الغربة الفلسطينية

لا يزال دكتور ظافر الخطيب يصعد من رمل ، نقله تواً من أرض المخيم إلى العالم .إنه بحلته ، لا بحلة الآخرين.لا يزال الرجل يجانب الساعات العادية ،وهو لا يكتفي بالملاحظة، لأنه أذ يدخل الساحة يدخلها بالبدء من ما فاته من دهشات . دهشة الغاضبين، من توجه عيونهم إلى عينيه وهم يقاومون غضبهم، من ما أنجزه خلال زمن قصير . قصرُ الزمن في الإنجاز ، من الحكمة والحنكة . رجل حكيم ، يتمتع بالحكمة . يحتاج الأمر إلى صعود الدرج على مدى أعوام وأعوام . الصعود عمل، العمل صعود . هذه قاعدته الذهبية وهو يتحدث من زوايا بعيدة من القواعد . إنه يعمل لكي ينمو الكلام ، لكي ينمو الحديث على فراسته. متمرسٌ بالميدانيات ، يقرأ بالعلامات ولا يقصد المقاهي لكي يعمم حضوره فيها إلا لماماً، حيث يرى أن المقاهي تدفع الجالسين فيها إلى ارتداء البيجاما وهم يسمعون قصصاً عن النساء وتهريب الكحول وشهور العسل وغرف الفنادق . المقاهي لا تجعل الحالل فيها يصيب أهدافه ، لأنها تُفرِّغ الطاقات من واقع جمالها وسحرها . لا يقول كما لو أنه شريط كاسيت . ولا يصدق كل مايقال . لأن
د.ظافر الخطيب خلال توقيع كتاب سابق
الكلام ، عنده ، لفظ مفيد يحسن السكوت عليه . الكلام نحوٌ لا صوت . النحو يحكي كل شيء باحتراف بعيد من الهوايات الصغيرة . الحكي جزء من مخطط ، لذا لن ترى بقع الدم على الحيطان ، ما دام الكلام ( كلامه ) يعوم على أهدافه ، كما يعوم ديك المخيم الفلسطيني على ألوانه . ذلك أن ما يقوله الرجل لا يخون . ما يقوله يلون ديوك المخيم الفلسطيني في صيدا ، بحيث يظهر الديك بألوانه كما لو أنه يصارع صبار المساحة والمكان . بعكس الديك الأسود . الأسود لون طرحات العرس في الصين . ولكن المسافة بين المخيم والصين مسافة حقائب وجوازات ، ونهوض من خمر الأفكار إلى وضع الأسطوانة الخاصة على مشغلها . الرجل مشغلٌ في المخيم وخارج المخيم . مشغل في “ناشط ” و” النورس” الثقافي ، “زوادتنا” ، “المكتبة” ، تعليم الأولاد بعيداً من الأدراج والسطوح، بفؤاد حي ، جامع أفئدة من لا يتراءى له في عقله سوى السوء، ليحولها إلى أمداد طيبة . لم أعلم بوجود أحدٍ يشبهه هنا . تأكد الأمر، بعد أن اهتديت إلى مساحة النهار البرتقالي في المخيم ، حين قادني إليه . وبعد أن اهتديت إلى مساحة الليل اللازوردي في المخيم ، حين قادني إليه .
لا توضع اسطوانة على نهارات د. ظافر الخطيب ، إلا لأنه مشغلٌ. لا بأس من لم من هو غائب عن اللحظة بقبول اسطوانته ،على مشغل رجل لا ينهض ليرقص حين ينهي عشاءه . لأنه قفزَ على مرحلة أن يتعلم الرقص من راقصة فرنسية في واحدة من حانات ليون ، أو راقصة المانية في واحدة من حانات برلين . يرقص الرجل حين يسوي أوضاع من يستضيفهم على هم أو إشكال أو يد واطئة . رقصه ، نهوض إلى الآخر . رقصه ، من زيادة انتعاش الآخر ، من تجتاحه الحاجات البينات وحبال من مسد وهو يدري أن الرجل لن يتأخر عنه ، بعد أن تدرب على الحروب الإجتماعية وتساقط انسان الأطفال من ضحك العالم عليهم ومكر الماكرين ، ثعالب اللغة وميثولوجيا الأمل الزائف .
من يقصد المخيم ، يظن أنه يدخل الجحيم. هذه هي الصورة النمطية للمخيم . وهي صورة سوف تدور على نفسها ، قبل أن تسقط ، في زيارة مع أبي نضال في سيارته / القطة . يأخذه من بداياته ، من حاجز البداية ، لأنه إبن البداهة وعدم الخوف . يأخذ المخيم من بداياته ، إذ لا يرى الخوف ضرورياً حين دخول البيت . بيت وسط عزاله ، لن يقوده إلى الخوف من عدوى أن يبدو على غير ما هو عليه .دخول بدون قراءة الآيات البينات أمام العسكري ، الواقف في كوة جداره وهو لا يتقصد الإلتفات إلى الأخطاء وحدها . لاجحيم ولا سحر أسود في مخيم عين الحلوة ، حيث يظن الظانون أنه ممر ضاج بالجثث . وهذا كلام لا صحة فيه . كلام مراوغ . عند المدخل سحر وعصافير ، حتى أنك لا تتردد بالظن أنك تدخل في واحد من كتب الأطفال ، من يسعى خلفها هذا الرجل ليكمل مكتبة ناقصة . عنده النقصان تعثر . وهو لا يريد للأطفال أن يتعثروا بما تعثر به من نقع التاريخ في لغن الخل . لا ينتمي إلى فئة الرثائين وهو يقودك إلى تبين أن المخيم ، لا مساحة للأجساد المقتولة بقلة الأمل ولا باستنشاق هواء سوف يموت من يستنشقه بالسرطان بالحد الأدنى . دخان المخيم من الأعمال الجارية فيه ، لا من دخان سكائره هو المدخن الشره . صديق فيكتور هيغو وهنري ميلر في التدخين . صديق أمه على الأرجح . المدهش ، أن مفاصل دخانه تتآخى وهي تصعد كما يصعد صرير الأبواب ، كما يريد للفلسطيني واللبناني أن يرتفعا إلى التآخي الحقيقي لا اللفظي . إنه داخل دائرته الدائرة ، لأن الدائرة أمه وأخوه وأخته وآخر لا يعرفه بعد . لأن الدوران في الدائرة يولد الإيقاع ، ما نفتقده مع عظام من هم آيلون إلى الغياب . موقنٌ أن الحب دافعه إلى ذلك ، يتدبر أمره فيه ، لأنه يتدبر أموره بالحب . هكذا ، لا يرى في البرد سحراً أسود ولا في التذكر وحده طرفاً واسعاً .لأنه لا يتعثر بجيوبه حين تدور خيولها في مضامير الآخرين .
ولأنه لا يخاف السحر الأسود ، يقف على ما يقوله مباشرة ، لكي لا يطيل الأمر على أحد . أقواله إضافات . لأنه يرى الكلام بغير الإضافة أمراً مريباً . صديق صورته في واقعه وخياله . ولو أنه يظهر وكأن المصارف سرقت خياله كما سرقت أمواله وأموال الناس ، كملاكمبن وفيين للدوام على الحلبات . صديق صورته ، حتى في مخيلته . بالواقع ، لا بالمخيلة ، ما يدفع إلى العجب والتعجب . ذلك أن من عجيب العادات وغريبها ، أنه يكتب بقلم وبلا قلم. يؤلف بمعول ينظف فيه ما يراه ، من ما هو موزع حول عقل المكان . لا يزال يهوله أن يشاهد المسافة بين اللبناني والفلسطيني ، ما دفعه إلى أن ينزع ألمه، لكي لا يهدي المساحة المنزوعة من الألم إلى فلسطيني أو لبناني يجتمعان على الألم . . ولكي لا يجد أحدهما مرمياً على الأرض. حاول أبو نضال ، ولا يزال ، أن يخفف من حدة المكان على الطرفين . محاولة أبعد من محاولة ناجي العلي الطوباوية في جمع اللبناني والفلسطيني على القصص ، السرد ، من خوفه من أن يبادر أحدهم طالباً الطلاق . إذاك ، أراح نفسه بالكلام على لقاءات حول طاولات الطعام . استشهد ناجي ، وجد جثة تسبح بدمائها وذكرياتها . تقفت الذكريات نفسها برأسه وهو يموت . مات ناجي دون ذلك . مات والآم الصدر تُعَقِّد خفقان فؤاده من عدم اسعافه فكرته بتسهيلاتها ، لا بالأصوات المستحيلة . شجرة برتقال إلى جانب أرزة . الأشجار تموت واقفة ، ردد وهو يسكب دمه على جسده المقتول في لندن . قفز الخطيب ، بلا خطابة ، من فوق الأسوار ليحقق أماني العلي . لأن حبيباً لا يغادر حبيباً. دخول في المحاولة ، دخول بعيد من الطوباوية ، حين مأسس الرجل الصيف والشتاء . وحين مأسس السفرات اللاحقة إلى المستقبل . لا يتذكر أنه حش الأعشاب الضارة ، لكي يزور من يبتغي زيارة ما تبقى له من حياة ، ما تبقى له من أمل ، متى شاء واستطاع . أن يزور سبب خروجه من الحياة ليعيدها إليه، بيدين من حجر وزعتر . أو بيدين من نشيد . ذلك أن الهوية، شجرة التفاح المهملة في لبنان ، كشجرة الزيتون في فلسطين . إذا لم تجد من يحميها، يُرى من استوطنوا فلسطين حولها وكأنهم أولاد آوى ، جاءوا من الجنس وسط البخار وحرارته إلى ما يمنح اللحظة صخبها الفارغ . وعيٌ في الرأس والحلق والعينين .هكذا ، بقي يرى الصراع في عنان السماء. سماء بلاده البعيدة ، وهو في كوشتها :مخيم عين الحلوة . لن يخضع لفكرة حق الضيافة لملايين المستوطنين ، ترعاهم حكومة شرسة ، لا هم لها سوى تجفيف العلامات الفلسطينية أو نفيها . وحين لم يجد قادة المرحلة كملائكة تنقلُ وحي الله ، قدم مؤلفه الأول( العقل الفلسطيني ) حول إخفاق هذا المناضل ، البطل . الآن ، وبعد أن أدرك أن الحال لم تتحسن ، خرج كتابه الآخر” الغربة الفلسطينية” بعيداً من زغاريد النساء وطياح الشبان في حلقات الدبكة . طازجٌ بين يديه ، لا يريد للفلسطيني أن يضحي اشلاء ولا أن تتبعثر جثته تحته، ولا أن يتعثر بها .إنه يشعر بوجوده من أعلى إلى أعلى ، ويريد للآخرين أن يشعروا أنهم موجودون ، وأنهم لم يفقدوا الشعور بالوجود من أعلى إلى أعلى . هذا حق الجميع عنده . كما هي القيلولة و العمل والحذر أمام الكلام على سمو العودة، لا لزاجتها. لأن ثمة من حولها إلى كلام لزج . ثمة واجبات قبل اللحاق بالعرس المشاهد من النوافذ القديمة . هكذا ، يفرد كتابه الجديد طاولة ، يفرد عليها ساعات واسعة من التفكر ، لكي يذكر بالرحلات المحشودة بالأعطاب ، لكي يذكر بعجائزها، من وقفوا يلوحون للسيارات العابرة بوجوه ركابها الصفر ، حتى تقلهم إلى فلسطين . تذكر ضد النسيان . النسيان إلغاء على إلغاء . سوف يندم من يعملون على إعلاء النسيان كدواء لمعضلة الهجرة . لن يندم الخطيب ، لأن السعادة عنده ليست في النسيان . ولأنه صاحب حنجرة لا تتعب وهي تذكر بالأمر .
بمؤلفه الثاني يؤكد أنه لا يزال يملك في عينيه وفي ثغره كلام كالنبات . لا يزال يملك في عروقه النبض ، لكي يقوم الفلسطيني بلا خجل ، لكي يقوم واثقاً من نفسه . يضع الجمل في سياقاتها المختلف ، لكي يتحقق الأمر . لن يدور على نفسه ، لكي يقترح ذاكرة للقراءة . هذا كلام لا يخدر . هذا كلام يرتد على الكلاميين والمتكلمين ونظَّار متاحف الكلام الدارجة، موجِهاً لا إلى يوم الحنة ، موجهاً إلى التوقع الحقيقي . كلام يسافر ، كلام لا يقتل نفسه بالكلام المجاني ، وهو يشير ويسعى إلى قطف الفاكهة المعلقة على الصدور .
اليقظة وعدم العودة إلى النوم ، يقترح في علاجه ذاكرة للقراءة .أن يُعجن العقد بالقراءة. أن تساهم القراءة بإعادة الروح إلى الوعي ، وعي من لا يرتاح للزواج من إمرأة لا يعرفها . وعي من لا يقول ، هذه زوجتي في اللقاء الأول بالفتاة الأولى .القراءة دروس الفلسطيني الحرة بالتربية لا التعليم . لأن التعليم دائرة والتربية مجال حر ، يوقف المواطن عن جر أيامه كيفما اتفق . بلا قراءة لا معرفة . بلا معرفة سوف تبقى الحياة كيساً ، يتعجب من في داخله من صلابته ، بحيث لا يستطيع القفز منه إلى العالم .القراءة كعملية تفكيرية تشتمل القدرة على فك الرموز ، للوصول إلى المعاني المرجوة . وتُعرَّف القراءة بأنها عملية سابقة . لأن القراءة من قرأ. ثم أن السابق يقود إلى اللاحق ، بعمليات إصلاح يفترض إنها واضحة ، واسعة .
البدايات هي الأصعب . الجوهر في الصعب . لا شيء تفضيلي، على الرغم من صعوبة البداية ، سوى البداية عند دكتور خطيب ، من لا يشبه نفسه بنفسه حين يؤلف . ذلك أنه كريم في الحياة ، يمضي في قص الحكايات ، حكايات لا تستخف بالعقل، وهو يَجِّدُ في تأمين حياة الأخوة والأخوات ، الرفاق والرفيقات ، الزملاء والزميلات، وعموم المواطنين في لبنان لا المهجر . يدٌ سخية ، يده سخية . كريم بالحياة، يتحرك فيها كما يتحرك رجل خارق في مدار كوكب،حين أنه ضنين بالحروف . لا بل يمارس نوعاً مدهشاً من الإنصباط بالتأليف . يوغا . أو فن الزن . يصفن طويلاً ويدون قليلاً . لكل كلمة موقعها ، لكل جملة معناها . لا اضطراد ، لا اسهاب ، لا اضطراب ، لا تفخيم ولا تضخيم . كلام يُصنع من التجربة. سلوك يشفي العليل ، بفائدة لمن لا يخشى الإقدام على التساؤل ، من بمقدوره أن يلحق أثر الكلام وأن يحوله إلى عكسه .
ضبط الكلام عنده ضبط للمعنى . كلام لا كلم . الكلام هو اللفظ المفيد .لذا، يسلم نفسه للقراءة . لأنه يعرف أن من يريد أن يؤلف لا بد أن يقرأ . قراءة ، ثم تأليف . ثم قراءة بعد التأليف . لأنها تحفز العقل ، تعزز المهارات بعد اكتساب المعرفة . المعرفةُ وعيٌ . الوعي ، الوعي . الوعي دوماً ، مستذكر من مستذكراته . ظافر الخطيب حَمَّال وعي . استثارة الوعي أول الطريق . لا يريد الغرق بما غرق به الآخرون . الغرق بالكلاملوجيا. اخفاق كإخفاق الموسيقي من عدم قدرته على تأليف موسيقى لا تنقص وهي تُسمع . لا وجود بلا وعي . هذا جنين نساء فلسطين ، هذا أول ما تلده النساء ، ما تلده العقول بعيداً من الحانات والمقاهي والملاهي . كريم مرة أخرى حين يؤمن بالمعادلات المصابة بتواريخ المناضلين لا جرثومة المداحين ، بشرط وجود المعرفة في درج الخزانة الأول . حيث أن المعرفة هي القاعدة الأولى من قواعد المواجهة في الحياة .هذه عقيدته . يفسرها بالكلام على أن الأشياء لا تنوجد ، إلاحين تراها أو تسميها . وهي لا تسمى بلا كلمات . لن يحرقه الإنتطار ، ما دام الكلام يزوره كما هو يزور الكلام .
عنده الأشياء حصيلة الكلمات . لن يسير الأمر على هذا النحو ، إلا بعيداً من التأويل . القضايا واضحة وصريحة في معاجمه . سوف يحكم على نفسه بأن يبقى نصفاً أو ربعاً،من لا يقرأ. وإذ تكلم في ” العقل الفلسطيني ” مع عجائز الطبقات العليا أو القيادات المرهولة ، يتكلم في ” الغربة الفلسطينية ” بطموح مكاشفة الجميع بأن الإنغماس في المهمات النضالية وتحريم المهمات الأخرى ، منها مهمات عقلية وأخرى عاطفية ، اقصاء للوصايا التسع من الوصايا العشر .الأخرى ذات الأهمية في الحياة . لا يستنكر شيئاً وهو يسأل، كيف تناضل إذا لم تنوجد على الأرض . وللوجود على الأرض شروط ، أولها امتلاك عناصر القوة الفعلية أو القوة الأخرى ، بالخروج على نمطية الأساليب والسياسات ، أو الرؤى القاصرة . رؤى أكدت قصورها في توالي الهزائم ،حيث لم تسر الأمور على نحو معقول أو طيب ، منذ خروج منظمة التحرير من بيروت ، ثم الوقوع في ظلام أزقة اتفاق أوسلو .
لا نهاية مطاف لدى هذا الرجل الهادئ. لا نهاية ،إذ انغمس في البحث عن البدايات .لأنه يدري أنها فن نطمح إليه ولا نجده.لن نكب على وسط بدون بداية. لن نكب على جعل البشر يوسعون حيواتهم بلا بدايات . إنه يحاكي الحياة بدون أن يستنكر استحالات الآخرين في القيادة وفي من لا يجيدون سوى النقصان . هو ضد ألعاب المرايا المتبدلة ، لأنه ابن واقع ، لأنه معرفي . وكل معرفي في هذا الشرق ملعون . لن يخاف من اللعنة هذه . وهذه واحدة من مدهشاته . ثم أنه لا يعيش في التناقض ولا في الرضا عن النفس ولا في عبادة الأوثان ، إذ يؤلف كما لو أن القيامة باليوم الآخر ، وأن الحياة باليوم الآخر .
قيامته الأولى من طبيعته البشرية ، حيث انضم إلى الجبهة الشعبية ، لا لكي يظهر من صناع اكتمالها . لأنها الأقرب إلى تجميع الكفاءات البعيدة من النقائص والعيوب . جذريون . ولأنه جذري لا ينتظر إن يُذَكِّره أحد بأن ثمة اسرائيليين نبهوا إلى أن اسرائيل تنزلق نحو الفاشية ، من اتساع قاعدة اليمين في دولة الاحتلال . يعرف أن ابراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق ، اشار إلى جنوح متعاظم لدى المجتمع الإسرائيلي نحو الفاشية . كما أشار عالم الاجتماع باروخ كميرلينغ ويهوشوا ليبوفيتز والصحفي جدعون ليفي . لا تهمه إشاراتهم لأنه الأدرى بأن الكيان أسس على الروح الفاشية والعصابات الفاشية . وأن الكلام على جنوح حالي ، هو نفي للجنوح الأول . الاحتلال فاشي ، فكرة الاحتلال فاشية . ثم أنه لا يزال يقول أن اسرائيل يحكمها مائير كاهانا وهو في قبره ، كما جاء في عمود لناحوم بارنيا ، أحد كتاب الأعمدة في يدعوت أحرونوت ذات النزوع اليميني . الجنوح إلى الفاشية في اسرائيل حتمي ، على التغيرات الديموغرافية بفعل هجرة اليهود الروس . ثم من التداعيات الإقتصادية / الإجتماعية والسياسية للتوجهات العامة. التوجهات النيوليبرالية المعتمدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي . الأساس في عمليات الإستيطان الوحشي كسياسة رسمية للحكومة الحالية ، بمشاركة مباشرة من قطعان المستوطنين .يختصر د. خطيب الصراع في الداخل الفلسطيني ، بالصراع بين المقاوم والمستوطن . يختصره بالبساطة لا بالتبسيط. كلهم مستوطنون ، في مختلف المؤسسات والإسلاك، لا فقط من جاء بدعوات فاضحة من الحكومات المتتالية . وهي حكومات لا تجعل الواحدة منها تهرب من الأخرى. وضوح في الرؤية . تصويره الواقع إذن ، من الواقع نفسه . ذلك أن ظافر الخطيب متواضع لا يحس بالإمتياز ، لأنه لا يتواضع . المتواضع لا يتواضع . يعيش في المتناقضات الأزلية على الساحة الفلسطينية . وهو جدي إلى حد التردد في النشر . لا يظهر متحرراً هنا . لأنه يرى في الكتابة مغامرة شخصية تقود الشخصي إلى التصنيف العام . أحد أبرز كتاب الفكر السياسي الفلسطينيين على الساحة اللبنانية، يفقد شراهة التأليف حين يقف على مفارقات العالم . استوجب الأمر ، أمر أن يتبع نفسه حتى يجدها في مؤلفه الثاني ، التحفيز ، الترميز ، انكشاف الأمور على مداها . بعدها الكلام على حرفته ، حاجته ، حاجة الآخر لما يفعل . لأن الساح الفكري سقط مذ احتله المُعتَّدون بأنفسهم ، من يعيشون في روايات كافكا ، ثم لا يلبثون أن يتحولوا إلى حشرات تنمو بطرق تدريجية . “المسخ” هي الرواية وهم المسوخ . لن ينسى أحد رواية المسخ، لأنها رواية لا تبعد سوى مسافة أقدام عن الواقع العربي . ثم أن الرجل يحلم بترتيب الأشياء بعيداً من النظام . أي نظام . يرتب الأشياء على نيران هادئة . لذلك يبذل الجهد من أجل الوصول إلى هذا الحد ، من استدراجه نفسه من خوضه الحروب الشرسة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، إلى خوضه الحروب الشرسة لكي يحرر نفسه من ما لم تخلفه الجبهة من كؤوس النبيذ ، بعد سنوات طويلة من الإستمتاع بإقلاق العدو وكيانه . جهد الرجل ليؤسس كلامه المغاير وجمعياته المغايرة ، البعيدة من التشابه والتطبيع الذاتي . لأن في التطبيع ،السير بالطريق الواحد كمحصلة لكل الطرقات . عنده ، في ذلك إهانة . لا يهاب من يهاب سوى الفاتحين . الفتح في اتاحة الفرص لا قراءة الفاتحة . الفتح في الاختلاف لا في الخلاف ، في الفهم لا في الشائعة .
ألا ترى كيف تهزأ الأحداث منا ، قال حين استعجلته ارسال مخطوطته . ثمة متغيرات في العالم ، كل يوم ، إذا قرأت في سطورها سوف تمسك يدك اليمنى بيدك اليسرى إلى المنزل ، لكي تموت بدون ندم . لم أتردد في تذكيره بأن ما يفعله لأجل الحياة اللاحقة . وأن الكتابة تفتح العينين على المستقبل . أن تستعد لكي تواجه . أن تستمر بالمواجهة .
متعب أن ترمي السيجارة قبل أن تكملها . وأن لا تنتبه إلى الفجر الأحمر . لأن على البحارة أن يحذروا إذا ما طالعهم فجر أحمر . مثل روسي قديم . الفجر أحمر اليوم . هو على طاولة التأليف ، حذر مع الفجر الأحمر ، حيث يدري بأن العبور الواثق ليس عبور اللون إلى اللون الآخر . العبور من الأعصاب المشدودة إلى أقواس الدقة .
لايزال يؤلف على طاولة واحدة ، على الورق نفسه . يؤلف جدلية النفس مع الروح ، تجهيزاً للجدال على حرارة أفران العالم . جدال فكري ، يتقدم نحو نفسه في الطريق إلى عقول الآخرين . جدال مفقود على الساحة الفلسطينية ، مذ صدئ حين خرج المأمور على الأمر ليطوعه في صالح القائد . مفكرون ما عادوا فكروا بكلماتهم وهي في صناديقها، يرونها على الأرصفة بدون دلالين . يرونها هكذا ، بعد أن وجدوا العيش مستحيلاً في الديالكتيك . خسارة في عولمة فاضحة ، قاتلة ، لا تصلح سوى للقسوة على الفقراء والضعفاء ، من يراهم العالم كشيء فات .
