التحديات العالمية ورؤية دراسة حدود النمو

أ.د. مازن الرمضاني

من بين المواضيع، التي تجد أهتماما من لدن المستقبليين موضوع الأزمات العالمية وتحدياتها. ومن أجل البحث في مستقبلاتها تم تطوير مقاربة النظم العالمية، او النظم الكلية كما تسمى ايضا. وإضافة الى أن هذه المقاربة تبحث في مواضيع قد تكون مجردة، او ذات صلة وطيدة بالواقع، فأنها تتميز أيضا بخصوصية ابعادها العالمية، وتشابك متغيراتها وتفاعلاتها، واقترانها باماد زمانية بعيدة المدى تمتد من ربع قرن الى قرن بأكمله، هذا فضلا عن انها تجعل من المفاهيم و/او الرموز و/او المعادلات الرياضية و/أو الحاسوب ادوات اساسية لها.

 وقد ادى تأثيرعدد من المتغيرات المهمة إلى الأخذ بهذه المقاربة. ومنها الآتي مثلا :

أولا التسارع غير المسبوق لمعدل التغيير على صُعد الحياة وبمخرجات افضت الى ما اطلق عليه المستقبلي الامريكي الفين توفلر، بصدمة المستقبل بمعنى حصيلة الفجوة بين واقع تسارع عملية التغيير وبين عدم قدرة الإنسان على الإرتقاء بمدركاته الى مستواها واثر ذلك في الدفع بإتجاه تبلور مجموعة تحديات، وبعضها عالمية الابعاد.

ثانيا، استمرار تفاقم تأثير متغيرات عالمية كالمتغير السكاني بأبعاده الأساسية: تسارع المعدل العالمي لعدد السكان ونمو معدلات الهجرة الجماعية إلى دول عالم الشمال، هذا فضلا عن استمرار فجوة الشيوخ الشباب بين عالمي الشمال والجنوب. فبينما تتجه المجتمعات في جل دول عالم الشمال الى الشيخوخة، تتميز المجتمعات في جل دول عالم الجنوب بحيويتها، جراء غلبة اعداد الفئات العمرية الشابة على سواها. ففي الوطن العربي مثلا يتزايد عدد السكان منذ عام 1857 م بوتائر متسارعة. فبينما كان في هذا العام يقدر بنحو 22 مليون نسمة، اضحى في مطلع القرن العشرين نحو 38 مليون نسمة. اما في بداية القرن الحادي والعشرين فقد بلغ نحو 279.8 مليون نسمة، وبمعدل زيادة سنوية تساوي 2.3. وتتوقع اراء وصوله في عام 2025 الى نحو 500-490 مليون نسمة. وجلهم من الشباب.

ثالثا، بروز الحاجة الى رؤي بعيد المدى للتحديات العالمية لا تكتفي بمجرد استشراف إتجاهاتها المستقبلية فحسب، وانما تسعى ايضا الى بلورة استراتيجيات بديلة تؤمن التعامل الانجع مع هذه التحديات سبيلا لمستقبل افضل.

رابعا، تاثير الانتشار العالمي، وعلى شتى صُعد المعرفة، لمقاربة التحليل النظمي. فهذه المقاربة، التي لم تدرك مفهوم النظام بمعناه القانوني، وأنما بمعنى »الهيكل الذي يتكون من عناصر في حالة علاقة أو علاقة تفاعل مع بيئته وله حدود واضحة تميزه عنها«، جعلت معالجة مقاربة تحليل النظم العالمية لمواضيع اهتماماتها أكثر سهولة وبمخرجات ادق موضوعية.

وانطلاقا من نوعية مضامين نماذج النظم العالمية، عمد المستقبلي الأمريكي جون اندلين إلى توزيعها الى ثلاثة مستويات اساسية ومختلفة :اما اتجاهية، اووصفية، اواستهدافية. وينطلق كل من هذه المستويات من سؤال محدد. فالنماذج الإتجاهية تتساءل: ما الذي يمكن ان يحدث لو أن الإتجاهات العالمية الراهنة استمرت ممتدة الى المستقبل؟ اما النماذج الوصفية فهي تتساءل: ما الذي يمكن ان يتحقق لو ان هذه الإتجاهات قد تغيرت جذريا؟ اما النماذج الإستهدافية فهي تتساءل: ما هي السياسات والافعال التي يمكن ا ن تؤدي الى تغيير هذه الإتجاهات؟ ومن هنا جاء تنوعها.

ولتنوعها، تتميز مقاربات نماذج النظم العالمية بتباينات واضحة فيما بينها. فإضافة مثلا الى استمرار اقترانها بمضامين متفائلة أو متشائمة لمستقبل النظام العالمي، فأنها تنطلق ايضا من افتراضات مختلفة، وتعمد الى التركيز على مناطق جغرافية متباينة اضافة الى اخذها بأماد زمانية ليست متماثلة.

وكما ان النماذج العالمية تتميز بتباينها كذلك تقترن بعدد من الإيجابيات والسلبيات. فأما عن الإيجابيات فهي تكمن مثلا في الآتي:

اولا إنطلاقها من أفق زماني بعيد المدى.

على خلاف دراسات مستقبلية تجعل من زمان المستقبل المباشر، او القريب، او المتوسط محور اهتماماتها، تمتد دراسات النماذج العالمية على ازمنة المستقبل البعيد و/او غير المنظور)خمسون عاما اواكثر(.

وتتفق أراء على ان الافق الزماني لهذه الدراسات يسهل الخروج باستشراف دقيق لمخرجات عملية التغيير في الحاضر. على أن هذه الإيجابية لا تلغي، في الوقت ذاته أن دراسات النماذج العالمية قد تنتهي إلى أن تكون أمتدادا لدراسات الخيال العلمي. ففي عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة، يضحى الإستشراف الدقيق لما قد يحصل بعد عقود عدة، إنطلاقا من معطيات الحاضر على قدر عال من الصعوبة في الاقل. بيد أن هذه الصعوبة لم تحل دون الإستمرار في إنتاج مثل هذه الدراسات.

ثانيا، كفاءة القدرة على توظيف البيانات والمعلومات المتاحة.

على خلاف مقاربات منهجية ذات قدرة محدودة على تجميع وتوظيف المعلومات المتاحة، ادى استخدام مقاربة نماذج النظم العالمية للحاسوب، كأداة اساسية، الى حالة معاكسة. فالحاسوب لم يتح مثلا امكانية تخزين اكبر قدر من المعلومات والبيانات المتاحة واسترجاعها بسرعة عالية فحسب، وانما أدى كذلك إلى توظيفها لتسهيل استشراف مستقبلات مواضيع هذه المقاربة.

ثالثا، القدرة على التوظيف الشامل.

تتميز مقاربة نماذج النظم العالمية بإمكانية تطبيقها على اي حيز جغرافي و/او على اية قضية او مشكلة ذات بعد عالمي، ومن ثم استخدامها سبيلا للتحقق من مدى مصداقية افتراضات ذات علاقة بمستقبلات هذه القضية و/اوالمشكلة.

 ولجدواها العلمية والعملية، تتعدد وتتنوع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تعمد الى توظيف هذه المقاربة. ومثالها هيئة الاركان الأمريكية، وكذلك المنظمات الدولية كالامم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فضلا عن شركات متعددة الجنسيات كشركة شل، ومؤسسات علمية عابرة للحدود السياسية للدول، كنادي روما.

وعلى الرغم من جدواها تعاني مقاربة نماذج النظم العالمية بالمقابل من تاثير مجموعة محددات وبحصيلة تجعل من دقتها ومصداقيتها وفائدتها محط انتقاد. وتكفي الإشارة كمثال الى المحددات المنهجية-النظرية.

 يتفق الرأي على أن مفهوم النموذج يعبر عن آلية منهجية تستخدم لاغراض محاكاة موضوع محدد له جذور في الواقع ولكن يتميز بقدر من التعقيد والغموض جراء تأثيرمتغيرات متعددة. وانطلاقا من احتمالية ان تنطوي بعض المتغيرات على تأثير أقل من سواها، قد يضفي التركيز علي هذه الاخيرة الى تحليل يشوبه النقص بالضرورة.

ومما يدعم هذا النقص ان مقاربة نماذج النظم العالمية لا زالت تفتقر شأنها شأن كافة العلوم الإجتماعية والإنسانية، الى تلك النظرية العامة التي يمكن الإستهداء بها لاغراض الوصف والتحليل والإستشراف. ان غياب مثل هذه النظرية، وأن يجعل مخرجات مواضيع هذه العلوم محط تساؤل، بيد أنه لا يلغي، مع ذلك، جدوى مخرجاتها في دعم المعرفة الإنسانية.فالعديد من ان الدراسات التي انطلقت من هذه المقاربة قد ساعدت على رفد الفهم الإنساني لدينامية النظام العالمي بمدخلات مهمة.

 ولعل أبرز هذه الدراسات تقرير نادي روما: حدود النمو الصادر عام 1972. فهذا التقرير الذي ينصرف إلى وصف التحديات العالمية خلال زمان يمتد إلى قرن، فضلا عن تأثيرمخرجاتها، استمر يحظى بأهمية عالية وممتدة عبر الزمان. ولخصوصية اهميته، سنعمد الى تناوله بقدرمن التفصيل.

وعلى الرغم من ان الاهتمام بالأزمات العالمية وتحدياتها له جذور تعود الى ازمنة سابقة، الا ان الحديث العلمي عنها لم يبدا بالإنتشار الا منذ بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي صعودا. ومما ساعد على ذلك تميز هذا العقد ببداية تراجع الرؤى المتفائلة لمستقبل العالم، والتي دفعت اليها مخرجات تتابع الثورات العلمية والتكنولوجية، لصالح روى اخرى متشائمة نجمت عن تراكم الآثار السلبية للعديد من الازمات العالمية التي صاحبت العالم منذ عقد السبعينيات الماضي صعودا.

وجراء تحديات هذه الأزمات، بدات موجة من الجهد الفكري لإستشراف مستقبلات النظام العالمي عبر ادوات كانت في وقته جديدة. وقد تجسدت هذه الادوات في بناء نماذج رياضية اتخذت من الحاسبات الالكترونية سبيلا لحصر المتغيرات المؤثرة في حركة هذا النظام، وتجميعها في أنساق تعبر عن دالة هذه المتغيرات، ومن ثم صوغ المعارف الناجمة عنها صياغة كمية وكيفية سبيلا لإستشراف مشاهد مستقبلات هذا النظام.

وانطلاقا من معيار تاريخ النشر، يمثل نموذج دراسة حدود النمو الصادرة عام 1972 البداية الاولى. وقد تمتعت هذه الدراسة في وقته بإنتشار عالمي واسع. اذ تمت ترجمتها من اللغة الانكليزية الى ثلاثين لغة اخرى وبحوالي ثلاثين مليون نسخة. وقد افضت مضامين هذه الدراسة الى ردود افعال تباينت بين التماهي مع مخرجاتها وانتقادها.ومما ادى إلى ذلك تباين الرأي بشأن منطلقاتها، ومنهجيتها، ومخرجاتها.

فأما عن منطلقاتها، فدراسة حدود النمو اكدت ان الارض لا تتوافر على تلك الموارد التي تسهل استيعاب اتجاهات النمو الاسي العالمي. ومن هنا تأسست على فرضية مركزية قالت : إذا إستمرت إتجاهات النمو الاسي على حالها، بمعنى بقاء الإستنزاف الإنساني لهذه الموارد دونما تغيير، فأن حدود النمو ستصل الى اقصاها في حدود عام 2100. وهذا ان حدث، فأنه سيؤدي الى تدهور شامل على شتى صُعد الحياة، ومنذ ثم انهيار النظام العالمي.

واما عن منهجيتها، فمن اجل البرهنة على فرضيتها اعلاه، عمدت دراسة حدود النمو الى تطوير انموذج رياضي جعل الحاسوب بمثابة اداته الاساس لتتبع النتائج الناجمة عن اثر النمو الاسي لتفاعل خمسة متغيرات إجتماعية ذ إقتصادية ذات أبعاد عالمية هي: النمو السكاني، والإنتاج الغذائي، والتصنيع، والتلوث، وأخيرا إستهلاك المصادر الطبيعية. وفضلا عن ذلك عمدت الدراسة الى تتبع التاثير، السلبي او الإيجابي، لكل من هذه المتغيرات في سواه، ومن ثم في عموم متغيرات النموذج المستخدم، ادراكا منها ان تفاقم احدى المشاكل العالمية قد يكون سببا لتفاقم مشكلة عالمية اخرى. والعكس كذلك صحيح.

وتجدر الإشارة الى ان دراسة حدود النمو لم تتطلع الى صوغ تنبؤات جازمة بشأن مستقبل موضوع الإهتمام، وانما الى إستشراف مشاهده الممكنة والمحتملة. لذا قالت بثلاثة مشاهد: الاول، هو إنهيار النظام العالمي في نهاية القرن الحادي والعشرين. اما الثاني، فهو يقول بإمكانية تخطي المخاطر الناجمة عن عالمية النمو الاسي. اما المشهد الثالث فهو يتأسس على فكرة استمرارية استقرار النظام العالمي.

