الكاتبة والقاصة اللبنانية “منى مرعي” الكاتب ليس عليه أن يكون موضوعيًا

               تقتحمُ الكاتبة والقاصة اللبنانيّة منى مرعي في مجموعتها  القصصيّة “شياطين الدومينو”، الصادرة عن دار النهضة العربية في بيروت، عوالم المسكوت عنه على مدار عشر قصص متنوعة ومتشابكة، تنفضُ الغبار عن الذاكرة الجمعية تطرق باب الحرب وبعيني طفلة تنقل لنا ذلك الجو المضطرب لحياة المهجرين في الملاجئ صراخ الأطفال وشغفهم باللعب وبالاكتشاف، الرغبة بالاختفاء حتى يجدنا أحدهم، فقدان الأب وغياب الأم، افتقاد الحب، والحرمان العاطفي، تضحية الأمهات، وشريط الذاكرة بالأبيض والأسود.

يبدو نصًا خارجًا عن المألوف محبوكا بما يكفي ليكون طلائعيًّا، غير خاضع لأسس الكتابة التقليدية، يتداعى في أحيان ليقول ما له ناقلًا زخًما من المشاعر، يجول في ذكريات البلد وما ولدته الحرب في نواحيه، يطرق المواضيع بأسلوب شائك يشتبك مع الواقع في أماكن مختلفة، وعلى كونه مجموعة قصصية إلا أنّه يترابط ترابط الطوابق في مبنى قديم في حي المعلوف.

منى مرعي

        تذكر الكاتبة منى مرعي، متحدثةً عن تجربتها لـلحصاد، أنّ كل قصة من المجموعة كُتبت على حِدة، وكانت مرحلة إتمامها متقطعة نتيجة انشغالات كثيرة: “عملية الكتابة كانت متقطعة، هربٌ ورجوع،  بدأت الكتابة منذ العام ٢٠١٣ وصولا إلى العام ٢٠١٨، وانتهيت  في أواخرها إلى أن تم تجهيزه للنشر في العام ٢٠١٩، ذهبت حينها إلى أميركا لإتمام رسالة الدكتوراه، ولاحقًا تسارعت الأحداث الجلل في البلاد؛ من وباء الكورونا، الوضع الاقتصادي، تفجير ٤ آب، والثورة.. مما سبب تأخرًا في مواعيد النشر “.

وتُضيف: “الكتاب أخذ منحة من المورد الثقافي، حيث أن الفكرة كانت في البداية أن يكون الكتاب بصريًا ضمن ورشة كتابية بصرية. بحيث يكون فعل الكتابة متزامن مع العمل البصري بطريقة يسبق البصري فعل الكتابة أو العكس (هي عملية تأثُر وتأثير ضمن ورشة فنية أدبية). نتيجة عدة عراقيل لم يتم المشروع، وفي النهاية اخترت أن أعمل فقط على كتابة النصوص.

شياطين الدومينو

يستمد العنوان سماته من مجموع القصص والتي يُمثّل الأطفال الشخصيّة الرئيسة في كثير منها، من “فستان أصفر مصنوعٌ من طبقات من الكشكش..”، إلى الصغيرة التي ضجّ الجميع بالبحث عنها ليجدونها في النهاية متخفيّة تحت الطاولة “اللعنة حتى عندما أضيع يصعب وجودي، فليجدني أحد ما. أنا المختفية إلى الأبد”، إلى عدوانية الأطفال المقنّعة باللعب “ونحن كنا هناك، أحجار الدومينو نذوب في تلك الركلات..”، إلى التنمر الذي يجيده الأطفال ويبدعون فيه في “يا حسن بدك كداديش” ذلك على الرغم من العنف المحيط بالحكاية، إلا أنّه يُنقل للقارئ بطريقة غرائبيّة باعثة على الضحك والفرح أحيانًا، كما في حالة سرديات الحرب:  “إنها الحرب تجعلنا نفرح بكل شيء .. إنها الحرب التي تجعلنا نفرح بكل غباء..”. تهتم الكاتبة للمجاز الذي تعنيه لعبة الدومينو والذي يتمثّل –برأيها-  في: “تناقل وقوع أحجار الدومينو وتناقل العنف بين الشخصيات وتناقل الحكايات وتناقل السرديات بين طوابق البناية، لأننا هنا نتحدث عن بناية وعن أحداث هذه البناية، وهنا ما يهم هو الناقل بين الأشياء وكيف تتأثر القصص ببعضها البعض. لتخلق جوًا عامًا متجانسًا نوعًا ما ومتداخلًا، وفي ذات الوقت له خصوصيته. فلكل حكاية خصوصيتها. وكوني أتحدث عن الحرب من منظار طفلة تشاهد القصص وجزء من حكاية فهناك نوع من الشيطانات الطفولية حتى القصص التي لا يوجد فيها أطفال تحوي نوعًا  من الشيطنة وقلب القوالب الجاهزة وهكذا فالشيطنة لها معنى إيجابي أيضًا، في كل الحكايات الأخرى.”

قصص متنوعة في بناية واحدة

بأسلوب متمكّن وبلغة حيّة التراكيب، وبتلك الروح المعنوية العالية وحبّ الحكايا، تربط الكاتبة بين القصص على اختلاف موضوعاتها وشخوصها،  وتلفت الكاتبة إلى أنّ “الرابط والجامع بين القصص هو البناية التي تحدث فيها حكايا وهمية في حي المعلوف. فالبناية حوت العديد من الشخصيات من غير الجنسيّة  اللبنانية أيضًا، ولم يكن الهدف التحدث عن لبنان كصورة وطنية بل هدفت إلى الحديث عن هذه البناية بالتحديد ومن خلالها نرى نسيجًا مجتمعيًا عايش الحرب الأهلية اللبنانيّة وما بعد الحرب، وأثرت فيه الحرب، وعن كيفية معايشته للأحداث قبل الحرب كذلك، فهناك قصتان تحدثت فيهما عن ما قبل الحرب في بيروت أثناء حقبة الثلاثينيات.”

تضيف: كان الهدف أن أنقل الوجه الآخر للحرب من وجهة نظر طفلة، إذ قلّما تطرأت القصة اللبنانية إلى موضوع الحرب من وجهة نظر طفل في مرحلة منتصف الثمانينيات، وهي مسألة لها طابعها الخاص.

        الكتابة ذاكرة انتقائية

        ترى الكاتبة منى مرعي أنّ المتخيل السردي في قصصها يستمد مواده من الواقع المعاش، وتصف ذلك: ” حتى في حياتنا اليومية نعدّل على ما عشناه، فذاكرتنا تصطفي ما يناسبها، تختار  أشياء وتمحي أشياء أخرى وتلطّف وقع بعض الأحداث،  حتى أننا قد نضيف إليها ما قد يُكمل الصورة المشهد في خيالنا ولكي نتمكن من التعامل مع ما عشناه، فالأمر يتعلق بكيفية التعامل مع الذاكرة وما نبنيه على غياب الحواجز بين الواقع والمتخيّل”.

وبالتالي، لا يمكن في مكان ما الفصل بين الواقع والمتخيل السردي. فنحن –والكلام لـ مرعي- نعيش في مرحلة فيها الكثير من التداخل بين العالمين، فالحدث الذي كنا نظنه لا يحدث إلّا في الخيال  بات أقرب الى يومياتنا، المتخيّل أصبح واقعًا، والواقع بات يلجأ الى التخييل لأغراض متعددة، هناك أيضًا التكنولوجيا والعالم الافتراضي وتداعيات الذكاء الاصطناعي، حيث كل الحواجز تسقط، ومن  الطبيعي أن تتأثر بذلك الكتابة.

        حرب ونساء..

تتنوّع موضوعات القصص بما يجعلها مجموعة غنية بالأحداث،  تحتل الحرب وتأثيراتها حيّزًا هامًا منها، ولدى سؤالها عن كيفية توثيقها لذكريات الحرب والتي تبدو أنها حكاية كل لبناني عايش مرحلة القصف والتهجير، تؤكد مرعي: ” الحرب تجذّرت بنا حتى أصبحت نحن،  من الحرب الأهليّة، إلى الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982،  حرب التحرير 1988- 1989، الحروب الصغيرة المحليّة، الإنقسام السياسي الحاصل في البلد، إضافة إلى العديد من الطروحات الاجتماعية والنفسيّة للقصص. فالقصص تحافظ على عناصرها السرديّة، وحضور شخصيّاتها، والقارئ يجد نفسه مندمجًا مع أحداثها”.

تنسج مرعي قصصًا بما يبدو أنها يوميات عايشها الكثير منّا، بما يعني أنها ليست ذكريات الكاتبة وحدها، توضّح: “صحيح هناك هامش متخيل في القصة ولكن هي ليست ذكرياتي الخاصة فقط هي ذكريات أشخاص كثُر، حكايا سمعتها وأضفت إليها من تجربتي الخاصة وأضفت عليها من المتخيّل. هي مجموعة تستلهم من الواقع قصصها. وبالتالي تشكلت القصص على أساس بناء معيّن يجمع بين الواقع والمتخيّل.”