يمتك د. ظافر الخطيب ماضيه . ومن يمتلك ماضيه ، يمتلك مستقبله . لا أناني بدون حلفان . نقدي ، يأخذ على الفلسطينيين دفاعهم الدائم لا هجومهم . يدعوهم إلى الهجوم . من يدافع لا ينتصر . قد يكسب ولكنه لن ينتصر. وهو يأخذ بخفر ، يأخذ على ناسه إطاعة السياسين أنفسهم. كما يأخذ عليهم صلواتهم من أجل استسقاء المطر على أرواحهم الميتة ، على الرغم من انكشاف تنكرهم وراء الأقنعة النحيفة ، السكرانة بسعة الخيال . اليافطات هي نفسها ، الاعتداءات هي نفسها ، مرمانا هو نفسه . المرمى فلسطين ، وهذه من البديهيات الأكثر شيوعاً . ولكن كيف ؟ يطرح د. خطيب في مؤلفه هذا السؤال في حبكة سردية غير متخيلة . لأن المتخيل يبقى محدوداً أمام ما يجري على الأرض. نقدي ، واقعي ، لا يهوم. إنه يقرأ الأحداث باستباق الأحداث . وهذه لا تمت للواقعيين . ولكنه واقعي ، لأنه يجد في التكتيك مدوخاً وفي الإستراتيجيات فرادة أن ترسم ملامح اسطورتك بأدواتك لا بأدوات الآخرين . ترقية القدرات والمهارات شرط ، لا موجز فقط . لأن رواية القصة نفسها بالأدوات نفسها ، سوف يحول الرواية إلى رواية رديئة. ولو أن تروي يفيد بالحد الأدنى . الرواية بالطريقة نفسها تصح على الكتب في المكتبات . هناك القراءة ، قرين الكتاب . لن يتلذذ أحد بالرتابة . لذا ، خلق الله العالم في سبعة أيام ، ترعرع كل يوم على نفسه وهو يدور على صحيح الله . خلق العالم أوديسة . هذه قضية تحتاج إلى فتح العقول إلى أقصاها . وهذه من أصول الخطيب الحميمة ، وهو يسأل نفسه ماذا سأكتب ، كيف سأكتب ، لمن سأكتب . إنه يخاطب الآن، أعداداً لا نهائية . بعد أن خاطب الجالسين على المصاطب الرخامية في “العقل الفليسطيني “. المحدد ، في المؤلف الأول. ثم اللامحدود في المؤلف الثاني . من الكلام من سطحه العالي إلى الكلام من عصر القلق الجديد . القلق الشامل . ذلك أن الكفاح من أجل العدالة ، أمر ممكن . ولو في عصر مجرمي الأسلحة والإقتصاد وأوباش العالم الإلكتروني .
لن يقاتل سوبرمان ولا الرجل الوطوط ولا عصبة الرجال الخارقين مع الفلسطينيين . لن يقاتل أحد معهم سواهم . انتصروا في الجولة الماضية بابتسامات فتيات وسيدات أراضي العام ١٩٤٨ وهم يقتادون إلى المعتقلات من جلادي الإنسانية ، بعد أن حسبهم العالم اسرائيليين قدرهم التحول من الهوية الأم إلى ما يطمئنهم في مساعيهم إلى حيواتهم الهانئة ، المستقرة .ابتسام أقوى من رشقات الصواريخ . إنه ماء الروح يدلق من أجل القدس وفلسطين بعيداً من التوقعات والتحليلات والتنظيرات . أبو نضال يذكر بدريدا وهو يتكلم على التفكيك. ولكنه ليس دريدي. لا يريد كتابة قصة فوق قصة جرى محوها . يريد كتابة نص يختلف مع كل قراءة جديدة ، لأنه نص دعوة إلى التحول . نص لا يريد بقاء الشيء على حاله . لا يحب التشابه لأنه يبعث الراحة في النفوس . وهو يعيش ، بدون مبالغة ، على لوالب الزمن .لأنه لا يرضى بأن يبقى على ما هو عليه الآن ومثلما ولد . ولأنه لا يرغب في زيادة عدد الببغاوات .
عنده أن الماضي لا يعاش من جديد . وأن الأصابع من تقليبها الصفحات نفسها ، التوت وتبقعت ويبست . لا للتكرار يقول ولا يزال ، هو المتحمس لفكرة أن تقتحم الفهود المؤسسات، لكي تشرب ماء قرابينها. وحين تنتهي تُحَدِّث بماء جديد ، بطرق لا حصر لها ولا خصر. لا يريد لكتابه أن يضحي معرضاً موحشاً للأفكار والمظالم . هكذا يتكلم على الحرية والمساهمة في بدء التجهيز أو إكماله، وكسر الرتابة ورفض المحرمات والمقدسات . لذا ، يغلق الأبواب على الأشكال والهيئات والأفكار الهامدة . كتابه رصيف ، رفيع كالنصل . ولكنه ليس دمعه في الهواء وهو يبحث عن الحقائق وسط الحروف . الكلام على المشكلة ونكرانها تخيل عرض ، لا كلام في كتاب مطبوع . إنها موجودة مع ذلك في الكتاب . كالكلام على التنوع والجدل والاختلاف والحوار والمؤسسة والعدالة . ثمة ما يدهش ، كالكلام على تحرك الفلسطيني بدون تقدم وانفاقه بدون ربح .كلام يستفز العقل الإيجابي . ذلك أن كتابه ، كتاب الشجاعة والعقل والأمل . ثمة من يأمل ، هذا شيء قليل الحدوث. شيء لا يتواتر دائماً . احسب أن هذا بداية مشروع تفاعلي حول موضوعة مهمة. لا بل الأهم . لأن فلسطين هي مفتاح كل الحلول ولو حاولت الزمر الصغيرة ادعاء عكس ذلك . ولأنه لا يجد في فلسطين إمرأة كاسرة كما يصورها البعض ، حين يجدها أمه، لا يرتدي زياً مرقطاً لكي يبدو مليئاً بالفداء . ولكنه فدائي ، لا يحلم بشيء سوى بلاده ، الأشبه بالأرق الفائض. ذلك أنه يدري أنه ولد ولم يولد .لن يولد قبل أن يشتم رائحة المارة في الضفة وغزة والقدس وجنين والناصرة ، وهذه أجزاء من السحر الفلسطيني ، أجزاء من فولاذها . يراها على رؤوس الغابات لا في الطوابق السفلى ، حيث أنه مؤمنها الأول ، لا يخشى النوم على خشب ضار حتى يصلها .