واما عن مخرجاتها فقد اكدت دراسة حدود النمو على ثلاثة منها، والتي اكد أحد الآراء انها مذهلة. فأما عن الاول، فقد اكد على صحة مضمون الفرضية التي تأسست عليها هذه الدراسة. واما عن الثاني، فقد افاد ان الإتجاهات الممتدة من الماضي الى المستقبل والتي قد تفضي الى انهيار النظام العالمي ليست عصية على التحكم، خصوصا اذا تم اتخاذ تلك الإجراءات المناسبة للحد من تفاقم النمو الاسي للمتغيرات التي تناولتها الدراسة، من ثم تأمين بيئة مستقرة تتوافرعلى قابلية الإستمرار في المستقبل. واما عن المخرج الثالث والاخير، فهو يكمن في الدعوة الى ان لا يتأخر العالم عن اتخاذ تلك الإجراءات التي تحد من النمو الاسي، سيما وان التأخر قد يفضي الى الحيلولة دون بناء تلك البيئة المنشودة.

وعلى العكس من توقع اصحابها ان تدفع دراسة حدود النمو الى نقاش جاد ومثمر في شأن مخرجات العلاقة بين الارض وامكاناتها، وبين الإنسان ونزوعه نحو اشباع حاجاته المتجددة، الا ان ادراكها من قبل مستقبليين كدراسة متشائمة تتماهى والدراسة المتشائمة لروبرت مالثوس )الصادرة عام 1798(، أدى الى ان تتعرض الى العديد من الإنتقادات. ومن بينها الاتي مثلا :

أولا، خطأ ادراكها ان العالم يعبر جغرافيا عن كتلة واحدة، وانه ينمو اقتصاديا بمعدلات متماثلة اومتقاربة، وانه يتميز بإنسجامه حضاريا وثقافيا وإقتصاديا. وهذا الخطأ يكمن في ان العالم يتوزع على مناطق )أو أقاليم( تتميز بتباينها الواضح وعلى شتى الصعد. ومنها ان النمو الاقتصادي يقتصر على عدد محدود من الدول ولاسيما تلك المتقدمة وكذلك السائرة في طريق النمو دون سواها من الدول المتأخرة والمتخلفة التي تشكل اكثرية الدول المعاصرة. لذا قيل ان رؤية النمو الاسي لعدد محدود من الدول، وكأنه يمثل اتجاها عالميا، هي رؤية خاطئة علميا.

ثانيا، ان دراسة حدود النمو قد اغفلت اثر تلك المتغيرات التي تحول مخرجاتها دون انهيار النظام العالمي، اجتماعيا واقتصاديا، كالمتغير العلمي والتكنولوجي، ودور الالمعية الإنسانية والقدرة على التكيف، فضلاعن اتباع سياسات حكيمة.

ثالثا انها لم تأخذ بنظر الإعتبار الموارد الأولية غير المستكشفة سواء على سطح الارض او في باطنها وكذلك في باطن البحار والمحيطات.

وعلى الرغم من الإنتقادات التي تعرضت اليها دراسة حدود النمو الا انها تبقى مع ذلك رائدة على صعيد استشراف مستقبلات موضوعها.مما يؤكد ذلك الدعم الإيجابي الممتد عبر الزمان لمخرجاتها.

فمثلا عمد عالم الفيزياء الاسترالي، غراهام تورنر إلى دراسة معطيات العالم خلال ثلاث عقود: من عقد السبعينيات إلى بداية القرن الحالي وانتهى إلى تاكيد أن تطور العالم خلال هذا الزمان يدعم مصداقية الفرضية التي قالت بها دراسة حدود النمو.

وإلى الشىء ذاته، ذهبت النسخة المنقحة لدراسة حدود النمو والصادرة عام 1992 بعنوان ما بعد حدود النمو. فهذه قالت إن تطورات عقدين من الزمان قد اكدت النتائج التي توصلت اليها الدراسة الاصلية.

ومما يؤكد أيضا اهمية دراسة حدود النمو أنها استمرت تحضى بالإهتمام العلمي. وقد تجسد هذا في تكرار عقد المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية التي انصرفت الى تناول مضامينها. ففي عام 2012، مثلا، وبمناسبة مرور اربعة عقود على صدورها، عقد نادي روما بالتعاون مع معهد سميث سانيون في واشنطن، حلقة نقاشية وبعنوان: وجهات نظر في حدود النمو: تحديات بناء كوكب سليم.

إن الإهتمام الممتد الذي نجم عن هذه الدراسة الرائدة كان حافزا مهما وراء إستمرار صدور سلسلة من الدراسات التي رمت هي الاخرى الى استشراف مشاهد المستقبل العالمي، وبمخرجات أدت إلى تهيئة الاساس العلمي لكيفية الإرتقاء بالإستجابة إلى مستوى تحديات عالمية تزداد مخرجاتها تفاقما. وهذا دليل آخر على أن دراسات المستقبلات هي السبيل العلمي الامثل للتعامل مع زمان قادم مفعم بالتحديات.

استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات