حين غيرت واشنطن قواعد اللعب مع العراق

ذكر “ميلفين كليفر” في كتابه: “مواجهة صدام حسين: جورج دبليو بوش.. وغزو العراق” أنه “عندما تسوء الحروب التي تبدو جيدة، غالبًا ما يستنتج الأمريكيون أن تلك الحروب كانت غير مجدية أو فاسدة منذ البداية”. وفي موضوع الحرب على العراق عام 2003م كان هناك إجماع من الحزبين؛ الديمقراطي والجمهوري على أن الحرب كانت خطأ فادحًا وعلى أساس فرضيات خاطئة، وهو ما كان بالفعل كذلك. لكن العديد من النقاد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فروّجوا إلى أن الحرب كانت من عمل لوبي قوي مؤيد لإسرائيل أو مجموعة شائنة من المحافظين الجدد، وأن الرئيس جورج دبليو بوش كذب عمداً من أجل تصعيد الصراع وصولاً إلى شن الحرب، وأن الولايات المتحدة تدخلت بدافع الرغبة في النفط أو دوافع أخرى خفية.

الحرب على العراق(دولة من دول العالم الثالث) من قبل أكبر دولة في العالم (الولايات المتحدة) لم يكن تسويقها للنواب الأمريكيين سهلاً رغم فارق القدرة والقوة بين الطرفين عام 2002، فقد وصف باراك أوباما، سيناتور ولاية إلينوي آنذاك، الصراع القادم مع العراق بأنه “حرب غبية” مدفوعة بمحاولة إدارة بوش “إلهاء” الأمريكيين عن المشاكل الاقتصادية و “فضائح الشركات”، ووصف دونالد ترامب الغزو بأنه “أسوأ قرار منفرد تم اتخاذه على الإطلاق”، وألقى باللوم على مقاولي الدفاع الجشعين والجنرالات السعداء بالمغامرات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط ، في حين لم يكن أمام العراق من سلوكيات متاحة لدفع الحرب المتوقعة عليه إلا من خلال التلويح بالقوة(المفقودة) أو إعلان قبوله كل الشروط التي فرضها مجلس الأمن الدولي أو اللوبي الأوروبي-الأمريكي على القيادة العراقية دون أن يُمنح أية فرصة للتراجع الحاسم عن مواقف مثلت الحد الأدنى من قدراته للردع تجاه مشاريع الكِبار في لندن وواشنطن لتنفيذ غزوهم للعراق.

وفي كتاب بعنوان “كيف تتحرك الدول الصغرى: نحو نظرية عامة” نُشر في قاعدة البيانات العربية الرقمية “معرفة” لمؤلفه أحمد محمد أبوزيد نُشر عام 2012م من قِبل كلية العلوم السياسية لجامعة بغداد ، ذكر أبوزيد أنه “على الرغم من الاختلاف الظاهر بين مختلف نظريات التوازن الدولي التي تقول بها المدرسة الواقعية في دراسة العلاقات الدولية بصورها الثلاثة (توازن القوى- توازن التهديد- توازن المصالح) فيما يتعلق بسلوك القوى الكبرى، إلا أننا نرى أنها جميعا تتفق- و لأسباب مختلفة- على أن السلوك (الأمثل و الأفضل) المتاح أمام الدول الصغرى إن هي أرادت الحفاظ على أمنها و سيادتها و جودها في النظام الدولي هو مسايرة ركب القوى الكبرى  ، وبالطبع فإن مرجع ذلك هو تعاظم حجم الهوة في القدرات و الإمكانيات بين الطرفين، و التي تمثل عائقا و حائلا عظيما أمام هذه الدول تمنعها – منطقيا- من الوقوف في وجه هذه القوى أو تحديها”.

إن العراق الذي بدأ بتطوير إقتصاده وصناعاته وقواته المسلحة مع توفير ظروف متقدمة على مستوى الدول النامية في مجالات الصحة العامة ونُظم التعليم والإكتفاء الزراعي، لم يكن بعيداً عن أعين من يراقب نشاطاته، خاصةً بعد أن إستطاع العراق تجاوز قرارات صعبة تجاهل فيها الدول الكبرى ذات النزعة الإستكبارية مستفيداً من مرحلة القطبين الثنائيين التي تلت الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي؛ من هذه القرارات :

  • تأميم نفط العراق في 1 حزيران عام 1972م بما شكل بدايات لنهاية سيطرة الاحتكارات النفطية لشركات الأجنبية.
  • اتفاقية الحكم الذاتي لإكراد العراق في 11 آذار 1970م، بما أوقف نزيف الدم والاقتصاد العراقي وأسس لحقوق وطنية وقومية للأكراد العراقيين.
  • في /3/3 1975م، وافقت الرئاسة الفرنسية، خلال زيارة رئيس وزراء فرنسا جاك شيراك إلى بغداد على بناء مفاعلين في العراق، وهما مشابهان تماماً للموجودة في مركز الأبحاث النووية التابع لوكالة الطاقة الفرنسية (CEA) وهما:
  • مفاعل رئيسي (OSIRIS) بسعة 40MW قابل للتطوير حتّى إلى سعة 70 MWسمي (OSIRIS) ويعمل بالماء الخفيف وأطلق عليه العراق (تموز1).
  • مفاعل تدريبي (ISIS) بسعة 600KW ويستعمل في فرنسالتدريب العاملين على تشغيل المفاعل الرئيسي (OSIRIS) وأطلق عليه العراق (تموز 2).

إن التطورات الاقتصادية مع الاستقرار السياسي للعراق وعلاقاته الجيدة مع الاتحاد السوفييتي وفرنسا على وجه الخصوص جعلته يحظى بقدر كبير من الاهتمام والعلاقات الإيجابية المتبادلة مع معظم دول العالم، لكنه كان دائماً ما يشير بوضوح وبخطاب واضح الدلالات لا يخلو من الإشارة إلى القوة، إلى حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى بلاده وضرورة إلتزام الكيان الصهيوني بالانسحاب من كامل التراب الفلسطيني والعربي خاصة بعد هزيمة 5 حزيران 1967م. كما كانت علاقة الحكومة العراقية بالإدارات الأمريكية، وبسبب دعم واشنطن للكيان الصهيوني، وتدخلات الجانب الأمريكي بالملفات الأمنية العربية والإقليمية المؤثرة على العراق بشكل خاص، مضطربة وغير مستقرة رغم محاولات جرت هنا أو هناك لتغيير مسار العراق القومي إلا أن شعور العراق بالقوة حول هذه العلاقة المضطربة شيئاً فشيئاً إلى صِراع متنوع الشدة كانت أشد حالاتها وضوحاً بعد سقوط شاه إيران وتمكين الخميني من قيادة إيران وتفجير صراع من نوع جديد يجمع بين الفتنة الطائفية والترهيب والعدوان تُرجمت إلى حربٍ شعواء إستمرت لمدة 8 سنوات إنتصر فيها العراق لكنه خسر مفاعلات تموز  1و2  ، وما يناهز أكثر من مليون ونصف المليون شهيد وجريح ومفقود ، بالإضافة إلى تحطيم إقتصاده بشكل كامل جعلت من إعادة نُظم الحياة إلى سابق عهدها ما قبل الحرب ، أمراً بالغ الصعوبة مع تزايد إحساس الحكومة العراقية بوجود مؤامرة برئاسة الولايات المتحدة للإجهاز على ما تبقي من قدرات العراق ، فكانت ضغوطات الكويت وردة فعل العراق الغير مُقدِرة بشكل دقيق للمتغيرات الدولية الكبرى المتمثلة بسقوط الاتحاد السوفييتي وتحلله وتحول النظام العالمي إلى نظام القطب الواحد ، فبات مكشوفاً بقدراته المحدودة جداً قياساً بقدرات الولايات المتحدة ، فكانت القرارات استمرارا لردود أفعال رسمتها بعناية واشنطن والدول المتحالفة معها شرق وغرب العراق.

إن الصراع الدولي يعتبر من الظواهر المعقدة جداً في العلاقات الدولية، وهي ظاهرة موجودة منذ عرف الإنسان التمركز في مناطق محددة لتبدأ مع هذه التمركزات البشرية زعامات ونزعات ثم نزاعات للحصول على مكاسب إختلفت شكلاً خلال آلاف السنين لكنها لم تتغير من حيث المعنى حتى يومنا هذا، والصراع بمعناه المجرد يشمل كل المجالات والميادين الشخصية والجمعية ثم الدولية سواءً كانت هذه المجالات اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية أو سياسية ، والمهم في هذه المقالة هو الصراع السياسي الذي يشير “إلى موقف تنافسي خاص، يكون طرفاه أو أطرافه، على دراية بعدم التوافق في المواقف المستقبلية المحتملة، والتي يكون كل منهما أو منهم، مضطراً فيها إلى تبنى أو اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني أو الأطراف الأخرى.” ، وهو أمر قد وقع فعلاً بين العراق والولايات المتحدة منذ بداية سبعينات القرن العشرين حتى أن نائب الرئيس العراقي ، صدام حسين ، وصف ذلك بدقة عندما قال في جمع جماهيري كبير ببغداد ” إن ثورتكم قد خرجت عن حدود الثورة المسموح بها” ؛ في إشارة واضحة إلى طريقة تعامل البيت الأبيض مع قرارات وتوجهات الحكومة العراقية واعتبارها أن بعض هذه القرارات قد تسيء إلى مساعي تحقيق السلام في الصراع العربي-الإسرائيلي ، كما أن بعضها الآخر قد يُفسد خط سير الولاءات لبعض دول المنطقة عندما يكون العراق دولة إقليمية محورية قوية.

لقد كان للدول الكبرى دائماً ، أساليبها ووسائلها في إخضاع إرادات الدول الصغرى ، وفي الماضي الممتد لحقب زمنية بعيدة ومتوسطة ، كان أسلوب فرض الأمر الواقع للإخضاع أو التغيير يعتمد إلى حدٍ كبير على استخدام القوة العسكرية ، لكن ، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية ، فإن أغلب الدول الكبرى اعتمدت أساليب غير عسكرية لحسم الصراع مع الدول الصغيرة باستثناء الولايات المتحدة بدرجة رئيسة ثم فرنسا والمملكة المتحدة بدرجات أقل ، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945م دخلت أمريكا خمس حروب في كوريا، وفيتنام، وحرب الخليج 1991م، وأفغانستان، والعراق 2003م ، إضافة إلى عشرات العمليات العسكرية التي إستهدفت بنما ، هاييتي ، الإكوادور ، جواتيمالا ، كمبوديا ، تشيلي ، الصومال ، ليبيا وغيرها. لكن ، وبعد المطب الكبير الذي وقعت فيه واشنطن بإحتلالها للعراق عام 2003م ، ثم تكبدها خسائر بشرية واقتصادية عبر بوابات للمقاومة العراقية فُتحت في جميع مناطق العراق ، قررت سحب قواتها من هذا البلد في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي أعلن في 21 إكتوبر/تشرين الأول 2011م، أن الحرب في العراق قد انتهت بعد تسعة أعوام، وأن بلاده ستكمل سحب قواتها من العراق بنهاية اليوم الأخير من العام الحالي ، وانسحبت فعلاً باستثناء بعض القوات التي اختارت قواعد عسكرية عراقية للبقاء بها كقاعدة “عين الأسد” غرب العراق.

خسارة الولايات المتحدة سمعتها دولياً وحربها في العراق وطنياً دفع واشنطن وأيضاً غيرها من الدول إلى تغيير قواعد المواجهة في الصراع الدولي، وقد كلف الجيش الأمريكي الباحثان: (ديفيدس. غمبرس و هانس بيننديك) لإعداد دراسة عن هذا الموضوع، فكانت بعنوان : “القدرة على الإرغام ، مواجهة الأعداء بدون حرب” نشرت بواسطة ومؤسسة RAND في سانتا مونيكا-كاليفورنيا عام 2016م ، ويؤكد الباحثان في هذه الدراسة على “تراجع الفائدة المتحققة من القوة العسكرية وتصاعد أهمية القوة غير العسكرية” وتماشياً مع عنوان هذه الدراسة “القدرة على الإرغام… بدون حرب” فإن هذه القدرة تتأتى من أشكال واستخدامات عدة منها العقوبات الاقتصادية ، الحضر على الأسلحة والتكنلوجيا ، استخدام مخزون الطاقة ، مساندة خصوم الدولة المستهدفة كدعم الحركات الانفصالية أو المعارضة المسلحة ، عمليات الهجوم الإلكتروني ، والاعتراض البحري . لقد كان خروج العراق من حرب الثمان سنوات بجيشٍ جرار وعقيدة قتالية متقدمة وجامعة والأهم بروح نصرٍ افتقدتها ليس فقط جيوش الأمة العربية وحسب بل الشعب العربي برمته خلال الحروب العربية – الإسرائيلية ، مع قدرات إبداعية في ولوج عالم التصنيع العسكري ، مثار قلق ورهبة لم تكن للكيان الصهيوني والقوى الغربية فقط ، بل لبعض الدول الإقليمية التي شعرت أنها أمام قوة لا يمكن ضبط إيقاعها قابلة للتطور والنمو بفعل قدرات العراق الاقتصادية الهائلة ، وهنا برز الدور الأمريكي في تحريك التوتر في الصراع بينها وبين العراق ، بشكل ضم بالإضافة إلى رسائلها المباشرة للقيادة العراقية والتصريحات الإسرائيلية المستفزة ، نشاط وأدوار لدول عديدة في المنطقة .

تهديد بصيغة دعوة:

في الثاني عشر من شهر نيسان/ أبريل 1990م زار خمسة من أعضاء الكونجرس الأمريكي يمثلون كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري برئاسة السيناتور روبرت دول العراق والتقوا الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في قصره بمدينة الموصل 400 كلم شمال بغداد ، بعد محاولات حثيثة قام بها كل من الرئيس المصري الأسبق ، حسني مبارك ، والعاهل الأردني السابق الحسين بن طلال، خلال زيارة وفد الكونجرس لبلديهما ، للقيام بزيارة العراق (غير المبرمجة) ومحاولة فهم الرئيس العراقي عن قرب لتلافي أية تصعيدات في المنطقة ، خاصةً بعد تهديد الأخير بـ” حرق نصف إسرائيل إذا ما أقدمت على ضرب العراق بسلاح ذري فسنحرق نصف إسرائيل بالكيمياوي المزدوج” . وفعلاً وبعد اتصال هاتفي من قبل النواب الأمريكيين بالرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش(الأب) حصلت الموافقة على زيارة العراق، وقدم النواب يتقدمهم رئيس الوفد، روبرت دول ، رسالة أعدوها كمدخل للحديث مع الرئيس العراقي ، هذا نصها :

سيادة الرئيس صدام حسين، رئيس الجمهورية العراقية ـ بغداد.

عزيزنا السـيد الرئيس، نثمن استعدادكم لاستقبالنا خلال شهر رمضان المبارك، وخاصة خلال فترة قصيرة كهذه. نأتي إلى بغداد وفداً يمثل الحزبيَن السياسـيين في الولايات المتحدة، انطلاقاً من قناعتنا بأن العراق، يضطلع بدور رئيسي في الشـرق الأوسط، وبما أننا نرغب في أن نشـهد تحسـناً في العلاقات الثنائية بين بلديَنا. من الواضح لنا، أننا لن نتمكن من حـل الخلافات الخطيرة، القائمـة بين بلـديَنا، إنْ نحن أهملنا هـذه الخلافات، أو أخفقنا في الاسـتفادة من الفرص المتاحة أمامنا، بالاتصال الواضح والصريح. ولهذا السـبب، نعتقد أن من المهم أن نُسمِعكم قلقنا العميق جداً، بشأن سياسات ونشاطات معينة لحكومتكم، والتي تمثل حاجزاً كبيراً أمام علاقات متطورة بين بلديَنا.