وعلى نفس الوتيرة تحضر النساء محمّلات بهمومهن الكبيرة والصغيرة، فالكتاب مليء بحكايا النساء -كما تقول مرعي- وتشير: “النساء يحملن حكايا الحرب، وخارج الحرب لهن قصصهن الخاصة وهو ما حاولت قوله من خلال عدّة قصص منها قطبة  التي تحكي عن تناقل الحزن والفرح والصدمات بين ثلاثة أجيال الأم والجدّة والإبنة، وعن القصة المؤلمة للأم التي يُنكر عليها حقّها في التعلم والعمل لكونها أصبحت أم. وفي قصة “بانيو” تحدثت عن المرأة المقموعة جنسيًا. وفي قصة “يوسف زوليو” هرب الأم وعلاقة الإبن بأبٍ لم يعرفه يومًا”.

 لا تخضع كتابات مرعي هنا للتصنيف الأدبي، فتقول: “عندما أكتب، أكتب كإنسان ككائن حي يتنفس، ويتحرك وليس انطلاقًا من ادّعاء أنني كاتبة نسويّة،  ولكن النتيجة هناك ظهور واضح لقمع المرأة ومحاولة للخروج من دوائر القمع وهذا نسوي بامتياز . أكتب بعيدًا عن كل التصنيفات ومع كلّ الدعم للحركات النسوية بحيث من المهم جدًا أن نقرأ كتابات جوديث باتلر، وفاطمة المرنيسي ونوال السعداوي ونمارس ما كتبوا في يومياتنا، ولكن -بالنسبة لي- حين أكتب، أبتعد قدر الإمكان عن أي نوع من التصنيفات لأنني أريد للحكاية أن تتنفس بكل حريتها من دون أطر محددة. ثانياً كي يستحق كاتب/ة  تصنيف أنه/ا نسوي/ة، يجب أن يكون قاصداً لذلك ويجب أن يتبحّر بالإشكاليات التي طرحتها موجات النسوية الأربعة. القصدية هنا مهمة جداً، وأنا بكل شفافية لا أقصد أن أجعل من كتاباتي نسوية وإن كانت النتيجة كذلك.”

الأدب والقضية

تؤكد الكاتبة مرعي، أن على الأدب أن يحمل قضيّة ما، وتُقارب الأمر من خلال مثل مسرحي يقول: “حتى المسرح اللاسياسي هو سياسي نوعًا ما”، لأنّه برأيها يعكس طريقة عيش معينة حافلة بسياسات معيّنة. وتضيف: في الوقت عينه حتى الأدب الذي لا يحمل قضية هو حامل قضية معينة لأنه يظهر نمط حياة، وهناك دائما ما هو أكبر من القصة بذاتها وأكبر من ذاتية القصة التي تعكس كيف يكون المجتمع . فالكاتب لا يمكن أن ينعزل عن قضايا مجتمعه، والنقد الواقعي يأتي كنتيجة وليس كهدف لكتابة القصة. وتضيف: ” أنا لم أهدف لشيء، كل هذه القصص هي عبارة عن نتيجة لم أسع لها. الأمور أبعد وأكثر تعقيدًا من حصر القصص قي قضايا تنضوي القصة تحت لوائها. القضية في القصة قد تكون نتيجة وليست هدف، وذلك ليس لأن القصة أسمى من أن تحمل قضايانا، بل لأننا نعيش في مجتمعات مثقلة بقضايا الشأن العام لدرجة تصبح الأخيرة متعشقة في لا وعينا، فلا حاجة لجعلها هدفًا”، وتضيف: “هي في يومياتي،  لا أحتاج القيام بجهد زائد لأبررها، وكل ما هو غير ذلك هو تلقين، وأنا أبتعد عن التلقين. خاصة وأن الحكاية الحاملة لقضية تفترض نضالًا بشكل معيّن تقوم به شخصيات الحكايات، وأحسب أن الشخصية المعاصرة معركتها مختلفة”.

وفي الختام تذكر: ” الذات هي جزء فاعل من عالم الكتابة، حتى لو تقصّدنا الموضوعية، فكل ما حولنا تنطلق رؤيتنا له من تجاربنا الخاصة، الكاتب ليس عليه أن يكون موضوعيًا. نحن كائنات لنا تجاربنا الخاصة وفهمنا الخاص، وبالتالي فالموضوعية ليس لها مكانها في القصص، أو في قصصي على الأقل”.