العرب.. ما بين الفوضى الخلاّقة والإدارة بالأزمات

تشير بعض الدراسات إلى أن نظرية “الفوضى الخلاّقة” هي من نتاجات الحركة الماسونية*، ويشير آخرون إلى علاقتها بالخلق والخليقة مذ خلق الكون ؛ حيث يؤكد الأب ، ديف فليمنج، بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة بتيسبرج ببنسلفانيا “إن الإنجيل يؤكد لنا أن الكون خلق من فوضى وأن الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفية هذا الأمر إلا أننا متيقنين أن الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق” ، كما ورد لدى بعض المعرّفين بها أنها “حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث”، لكن أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أو “الفوضى البناءة” أو “التدمير البناء” في معناه السياسي الحالي هو، مايكل ليدين، العضو البارز في معهد (أمريكا انتربرايز)، جاء ذلك في مشروع “التغيير الكامل في الشرق الأوسط”

د. فارس الخطاب
رئيس تحرير مجلة التجديد الثقافية

الذي أعد عام2003م. هذا المشروع إرتكز على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقا لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء. الأمريكي، صموئيل هنتجتون، أطلق تسمية أخرى للنظرية وهي” فجوة الاستقرار” معتبراً أن “الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطا ونقمة في أوساط المجتمع مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لا سيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، ذلك أن مشاعر الاحتقان قد تتحول في أي لحظة إلى مطالب ليست سهله للوهلة الأولى، وأحيانا غير متوقعة، ما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب. أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية؛ فانه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين”. وعلى هذا الأساس شرعت الولايات المتحدة الأمريكية إعتماد هذه النظرية كإستراتيجية تم تجريبها ضد الإتحاد السوفييتي ودول حلف وارشو خلال فترة الحرب الباردة ثم لاحقاً ضد أقطار عربية وإسلامية، بعد أن ثبت للإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تلك الفوضى أتت أُكلها الخلاقة أو هي في طريق هذا الأُكُل.

أما الإدارة بالأزمات التي يشبهها البعض بالفوضى الخلاّقة في “عملية توليد الأزمات من الشيء وإفتعالها بهدف إبعاد الأنظار عن المشكلات الحالية القائمة وتوجيه الأنظار إلى قضايا أخرى محددة بعيداً عنها”. ويمتاز أسلوب الإدارة بالأزمات المفتعلة بخصائص رئيسة منها التوزيع الدقيق للأدوار بين قوى الطرف المُفتعل للأزمة وتهيئة البيئة التنظيمية لهذه الأزمة وتوقيتها مع تهيئة حزمة مُقنعة من الأسباب أو المبررات التي قادت لولادة الأزمة إضافة إلى العنصر الأهم في الموضوع ألا وهو التصعيد في توتير الأجواء وتحشيد الرأي العام ضد الهدف المقصود من إفتعال هذه الأزمة. ومن خلال هذا التعريف وما ذُكِرَ عن المصطلحين، وعادة ما تلجأ الأنظمة الموسومة بالدكتاتورية لمثل هكذا إسلوب في مواجهة أعدائها أو إفشال حملاتهم ضدها، فيقوم النظام إلى التهيئة والإعداد لهذه الأزمة ثم التصعيد الإعلامي والتنظيمي من أجل تعبئة الجماهير للمواجهة مع “أعداء الأمة أو الوطن” ثم إستثمار كل الموارد والطاقات من أجل كسب هذه المواجهة فالعودة إلى تهدئة الأوضاع وفرض أوضاع جديدة لم تكن موجودة قبل إفتعال الأزمة.

ومن خلال تعريف المصطلحين أرى أن لا مجال إلى قواسم مشتركة بينهما على المجال الإستراتيجي والتنظيمي وأن النتاج النهائي لكل منهما مختلف تماماً عن الآخر.

إن توظيف فكرة ومصطلح “الفوضى الخلاقة” في الإستراتيجية الأمريكية الشاملة تم إقحامه بشكل واضح بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001م ثم قبيل وبعد إحتلال العراق عام 2003م حيث اعتبر مُدخلاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير فقد عملت الإدارة الأمريكية لاسيما بعد أحداث 11 أيلول /سبتمبر 2001 ، على إحداث تغيير جذري في كيفية تعاملها مع البيئة الإستراتيجية للشرق الأوسط ، وبدأت في الترويج لمفاهيم عديدة شكلت أهداف لبرامج إدعت أنا “إصلاحية” لكنها في حقيقة الأمر كانت ” قوى ناعمة” لإستهداف دول بعينها في الشرق الأوسط مثل: الديمقراطية ، حقوق الإنسان ، حقوق الأقليات ، المرأة ، والحريات بكل تصنيفاتها ، والنعرات الطائفية والقومية ، وغيرها ، من الواجهات التي ساعدتها لاحقاً على تجزئة مجتمعات هذه الدول بعد أن رافقت هذه القوى الناعمة ، قوى “خشنة” كان نموذجها الصارخ إحتلال أفغانستان والعراق والتمدد إلى سوريا ، فساهمت في تعقيد المشهد المجتمعي وطنياً وقومياً ودينياً وطائفياً ، وأنبتت أمراء للطوائف والقوميات والأقليات بدلاً عن الحكومات الوطنية الموحِدة لشعوبها ، فتولدت دول هزيلة بلا هوية وطنية ولا نزاهة مالية أو قيم أخلاقية دون حِساب لملايين لم تعتاد على هذه الفوضى والتجزئة.

إن الفوضى الخلاقة تعني أمريكياً إذن هدم دول تقاطعت مع برامج الولايات المتحدة إستراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط، ثم إعادة بنائها كدول جديدة لا علاقة لها بالدولة الأساس غير الإسم ليس إلا. واستثمرت واشنطن موضوعة الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر 2011م لتعلن على لسان رئيسها جورج دبليو بوش الابن أن من لا يقف مع واشنطن في حربها على الإرهاب فهو مع الفريق المؤيد للإرهاب وبالتالي فإن دولاً عديدة تخشى غضبة واشنطن عليها ساهمت في مشروع الفوضى الخلاقة فعلاً أو ضمناً، فكانت حروبها ذات سِمة عالمية وإن كانت غير قانونية ، ورغم غضب شعوب العالم جراء هذا المتغير الأمريكي الإستراتيجي الخطير ، إلا أن عمليات الهدم إستمرت ، فسقط دول وتغيرت دساتير وأنظمة حكم والغيت قوانين نافذة ، حتى بدت هزالة الأنظمة الجديدة وعدم نزاهتها وقدرتها على حفظ شعور المواطنة وبالتالي خُلقت مناطق حكومية لا علاقة لها بباقي أجزاء الوطن كما هي المنطقة الخضراء في بغداد التي لا تشبه في كل مزايها أية بقعة من بقاع هذا البلد الذي دُمر بالكامل ، حتى أن العراقيين الموجودين خارج هذه المنطقة لا يملكون نفسياً أية تصورات عن الرفاهية ووسائل الحماية التي يعيش فيها ساسة العراق الجدد وقادة المليشيات المسلحة وهو ما يعني صدق مقولة مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي الدكتور ، مارتن كروزر ، من أن الفوضى “إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات، فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به”.

إن واحدة من إفرازات “الفوضى الخلاقة” في العراق هي تغذية مشاعر الاحتقان بشكل متكرر لدى أبناء الشعب ، وإذا ما تكلمنا على العراق الذي إعتبرته واشنطن أهم أهدافها ، فقد جعلت واشنطن الحكومات التي توالت على تسلم مسؤولياتها في الوزارات العراقية المتعاقبة منذ إحتلال العراق حتى اليوم ، جعلت منها ، عناوين لصب الشعب العراقي جام غضبه عليها بإعتبارها نماذج لا يمكن السكوت عن فضائحها المالية والسيادية والأمنية ، وهو ما جعل من فرضية تحول الإحتقانات الشعبية إلى إنتفاضات سلمية لكنها تصاعدت حدتها حتى بلغت ذروة صداماتها وخسائرها في إنتفاضة إكتوبر/تشرين الأول 2019م ، وفي جميع مراحل الإنتفاضات والإعتصامات الشعبية ، كانت واشنطن تراقب التطور في هدم أصول العراق الحضارية حتى تقرر التوقيت الزمني المناسب لبناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية التي تريدها الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة مع حسابات تبدو إستراتيجية من أن الشعب الذي شهد عمليات هدم بلاده وكان جزءاً من ديناميكية الهدم سوف لن يقدِم على “مغامرات” جديدة والسماح بتشكل أي نظام “ثوري جديد” في البلاد.

إن عودة موضوعية إلى تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، كوندوليزا رايس، في عام 2005م، الذي قالت فيه “أن أمريكا على مدى ستين عام سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية، ولم تحقق أيا منهما، والآن أمريكا تتبنى نهجا مختلفا؛ إن هناك من يقول أن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة إن العكس هو الصحيح بمعنى أن الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية الأمريكية المنشودة”. وفي تصريح آخر لها لصحيفة “الواشنطن بوست” قالت: ” إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلاقة التي قد تنتج في النهاية وضعا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا”، يدلل على كل ما ذهبنا إليه من حيثيات هذه النظرية والتي وضعت وتم العمل عليها منذ أكثر من سبعين عاماً والتي ربما كانت إحدى وسائل الغرب في تهيئة الظرف الأفضل لضمان أمان وتفوق وأريحية الكيان المغتصب لإرض فلسطين من خلال هدم دول المحيط العربي كما هُدم العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان والسودان مؤخراً ، يضاف لها محاولات خلق أجواء عربية هدامة بشكل غير مسيطر عليه داخلياً كما حدث فيما سُمي بـ “ثورات الربيع العربي” والتي انتهت كلها إلى تفتت دولها وإنحسار نوعية معيشة شعوبها وتراجع نُظم حكمها إلى حدود لا يمكن التكهن بمستقبلها مطلقاً.

إن أسس الأمة العربية الأخلاقية والحضارية والدينية المتسامحة والمتعايشة ، ربما تكون إحدى مُحصِنات هذه الأمة من أن ينجح أعدائها في هدمها بالكامل ، وشهادات التاريخ الذي شكل مركز العالم لقرون عديدة يشهد بذلك، وهو أمر أكده مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيجنيو بريجنسكي ” أن تغيير الشرق الأوسط سيكون مهمة أكثر تعقيدا بكثير من ترميم أوربا بعد الحربين العالميتين، فالترميم الاجتماعي يبقى أسهل من التغيير الاجتماعي، ولذلك لابد من التعامل مع التقاليد الإسلامية، والمعتقدات الدينية، والعادات الثقافية، بصبر واحترام، قبل القول بان آوان الديمقراطية قد آن في الشرق الأوسط”.