لقـد خرج بلـدكم، تواً، من حرب طويلـة، وباهظـة التكـاليف، حرب تركت قلقاً، بشأن أمن بلادكم. إلاّ أننا لن نبالغ في تأكيـد قناعتنا، بأن مساعيكم لتطوير قدرات، نووية وكيماوية وبيولوجية، تعرض أمن بلادكم لخطر جدي، بدلاً من أن تعزز هـذا الأمن، كمـا أنهـا تهـدد دولا أخرى في المنطقـة، وتـثير اضــطراباً خطيراً، في جميـع أنحـاء الشــرق الأوسـط، وأن تصريحاتكم الأخيرة، التي هـددتم فيها باسـتخدام الأسـلحة الكيماوية ضد إسـرائيل، قد خلقت قلقاً كبيراً لدى بلدان في جميع أنحاء العالم. وأن من مصـلحتكم، ومصلحة السلام في الشرق الأوسط، أن نحثكم على إعادة النظر في الاستمرار

بهذه البرامج الخطيرة، والتصريحات والتأكيدات الاستفزازية. كما أن علينا، أن نعرب عن عميق جزعنا، بشأن النشاطات المزعومة، التي أدت إلى طرد أحد أفراد بعثتكم الدبلوماسـية في الأمم المتحدة، بتهمة تورطه بمؤامرة قتل. ولذا، نكرر القول إنه إذا ما أردنا لبلديَنا علاقات أفضل، فإن نشاطات كالتي ُيزعم أنها حصلت، ينبغي ألا تقع ثانية.

وختاماً، نحثكم سيادة الرئيس، على أن يكون لكم إسـهامكم النشـيط، والبناّء، في عمليـة السـلام الجاريـة، الآن، بين مصـر وإسرائيل وممثلين عن الشعب الفلسطيني وحكومة الولايات المتحدة. (انتهت الرسالة)

بالطبع لا نريد هنا التطرق إلى تفاصيل الحوار الطويل بين الوفد والرئيس العراقي والذي، وإن بدا لطيفاً وإيجابياً ، لكنه في حقيقة الأمر ، كان يمثل تهديداً للعراق بصيغة (دعوة) للانضمام لـ(عملية السلام) التي كانت جارية لإقناع الفلسطينيين بالانضمام لهذه العملية والتي توجت لاحقاً بما يسمى (إتفاق أوسلو) والمعروفة رسمياً باسم “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي” وهو اتفاق وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل  في واشنطن بتاريخ 13  أيلول / سبتمبر 1993م بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون. وسمي الاتفاق نسبة إلى مدينة أوسلو النرويجية التي تمت فيها المحادثات السرّية التي تمت في عام 1991  م .

لم يتحقق شيء من الأوامر والنواهي التي طرحها دول وبقية النواب الأمريكيين على صدام حسين بصيغة دبلوماسية لم تخلو من الصراحة والمباشرة، فالعراق كان لديه برنامج وقناعات، برنامج تطوير أسلحته (للردع) ، وقناعات مفادها أن الولايات المتحدة إن لم تواجه بقوة تُهدِد كيانها المدلل في الشرق الأوسط (إسرائيل) فإنها سوف لن تغير من سياساتها الغير منصفة في الشرق الأوسط ، وللحقيقة التاريخية فإن ما طلبته أمريكا من الرئيس العراقي وفي ذلك الوقت تحديداً كان أمراً تعجيزياً ، فالعراق الخارج من حرب طويلة لا يمكن بأي حال من الأحوال الولوج في قضية (السلام) مم الكيان الصهيوني لإنه باختصار يتقاطع وكل المبادئ المعلن عنها رسمياً وشعبياً ، وإن حاول الرئيس العراقي في نهاية المقابلة التملص من الحاح وفد الكونجرس حول هذا الموضوع بالقول ” أرجو أن لا تنسوا أن الذي يمثل القضية الفلسطينية لدينا، كعرب ، هم الفلسطينيون ، وياسر عرفات على رأسهم ، وأعتقد الآن صار واضحاً ، أن أية جهة تتصدى باسم الفلسطينيين للقضية الفلسطينية ، وهي غير مكلفة ، لن تتوصل إلى حل سلمي، ولإننا نريد حلاً عادلاً ، ونريد السلام ، فالأفضل إن ندخل البيوت من أبوابها ، وأبواب هذه القضية هم الفلسطينيون”.

أمريكا والعد التنازلي للعراق:

بحسب خبراء العلوم السياسية فإن هناك نوعان من السياسات الخاصة بإدارة الصراع، أولاها، سياسات الابقاء على الوضع الراهن، وهي السياسات التي تسعى لعدم تأجيج المواقف وتصعيدها، بما يعني إستقرار العلاقات بين الطرفين وإستمرار مصالحهما وإن كانت القناعات والإجراءات الغير معلنة لكل طرف مستمرة، وهذا النوع من السياسات ربما يكون دفاعياً للدول الصغيرة تجاه قوة وقدرة الدولة الكبرى المعنية بالصراع. أما النوع الثاني فهو إستمرار الضغط لتحقيق مكاسب تفضي إلى رفض الأوضاع السائدة بالتعامل إزاء قضايا كبيرة وحساسة لكل طرف تؤثر بشكل مباشر على مصالحه ومخططاته، وغالباً ما تقوم الدولة الكبرى(أمريكا) بممارسة ضغوط على الدولة الصغيرة(العراق) لإجبارها على الانصياع ، ونادراً ما ترفض الدولة الصغيرة (العراق) هذه الضغوط والتمرد عليها كونها جائرة وغير عادلة وحكيمة ، لكن العراق ، وبعد مقابلة وفد الكونجرس الأمريكي و فعل ذلك ، بل زاد من وسائل التعبير عن  إمكاناته بكل النواحي وخاصة بعد مؤتمر القمة العربي الذي عُقِد في بغداد في 28 مايو / آيار 1990م ، المؤتمر الذي شكلت قراراته صفعة للجهود التي بذلتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) ؛ حيث ركزت أكثر من 70 بالمائة من هذه القرارات على إدانة الولايات المتحدة وإسرائيل في قضية فلسطين والتدخلات الأمريكية بشأنها وشؤون ليبيا والعراق.

منذ أن أعلنت نتائج قمة بغداد 1990م، والدوائر الأمريكية والصهيونية بجميع أنحاء العالم، تتحرك من أجل إجهاض قراراتها أولاً ، ثم من أجل تحجيم وتحديد دور العراق إلى أدنى الحدود باستخدام ضغوط اقتصادية وأمنية انعكست على قدرات العراق الفعلية ، خصوصاً ، الاقتصادية منها ، وقد تفاقمت أزمة العلاقات العراقية-الكويتية التي تم تناولها في القمة دون حل يذكر ، حتى أتهم العراق الكويت أنها تنفذ أجندة أمريكية لإضعاف العراق وإيقاف عجلته الاقتصادية والتنموية .

قد تكون بغداد مُحقة في تفسير السلوك الكويتي حينها لإنها أعلنت ، وفي 18 يوليو/ تموز 1990م ، أن الكويت قامت بـ”قضم” أراضيها و”سرقة” النفط من حقل الرميلة النفطي في جنوب البلاد ، كما اتهمها بإغراق سوق النفط بشكل متعمد بكميات كبيرة من النفط مما أدى لخفض أسعاره عالمياً ، وطالب العراق بتسديد نحو ملياري يورو كتعويضات عن هذه “السرقة”

وطالبت بغداد الكويت خلال القمة العربية بإلغاء الديون التي اقترضتها منها خلال حربها ضد إيران (1980-1988) أو تأجيلها، معتبرة أنها دافعت بها عن هذه الدولة الخليجية أيضا، ورغم وساطات جامعة الدول العربية التي جرت في 20 يوليو/ تموز 1990م، إلا أن الكويت إستمرت في مطالبتها العراق بتسديد ديونه والضغط الاقتصادي والنفسي على قيادته في ظل أجواء مشحونة بالتحديات للعراق المطالب بتعويض شعبه فترة حرب الثماني سنوات بشيء من الرفاهية والعودة لبناء ما دمرته هذه الحرب.

لم تكن الولايات المتحدة غائبة عن هذا المشهد؛ فقد تناولت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية موضوع المقابلة الشهيرة بين الرئيس العراقي صدام حسين والسفيرة الأمريكية ببغداد آنذاك أبريل غلاسبي، حيث أوضحت الأخيرة للرئيس العراقي أنها لا تملك رأياً في خلاف العراق الحدودي مع الكويت، كما أن وزارة الخارجية الأميركية ، (بحسب المجلة) كانت أرسلت أيضا تأكيدات في وقت سابق لصدام حسين تفيد بأن واشنطن ليست لديها التزامات دفاعية أو أمنية خاصة تجاه دولة الكويت ، وهو أيضاً تلميح بموافقة أمريكية للقيام بعمل عسكري عراقي ضد الكويت؛ أي أن أمر الضوء الأخضر لم يقتصر على اللقاء بين السفيرة الأميركية والرئيس العراقي في ذلك الوقت فقط.

ومع الملاحظات الكثيرة التي أبداها المحللون الاستراتيجيون عما حدث يوم 2 أغسطس / آب 1990م ، فإن واقع الحال يؤكد أن الولايات المتحدة ، وبمساعدة من حلفائها في المنطقة سحبوا القيادة العراقية المتمثلة بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين إلى منطقة القتل دون أن يتركوا له إلا منفذاً واحداً وتحت ضغط عسكري وأمني واقتصادي (حصار لم يجرِ على أي بلد في العالم ولن يجري) هائل جداً ، منذٌ قد يزيح عن العراق كل هذه الضغوط ويعيده إلى الساحة الدولية والإقليمية ، ذاك المنفذ هو التطبيع مع الكيان الصهيوني ، الذي طُرح بأساليب كثيرة ووسطاء كُثُر ، وبحسب الكاتب البريطاني، نايجل أشتون، فإن رئيس وزراء الكيان الصهيوني إسحق رابين بعث برسالة إلى الرئيس العراقي صدام حسين  عام 1995م، من العاهل الأردني الحسين بن طلال طالبًا عقد اجتماع معه ، موضحا ًأن مضمون الرسالة يمثل آمال رابين بتحقيق (سلام) مع العراق وإيران وسوريا ، لكن العراق رفض و استمر بدعم الفلسطينيين وإسناد عوائل الشهداء الذين يقومون بعمليات داخل الأراضي المحتلة .

لقد انتهت رحلة اللعب مع الكِبار التي إستمرت حوالي 35 عاماً بغزو بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا أفضى إلى احتلال كامل للعراق وإسقاط حكومته الوطنية وحل جيشه وكل مؤسساته المدنية والعسكرية والأمنية، غزو أُريد له أن يكون عِبرةً لمن يعتبر من قادة دول العالم الثالث أو دونه التمادي في مناكفة الدول الكبرى وإرباك خارطة برامجها الجيوسياسية والإستراتيجية في عالم لا يجب أن يكون أو يبقى تحت رحمة دولة واحدة وصفِت مراراً أنها “عدوةً للشعوب”.