جواد عدره لـ “الحصاد”: استقلال لبنان كرّس اللا دولة واللا وطن

خرجت في لبنان منذ بدء الانهيار عام 2019 شخصيات من المجتمع المدني والباحثين والمفكرين تُطلق افكارها ومشاريعها ورؤياها لمعالجة الازمات القائمة اسباباً ونتائجَ ومقترحات حلول، لكنها إزاء الواقع القائم من سيطرة القوى التقليدية السياسية على مفاصل الحكم لم تستطع التأثير في تغيير مسار الاحداث ولا مسار الانهيار المتسارع، لأن كلمتها غير مسموعة او لأنها غير مرتبطة بجهة سياسية وازنة، وكان بالكاد لها دور استشاري للإستئناس وليس بالضرورة للتقرير، ولكن تأثيرها كان موجوداً لدى الرأي العام، لانها تستند الى معطيات ثابتة وارقام واحصاءات وابحاث ودراسات جيو – سياسية واقتصادية.

 من هذه الشخصيات، برز الشريك التّنفيذي في “الشّركة الدّوليّة للمعلومات” الاستاذ جواد عدره، المختصة بالدراسات والاحصاءات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والانتخابية. وسبق ان تردد اسمه كمرشح (سنّي) لتولي حقيبة وزارية خلال مشاورات تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2018، لكن تم سحب اسمه من قبل بعض

جواد عدره

الجهات السياسية التي طرحت توزيره لأنه اعلن انه لا يمثلها سياسياً. وفي العام 2022 جرى تداول اسمه الى جانب آخرين  كمرشح لرئاسة الحكومة بعد اعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة نتيجة إجراء الانتخابات النيابية.

 وفي هذا الحوار مع عدره، اضاءة على اراء سياسية مستقلة غير تقليدية في اسباب الازمة التي يمر بها لبنان وسبل الخروج منها.

يعيش لبنان أزمات متتالية منذ الاستقلال وصولا إلى الحالة الراهنة من الإنهيار الشامل. بناء على تجربتك في البحث والإحصاء والاستنتاج وعلاقاتك العامة، ما هي برأيك أسباب فشل النّظام السّياسي والاقتصادي اللّبناني؟

– تعود أزمة لبنان إلى تاريخ إنشائه في العام 1920 على يد المفوّض السّامي الفرنسي الجنرال غورو، إذ لم يكن الهدف، آنذاك، إنشاء وطن وكيان بقدر ما كان فصل هذا الجزء عن سورية تحقيقاً وتنفيذاً للاتّفاقيات الدّوليّة، وتحديداً اتّفاقية سايكس_ بيكو.

وجاء الاستقلال المعلن في العام 1943 ليكرّس اللادولة واللاوطن، ذلك أنّ التّفاهم بين شخصَين يتزعّمان طائفتين لا يُنتج وطناً، وليس بالوسع اعتبار نفي الانتماء إلى الشرق والغرب سوى هروباً من مشكلة الجغرافيا التي حاصرت الكيان منذ وجوده، فكيف تكون “حياديّاً” وأنت على الحدود مع سوريا وفلسطين المحتلّة؟ لم يتمكّن أحد من فهم هذه المعادلة. وللهروب من المواجهة ولتعزيز سلطة الزّعيم طائفيّاً ومناطقيّاً، تمّ تعزيز كيان الطوائف والمذاهب وتعزيز سلطتها، فأَقرَّ القانون، لغاية اليوم، الاعتراف بوجود 18 طائفة موزّعة بين المسلمين والمسيحيّين، وهذا سبب من أسباب الفشل في بناء الدّولة اللّبنانيّة الراعية والحامية والجامعة لكل اللّبنانيّين وليس دولة الطوائف والمذاهب.

لهذا فشل النظام السياسي

  وقد فشل هذا النّظام في إيجاد حلولٍ للمشاكل القائمة منذ إنشائه لغاية اليوم، ابتداءً من مشكلة الهويّة، إلى الانتماء. والجدير بالذكر أنّ تقارير بعثة “إرفد” Erfed في أوائل الستّينات لا تزال تصحّ اليوم، وكانت قد تحدّثت عن الفقر وعدم توافر الخيرات في المناطق الريفيّة وغيرها من المشاكل التي ما فتئت تتفاقم منتجةً مشاكل أخرى، فليس متوقّعاً من نظام المحاصصة والزبائنيّة أن يبني وطناً.

*من يتحمّل مسؤوليّة الفشل والانهيار، طبيعة النّظام السياسي والاقتصادي الحرّ المتفلّت وتركيبته، أم ممارسات أهل السّلطة، أم السببين معا؟

– أسباب الفشل، كما سبق وذكرت، تتحمّلها ثلاثة أطراف أو جهات، هي أوّلاً، طبيعة النّظام الطّائفي القائم على المحاصصة، وثانياً، الزّعامات السياسيّة التي أدارت البلاد بعقليّة متخلّفة، وثالثاً، الشّعب الذي ارتضى بهذا الواقع ولم يعمل على تغييره وتبديله، وهو،واقعيّاً، أسير النّظام والزّعامات.

إنّ نتائج الانتخابات الأخيرة (2022) خير دليل على ما أقول، إذ تمسّكت أكثرية النّاخبين بمذاهبها وطوائفها، وأعادت تجديد ثقتها بالطّبقة السّياسيّة الحاكمة، فقد اقترع 1,951,683 مقترعاً، منهم نحو مليون و600 ألفٍ اقترعوا لمرشّحي القوى السّياسيّة ذاتها.

 فالشّعب هو مصدر السّلطات ومصدر التّغيير، وهو يتحمّل المسؤوليّة السّياسيّة عن مسار الأمور والانهيار الحاصل. ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى عقدة أو “متلازمة ستوكهولهم” حين تقع الرهينة في حب خاطفيها، والواقع يشير إلى أنّ الناس اختاروا سلامة الواقع (على سيّئاته) بدلاً من المراهنة على منقذي النّظام الذين فشلوا في تشكيل قيادة ومشروع.

*هل من خلل أو ثغرات في الدّستور اللّبناني أو تطبيقه تفترض إعادة النّظر فيها، وما هي، وكيف يتمّ تصحيحها؟

– من خلال مراجعة نصوص مواد الدّستور اللّبناني، خصوصاً بعد التّعديلات التي أدخلت عليه في العام 1996 بموجب اتّفاقية الطّائف، نجد ثغراتٍ وخللاً وتناقضاً وعدم وضوح في العديد من المواد. مثالاً، موضوع نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة المحدّدة في المادّة 49 من الدّستور، وكذلك الفقرة 7 من المادة 67 من الدّستور، ويبقى موضوع المادة 98 المتعلّقة بإلغاء الطّائفية السّياسيّة، وهذا الأمر لم يتحرّك فعليّاً منذ أكثر من 25 عاماً.

تناقض فصل السلطات

 والملفت للنظر، هو التّناقض في فصل السّلطات من جهة، والديموقراطية من جهة أخرى، حيث يجيز الدّستور الجمع بين النّيابة والوزارة، وهذا يُفقِد العمل قيمته، خصوصاً عندما تكون الحكومة مؤلّفة من 30 وزيراً، جلّهم من النواب، فإذا بالقوى السياسيّة “تراقب” ذاتها.

والمادّة 58 من الدّستور التي تنصّ على أنّ كلّ مشروع قانون تقرّر الحكومة كونه مستعجلاً بموافقة مجلس الوزراء، مشيرة إلى ذلك في مرسوم الإحالة، بحيث يمكن لرئيس الجمهورية بعد مضي أربعين يوماً من طرحه على المجلس وبعد إدراجه في جدول أعمال جلسة عامة وتلاوته فيها ومضي هذه المهلة من دون البتّ فيه، أن يصدر مرسوماً مقضياً بتنفيذه بعد موافقة مجلس الوزراء. وإذا حصل ووضع رئيس المجلس مشروع القانون في أدراجه، لن تسري مهلة الأربعين يوماً، وقد يعطّل ذلك عمل الحكومة ويُعتبر اعتداءً من الّسلطة التّشريعيّة.

وبعد إقرار اتّفاقية الطّائف، اعتمدت نظريّة “الترويكا” (القيادة الثلاثية) في إدارة البلد، ما أدى إلى تعطّله في حال غاب التّوافق. كذلك، يتعطّل القانون والدّستور ويتمّ تجاوزهما في حال توافق الترويكا، فاختلافها نقمة واتفاقها نقمة أيضاً.

اسباب اقتصادية ومالية

*ما تأثيرات ما سمي “الثورة أو الانتفاضة أو الحراك الشّعبي عام 2019 على تركيبة البلد ووضعه الحالي. وهل تتوقّع تجدّد هذا الحراك بعد الانهيار الشامل المالي والاقتصادي والمعيشي؟

– لم نعرف، لغاية الآن، السبب الفعلي لحراك أو ثورة 17 تشرين الأوّل 2019، وهي بالنسبة لنا سراً، وكذلك هي أسرار تلك الوجوه والشّعارات التي ظهرت فجأة واختفت اليوم. لا نعلم من حرّكها ومن حّول بعض تلك التّظاهرات، لكن الأكيد أنّ هناك وجعاً حقيقياً حرّك المشاعر لأناس كثر تخيّلوا لبعض الوقت أنّ في إمكانهم إحداث التّغيير. والسؤال لماذا لم تتحّرك هذه الثّورة أو الانتفاضة سابقاً، فالانهيار لم يبدأ في العام 2019، إنّما قبل ذلك التاريخ، عندما أصبح أكثر من نصف اللّبنانيّين لا يتّمتعون بأيّة تغطية صحيّة سوى ما توفّره الدّولة من خلال وزارة الصحّة العامّة، في حين أنّ الإنفاق الحكومي على الصحّة قد بلغ نحو مليار و200 مليون دولار سنويّاً قبل الأزمة، في الوقت الذي يموت فيه أو يصاب مئات الأشخاص بأمراض سرطانيّة لأنّ دولتنا شاءت أن تبيح حياة مواطنيها لمصلحة شركات الإسمنت وغيرها من الصّناعات الملوّثة تحت ذريعة حماية الاستثمارات والاقتصاد الحرّ!، فلماذا لم يتحرّكوا اليوم؟ خرج مئات آلاف اللّبنانيّات واللّبنانيّين للمطالبة بإقصاء قوى سياسيّة عملت على تدمير الوطن أو في أفضل الحالات لم تبنِ وطناً، ولكنّ الخيبة كانت بالانتظار.

   فشلت الثّورة أو الحراك، ودخل لبنان نفقاً مظلماً مع انهيار تام عام وشامل في كلّ القطاعات، سأذكرها بالأرقام كالتالي:

  • انهيار سعر صرف اللّيرة اللّبنانية من 1500 ليرة، وهو السّعر المستقرّة عليه منذ نهاية العام 1998، وصولاً إلى 2250 ليرة في نهاية العام 2019 مع بداية الانهيار، وليرتفع في نهاية العام 2020 إلى 8500 ليرة، منهياً العام 2021 على سعر 27500 ليرة، والعام 2022 على سعر 43 ألف ليرة. وقد وصل في أذار الماضي إلى 143 ألف ليرة ليعاود الانخفاض والاستقرار منذ بداية شهر نيسان على سعر 97 ألف ليرة، وبذلك تكون اللّيرة اللّبنانيّة قد خسرت نسبة 98.5% من قيمتها، في حين أنّ المعطيات والمؤشّرات الاقتصاديّة لا تبرّر هذا الانهيار السّريع، وبالتالي علينا البحث عن المسؤول أو المسؤولين السّاكتين عمّا يحصل في قيمة ليرتنا اللّبنانيّة؟
  • تراجع احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة من نحو 34 مليار دولار في بداية الأزمة إلى نحو 9 مليارات و500 مليون دولار حالياً، وقد تمّ تبديد نحو 7 مليارات منها على عملٍ غير مجدٍ استفاد منه التّجار وليس المواطنين.

والملفت للإنتباه أنّ هذا الاحتياطات الكبيرة ليست لمصرف لبنان بل هي ودائع الناس التي أودعوها في المصارف، والأخيرة أودعتها بدورها لدى مصرف لبنان كشهادات إيداع واحتياطي إلزامي، كونه المجال المتاح أمامها لتوظيف فائض السّيولة. وبالتالي، لم يكن يحقّ لمصرف لبنان وحاكمه المدعوم من القوى السّياسيّة، التّصرف بهذه الأموال بأيّ شكل من الأشكال.

  • ارتفعت نسبة التضخّم وهي النتيجة الطبيعيّة لانهيار سعر صرف اللّيرة، ووصلت منذ بداية الأزمة ولغاية نهاية أذار الماضي (2022) إلى 1840%،

ونتيجة لذلك ارتفعت كلفة السلّة الغذائيّة والاستهلاكيّة للأسرة اللّبنانيّة المؤلّفة من 4 أفراد من 450 ألف ليرة شهرياً (ما كان يوازي 300 دولار أميركي) إلى 16 مليون ليرة (ما يوازي 165 دولاراً) وقد ارتفعت باللّيرة بنسبة 3455%، بينما انخفضت القيمة بالدّولار بنسبة 45%. وإزاء كلّ ذلك، إنّ أكثر من 90% من العاملين دخلهم باللّيرة وليس بالدّولار، كما أنّ الزيادات على الرّواتب والأجور وكلفة النّقل جاءت بنسبة متدنيّة جداً مقارنةً بنسبة ارتفاع الأسعار، وهذا ما سبّب الكارثة الحاليّة لأكثريّة الأسر اللّبنانيّة.

  • تبخّر تعويضات نهاية الخدمة، إذ أنّ متوسّط التّعويضات كان 55 مليون ليرة، أي ما كان يوازي 36 ألف دولار، أصبحت اليوم 560 دولار، وضاعت ذخيرة العمر، وهذه جريمة أكبر من جريمة ضياع الودائع.

وكانت موجودات صندوق تعويضات نهاية الخدمة لدى الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي تصل إلى 12 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي 8 مليارات دولار، أصبحت اليوم أقلّ من 125 مليون دولار. واليوم، هناك مشروع لمعالجة هذه المشكلة- الكارثة.

وعلى الرغم من كل ما عرضته من هذا الواقع والانهيار الكبير، لم نشهد أيّة تحرّكات، وهنا سرّ أيضاً من الأسرار. ونعمل في “الدّوليّة للمعلومات” على دراسة سلوك اللّبنانيّين في محاولة لفهمه.

* ما هو برأيك حجم التّأثيرات الخارجيّة على الواقع اللّبناني، وكيف يمكن التفلّت من هذه التّأثيرات وتحقيق استقلال سياسي وحياد حقيقي للبنان؟

– هناك مشكلة داخليّة لبنانيّة مرتبطة بطبيعة التّركيبة السّياسيّة والطّائفيّة تسمح بالتّدخلات والتّأثيرات الخارجيّة التي تحدّد المصير والمستقبل في ظل عجز وفشل الداخل. فالحرب التي كان اللبنانيون على مدى 15 عاماً وقودها وأدواتها، توقّفت نتيجة التّدخلات الخارجيّة التي شكّل بعضها عاملاً أساسياً في إشعالها.

وفي المحطّات والمفاصل الأساسيّة، اللّبنانيّون عاجزون عن إيجاد الحلول، ولا بدّ من الاعتماد على الخارج، فالبنية الداخليّة هشّة، والانقسام الوطني والطّائفي كبير، ما يجعل الوطن مفكّكاً ومشرّعاً أمام التّدخلات الخارجيّة. اجتماعنا حول قضيّة تحقّق مصلحتنا تقوّينا بوجه المصالح الخارجيّة، فالخارج يقوى بتفكّكنا، وتبقى السّيادة والاستقلال وسواها، شعارات في انتظار أجيال جديدة من شابات لبنان وشبّانه، علّها تنجح في تحقيق ما عجزنا نحن عن إنجازه.