهات الطبقة المتوسطة الفرنسية. ومما ساعد على ذلك انذاك إنتشارقناعة مفادها أن هذه الطبقة »… هي أقدر الطبقات على حمل راية التقدم والسير بها إلى الآمام«.

إن الآنتشارالواسع لهذه الفكرة، دفع في وقته إلى الحديث عن » ديانة » التقدم، التي دعمتها الفلسفات المادية، ولاسيما الجدلية، التي عمد الفيلسوف الآلماني )كارل ماركس، Karl Marx 1883-1818( إلى تبسيطها. إضافة إلى أن الفلسفة الوضعية، التي يعد عالم الآجتماع والفيلسوف الفرنسي )أوغست كونت، August Comte 1857 -1798( مؤسسها، والتي إزدهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت قد دعت إلى إحلال العلم محل الدين، وإن يقوم العقل والعلم بقيادة البشرية نحو الحضارة والتقدم والرقي فضلآ عن الإنتقال بالمسار التاريخي إلى نهايته السعيدة: أي إلى المرحلة الوضعية.

ويرى، قسطنطين زريق، إن هذه النظريات الفلسفية الشاملة تختلف فيما بينها في ثلاثة أمور أساسية: » أولآ، في نظرتها إلى جوهرالكيان الكوني والإنساني. أهو المادة، أم الفكر، أم الروح، أم شىء أخر يختلف عنه، وإلى العامل أو العوامل التي أوجدت هذا الجوهر وطورته… ثم هي تختلف، ثانيأ، في الشكل الذي تصورته للتغيرات التاريخية: أهو خط مستمر يسير… من بداية معينة إلى نهاية معروفة تختلف عن البداية، أم هو خط دوري يعود إلى منطلقه الآول ثم يكرر دوراته في فترات زمنية محددة، أم هي خطوط دورية متعددة ومتماثلة…. وثالثأ، تختلف هذه )النظريات( في مدى ما تفرضه في الحركة الكونية أو الإنسانية من حكم قدري أو تحتيم خارج عن إرادة البشر. فبعضها… يجعله مطلقأ لا أثر فيه لاختيار الإنسان وقدرته وفعله، وبعضها يقر بهذا الآثر ويؤكده على درجات متفاوتة من الإقرار والتأكيد«.

وعلى الرغم من اختلاف وتباين هذه النظريات، إلآ أن قسطنطين زريق يؤكد، مع ذلك، إنها »…تتفق جميعأ في أنها تتوجه إلى المستقبل الكوني أو الإنساني في نظرتها الشاملة إلى تطور التاريخ والقوى الدافعة له، وهي تنتظم في نمط واحد إذ إنها تقوم على عقائد كلية منبثقة من الخيال والإيمان والفكر بدرجات ونسب مختلفة…«

ولا يستطيع المرء نكران التاثير الحاسم لبعض هذه النظريات في دفع الإنسان إلى تغيير حاضره إيجابأ، وبالتالي صناعة مستقبله على وفق إرادته الحرة. وتكفي الإشارة. مثلا، إلى تاثير فكرة التقدم اعلاه.

وأخيرأ يشير الطور الرابع لتطورالتفكير الفلسفي إلى إنه صار ولي مواضيع جديدة عليه، أهمية خاصة، ومنها التأمل في صور )أو مشاهد( المستقبل. وقد نبع إهتمام الفكر الفلسفي المعاصربدراسة المستقبلات جراء إدراك مفاده إن التفكير الفلسفي لا يستطيع أن يكون بمعزل عن مخرجات تسارع معدل التغيير في العالم، والتحولات الكبرى الناجمة عنه سيما وإن هذه التحولات تنطوي على تاثير في تفاصيل تصور الإنسان لمشاهد مستقبله.

والفلسفة، عندما تتأمل في المستقبل، فأنها تتأمل فيه بوصفه جزءأ من كينونة الإنسان، التي تتحرك بين محورين أساسيين : الماضي وخبراته التي تشكل الآنا وملامحها الآساسية، والمستقبل باعتباره الآفق الزماني الذي تتجه اليه اللحظة الراهنة. وكذلك تتأمله للعلاقة بينه وثقافة الزمان داخل المجتمعات الإنسانيةسيما وأن لهذه الثقافة تأثير يمتد ليشمل جل مفاهيم الإنسان وقيمه بل وحتى نظرته للاشياء البسيطة. لذا فأن دراستها للمستقبل تتميز بطابعها القيمي. فنوعية حياة الإنسان ودينامية المجتمعات في المستقبل هي محور اهتمام الدراسات الفلسفية المعاصرة ذات البعد المستقبلي.

———————-

استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات