حكمت حسن والأثر الشعري الرؤيوي-زاهر العريضي والبحث عن حيوات أخرى

يسائل الشاعر نفسه حول مسائل وقضايا لطالما كانت تشغله، ويدور في فلك بين ذاته والعالم، باحثًا ومكتشفًا المساحات المجهولة في عالم اللاوعي، ومن خلال الكتابة يخلق وعيًا جديدًا يمتاز به، لينصّ تجربته الخاصة ويضعها بين أيدي القارئ وسط هذا الفضاء المليء بالمعاني، كما يقدّم  صورًا برؤى تجميلية تخييلية في مقاومة لبشاعة الوجود حيث تقاعس المجتمع في واقع يحرّض على العنف والدمار ويهدد الإنسانية. وتتشابك تفاصيل العالم مع تجربة الشاعر، فيضيف رؤاه الجميلة ليخرج بقصائد تمنح قوة الأثر.

والشاعر زاهر العريضي، على الرغم من كثرة الدوائر المطفأة، إلا أنّه يواصل البحث عن حيوات جديدة في محاولة منه لمتابعة فعل الأحلام من داخل الشعر بلغة سلسة مستمدة من المعجم اليومي القريب. ويعبّر عن تجربة إنسانية حيّة لا تخدم ذاتها فحسب، بل تتقدّم نحو الآخر الذي يعيد التفكّر بذاته، فتأتي الكتابة عنده كتعبير عن الذات المتشظية

حكمت حسن

الصارخة بمكنوناتها في هذا العالم، لتعود وترمم نفسها من جديد.

الجميع يشعر بالفاجعة ولكنّ للشاعر أساليب مختلفة عن التعبير فهو بإحساسه المرهف يلتقط أصغر الذبذبات في هذا العالم المغناطيسي، فكيف إذا عاش وسط تحولات بيروت السلبية التي أصابتها وقتلت أحلام أبنائها ومبدعيها حيث تسبب القساة بخرابها ودمار معالمها؟ من هنا جاءت المجازات لتصنع عالمًا متعارضًا لما كانت عليه هذه المدينة فإذا بنا أمام بيروتين إذا اصطلح التعبير: مدينة الخراب في مواجهة مدينة الحلم.

الشعر في مواجهة الفاجعة:

يحدّثنا موريس بلانشو عن الفاجعة في كتابه “أدب الفاجعة” وفي مواضيعه يعالج إشكاليات الأدب والكتابة من داخل الحدث، أو الكتابة بعد مرور الصدمات…  وفي “شيفرة لعوالم أخرى” الصادر حديثًاعن دار نلسن، من تصميم وإخراج الغلاف كارينا ديزاين السويد، تبرز الفاجعة بسبب احتراق الذات والوطن، فيجد القارئ نفسه أمام صرخة شاعر استعاض عن المسدس بقلمه وراح يفرغ حمولات الرصاصات في بئر الكتابة لكي لا يموت وحيدًا.

 أحمل قلمي خوفًا من المسدس/ أهرب هنا/ كي لا أموت وحيدًا

الشعر عند زاهر فعل نجاة من مدينة أفقدت الشباب أحلامهم فتحوّل الوطن إلى جحيم مصغّر:

هكذا أخبرني الواقع/ إن الواقع من دون حلم/ هو الجحيم

في هذه البلاد/ لا شيء/ سوى حفر في الماء

تكتب بطريقة سوداوية/ كلا مهلًا/ إني أنظف رأسي من قذارات كثيرة

الشعر بالنسبة إلى زاهر العريضي فعل مقاومة ومحاولة للهروب من هذا العالم الذي يعيش فيه سوء تفاهم تحكمه الوحدة والحزن لعله في حالة من البحث عمن يساعده لابتكار عالم جديد، لعله الخلق والكتابة التي يردم فيها الشاعر هوة الوجود فيعطي فرصة جديدة لنفسه في مواجهة موت محتم.

أصحو باكرًا وأنتظر/ عله يأتي ذاك المغامر/ يبتكر معي أحداث هذا العالم

الشاعر فارس الأحلام ورصاصة الرحمة:

يعاني الكاتب خيبة من نفسه من وجوده إنه في عملية بحث عن الأنا المتشظية في واقع نهشه وسرق أحلامه خذلته ظنونه تجاه المرأة التي ظنته فارس أحلامها فإذا به غارق مجروح. إنه صدق وعفوية المبدع الذي لا يعرف للكذب

زاهر العريضي

طريقًا، ومن الهشاشة كان يصنع قوة، لكن العالم غير المتزن أفقده أشياء من ذاته وما زال يحبها ويقترب من نبضات قلبها.

في انتظار رصاصة الرحمة/ قل أمنيتك الأخيرة واصمت/ النعش المتروك وحيدًا على أبواب المدينة

وأنت الذي مت وكررت موتك/ فلا تنتش كثيرًا/ كفى رقصًا فوق الفاجعة

يكتب زاهر في يوميات شاعر سابق:

وأنت المنسي في سياقات المدينة الخائبة

وفي حالة مماثلة ومشابهة، يرتبط الشعر بالشاعر كما الألم بالجسد، وتواكبه الذاكرة حافظة المقتنيات، مقتنيات المعاناة والحزن في أسطر تحمل في ثناياها شعرية قاسية:

في أكثر الأحيان / يخرج الشاعر مني/ كما الألم من الجسد

أحيانا احصي ذكريات/ كما يحصي البرجوازي أمواله/ فأكتشف كم أملك من مقتنيات ثمينة

في عنوان فواصل كلمة وسطر قصير: عبارة عن تعريفات للحياة للكلمات للصديق للحسد للحكمة….

سرديات مختصرة جدا: السؤال الذي ما زال يحيرني، هو كلمتان: من أنا؟

كأنني لست سوى/ سوء تفاهم غريب

ويختصر الشاعر كتابه معبّرًا عن صدمة تصيب الإنسان فالحكمة هنا فعل نضوج ووعي. تغيير كبير يجعله يدرك أنّ الوطن لم يعد يتّسع له وأنّ مشاهد الخراب ما زالت نفسها والوطن في طريقه إلى الزوال:

كيف حدث ذلك/ إنه أمر مريب

ما زلت تجلس في شرفة بيتك وتتامل المشهد/ أمامك والذي لم يتبدل لكنك انت حكمًا تغيرت كثيرًا/ كم أنّ ذلك رهيب/ نهاية وطن شجاع

حكمت حسن  قماش من أثير (دار نلسن)

أمّا الشاعرة حكمت حسن في ديوانها “قماش من أثير” الصادر عن دار نلسن أيضًا، فتحيا في خضمّ عالم تحاكي فيه الحزن والوحدة، تتقن الإنصات إلى الطبيعة وتعود إليها في ظل هذا القلق الذي يعتريها ويضعها في خانة من الاضطراب لتجد ذاتها بين البياض والسواد تولّد بينها ألوان لحياة تبتغيها.

الفلسفة في الشعر:

ليس خفيًّا على من سبق أن قرأ للشاعرة حكمت حسن من أن يعثر على شذرات فلسفية ضمّنتها لعالم خاصّ ابتدعته. إنها الحلولية واتحاد الذات بالكون والمخاطب، حيث آلية الحركة في الفضاء المكاني الذي تهيمن عليه المجازات والاستعارات، فإذا بالقارئ يقرأ المعنى مزدوجًا بين المجرّد والمحسوس، وقد أتت قصائدها على درجة عالية من الفلسفة والشعر.

وحدتي/ كون استساغ فعل الولادة/ خلع العتم/ الضوء…. وحدتي/ حزني/ وقلبك كوني

الحزن كللني/ افسح لأحلامي/ في اتساع البياض الوان شتى/أولدتها لتوي…

في ذلك السواد نمت بصيرتي/ مخلوق محا في كل آن زمانه/ بادعاء حركة المكان/ كائن ابتدع صورًا/ توحد مع فكره وانشطر.

يضاف الى حزني/ صوت الأوراق إذ أمر/ والالتحام/ ذلك الحزن القديم/ يتسع/ تتجاوز أضواؤه قوس قزح

إلحاح الذاكرة:

وتلحّ ذاكرة الأمس القريب والبعيد في آن على الشاعرة وتدعوها للبدء من جديد، فتتحول إلى امرأة مختلفة، ومن منظور سيكولوجي المرأة الشاعرة تبوح بما يجول في خاطرها وفكرها وبعواطفها وانفعالاتها وأحزانها اللامتناهية، وسط طبيعة تحضر بكل ما فيها من شفافية وصدق، وتشهد على هذا الحزن وتعرف مصدره وأسراره في ثيمات الغياب ونتائجه. فهذه الذات التي لا يمكن لها أن تنفصل انفصالًا تامًّا عن الذاكرة تتفاعل مع الأمس في منطقة الوعي وتحاول استعادته من خلال الشعر لتصير الكتابة فعل تعويض وقوة.

أجل هذا الحزن/ طريقي/ لا حواف تحميني/ لا نهاية لأبدأ/ تعود إلي أصداء/ من رحيل وبكاء/ لا أشجار تلفه…

فعل الكتابة والتأمّل الوجودي:

كذلك تسعى الشاعرة حكمت حسن إلى الوقوف أمام قضايا الإنسان والعالم فتشتغل على إضافة أفكار وإجابات لتساؤلات تباغت الإنسان وتثير تقلقه من خلال حساسيتها الشعرية واعتنائها بجمالية النصوص لتأتي قصائدها عى شكل مجازات تصل من خلالها رسائل وعِبر للإنسان. فتتجلى الوجودية لدى الشاعرة من مبدأ البحث عن الحرية التي ستخلص العالم وتنقذه من زيفه بعد العودة إلى الأصول عبر البراءة الأولى في الطبيعة بحسب مفاهيم وآراء الفلاسفة.

هذا القلق المصيري الوجودي الذي تعيشه الشاعرة انعكس على قصائدها ليشكل مادة شعرية، فأين يكمن معنى الوجود أمام هذا الكم الهائل من الحزن والشعور بالوحدة؟

لعل الشاعرة تضع قارئها أمام هذه الوحدة وتدعوه إلى لحظات للتفكر والتأمل بالذاكرة الماضية من خلال قصائد عبّرت عن تجربتها الصادقة.

كذلك تواجه الشاعرة فعل الانهيار بالكتابة التي تمثّل أمل المبدع حيث تجد معنى لوجودها وسط حزن ووحدة

وقلق وهي، على الرغم من كل ذلك تلجأ إلى الطبيعة خشية السقوط. لعلها تحدثنا هنا عن السقوط البشري للإنسان في هوة اليأس الذي لم ترغبه يومًا، حيث يتبدى الأمل في قصائدها وسط كل هذا الدمار. وتتجلى أنا الشاعرة في صورة من اللااستقرار الذي تبحث فتتفاعل وسط الكون وتتحرك في فضائها الرؤيوي لتخلق إبداعًا خاصًّا وعالمًا بعيدًا عن التشوهات.