لم يولد د. خطيب لكي يزرع الكآبة . هو عكس ذلك . أنه بيدين ، تسلم الواحدة الأخرى اليسر ، حتى يصل الناس . اليسر في التأليف ، كلما سمحت الفكرة . وهي تمشي كثيراً في رأسه . إنها براكين في رأسه ، لمن لا يعرفه . وهي إذ تنوجد تؤكد المعنى ، لا تأكله ، وهي تنافح في مواجهة الأفكار الضارة ، الضريرة . هذا الغريب ، القريب ، يعنون كتابه بالغربة الفلسطينية . الغربة شوك وسكاكين ، لمن يظن أن الإقامة في بلاد بعيدة عن البلاد فائض من المسرات . خاطئ من يظن ذلك . أصيب الخطيب بالربو السياسي ، الإجتماعي ، وهو في غربته . وهي غربة مفرطة بالواقعية ، بحيث تجعل من يصحو على واقعه ينام فوراً. عنده ، حين لا تصلح الحرب ، تصلح السياسة ، سياسة الحديد لا سياسة الرخاء ولا الهلام يغطي المخيمات من لا يفهم بها حتى السيد ماركس ، قدر فهم الفلسطيني لها . ظافر الخطيب يفهم المخيم وهو لا ينزعج من أن يكون أحد أًولاده . لم ينزعج لا كثيراً ولا قليلاً وهو يدور في رأسه بالأفعال والكلام البليغ . هو صاحب لغة ، لا من يوم أمس ، مذ فهم أن الرجاء لا يفيد . لا تفيد سوى البراهين . البرهان يبدأ بالجدل ، بين الطبقات السياسية . لأن أهل السياسة الفلسطينيين في لبنان حولوا سياساتهم إلى سياسة طبقات ، بعد أن تحولوا إلى طبقة تفترض الجدل ولا تجادل، تفترض أن ثمة جراح رقيقة وجراح ثخينة ، تفترض أن الأوامر مفاتيح المنازل في فلسطين.وأن بساتين الزيتون هناك،قطع مقصوصة من كتب الإنشاء.يجادل الخطيب في ” الغربة الفلسطينية “. كتابه الجديد ، ليس مشروع حزن . إنه مشروع قوة وأمل . لا أداور ولا أبالغ ، حين أصدقه ، لا من طيبوبته، من انشغاله بالجمل المخيفة للآخرين ، المزورين بالخصوص.
لا يعمل الرجل على أنصاف الأفكار وأرباعها. ولا يرتدي قميصاً أوسع من صدره . لذلك ، لا يزال يستيقظ على شبه بيت في فلسطين ، يدخله بكامل قواه وعدته ليحوله إلى منزل كامل .
إذا قرأت ” الغربة الفلسطينية ” تأكل ولا تشبع . لأنه كتاب أوكورديون ، كلما اختفى جزء منه بان جزء آخر . هكذا ، لا يغلق على العزف إلا عند انتهاء المقطوعة الموسيقية . فلسطين القطعة الموسيقية ، الخطيب عازفها ، يريد أن يعود إليها طفلاً ولو بطفولة منقحة. إذاك ، يبدأ الربيع ، أوله، وهو قريب ، لأن فلسطين تملك من الأصابع ما يكفي لكي تشير لأولادها بضرورة العودة بعد انتظار ، وإلا بقيت أماً مخذولة . هذا الرجل يمشي اليها كل صباح ومساء . إنه أقرب لكي يصل ، بعيداً من من يرتجلون الفهم ، يرتجلون فقط.